لكل إنسان نفس خلقها الله تعالى له، وجعلها ضمن الخيارات التي يرغب بها هذا الإنسان أو ذاك، فهو يمكن أن يجعل من طاقة نفسه عظيمة، تسمو به عاليا، ويمكن أن يجعل منها في مستوى الحضيض بعد أن ينحدر بها الفجور من الأعالي إلى أسفل السافلين...

(الإنسان هو الذي يختار النفس، بتهيئة المقدّمات، بالأسباب وبالنتائج وبالتأمّل)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

لكل إنسان نفس خلقها الله تعالى له، وجعلها ضمن الخيارات التي يرغب بها هذا الإنسان أو ذاك، فهو يمكن أن يجعل من طاقة نفسه عظيمة، تسمو به عاليا، ويمكن أن يجعل منها في مستوى الحضيض بعد أن ينحدر بها الفجور من الأعالي إلى أسفل السافلين، فالقضية هنا ليست جبرية، أي أن الإنسان باختياره هو يجعل نفسه سامية ويمكن أن يجعلها منحدِرة.

الله تعالى ألهم نفس الإنسان نوعيْن من الطاقة، الأولى التقوى وهي تصطف إلى جانب الخير والتسامي، والثانية حالة الفجور التي تهبط بالإنسان إلى أدنى مستويات الرذيلة، هاتان الحالتان جعلهما الله في نفس الإنسان، وترك له الاختيار، فمنهم من يختار التقوى، ويحصن نفسه بها ويقودها في مسالك وسبل الخير، وهذا هو خياره، لم يجبره أحد عليه، ومنهم من يختار النقيض (الفجور) حيث تتدنّى نفس الإنسان وتجعل من صاحبها في أسوأ الحالات.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في إحدى محاضراته القيمة ضمن سلسلة نبراس المعرفة: بعنوان صناعة النفس:

(النفس طاقة عظيمة، خلقها الله سبحانه وتعالى وجعلها في اختيار الإنسان، وألهم الإنسان فجور هذه النفس وشرّها، وألهم تعالى هذه النفس تقواها وخيرها، وجعل ذلك في اختيار الإنسان. فالإنسان هو الذي يختار التقوى أو الفجور والعياذ بالله. قال الله تعالى في القرآن الحكيم: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).

ماذا يجري لو أن الإنسان اختار التقوى لنفسه، ورفض الفجور؟، فطاقة النفس تحتوي على النقيضين (التوى والفجور) وكلاهما خلقهما الله عند الإنسان وترك له حرية التصرف معهما، هناك من يختار التقوى وهو من الفائزين بسعادة الدارين، وهناك من يختار الفجور وهذا هو الذي يحطم نفسه بنفسه ويكون الخاسر في الدنيا وفي الآخرة في نفس الوقت.

طاقة النفس جبارة وضخمة

فالإنسان الذي يختار التقوى، سوف تصنع له شخصية عظيمة في الدنيا، وتُبنى له سمعة لا ينالها إلا كبار الأنفس والعقول والإرادات، وجميع الناس يعرفون هذا الأمر، فليس هناك إنسان يجهل دور التقوى في بناء شخصية الإنسان، لكن هذا الاختيار يحتاج إلى إرادة قوية وإلى تضحيات جمّة، أولها أن يتجنب المغريات والملذات المحرّمة، لكن هناك من لا يستطيع منع نفسه عن هذه المغريات فتقوده إلى الفجور ومن ثم إلى تحطيم النفس وهُزالها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(إنّ طاقة النفس، هي طاقة جبّارة ضخمة، بل ومن أضخم الطاقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، قد تكون سبباً لإنسان يسمو ويسمو ويسمو، ويؤسّس تاريخاً صالحاً وتاريخاً فضيلاً، وتاريخاً مليئاً بالخير وبالراحة وبكل ما هو سعادة الدنيا والآخرة، بعد مرتبة الأنبياء والأولياء من المعصومين عليهم الصلاة والسلام. وأبو ذر مثال لهذه النفس).

وعندما نبحث في طاقة النفس، فسوف نجد بأنها من أعظم وأضخم الطاقات، فإذا كان خيار الإنسان صائبا لنفسه ومضى نحو التقوى، فالنتائج معروفة وواضحة وهنالك أمثلة في تاريخنا الإسلامي ومن هذه الشخصيات التي اختارت التقوى لنفسها (أبو ذر الغفاري) رضوان الله عليه، هذه الشخصية العصامية العملاقة في التاريخ.

أبو ذر جاء إلى (جبل عامل) في لبنان، ومن هذه المنطقة انطلق في طريق التقوى على الرغم من أن الإمكانات في أدنى مستوياتها كانت غير متوفرة له، لكن التقوى التي أُلهِمت لنفسه جعلته يؤسس تاريخا عظيما من المكرمات، وأخرج آلاف العلماء المتميزين الذين تسببوا في هداية مئات الملايين من البشر.

كل هذا كان نتيجة للتقوى التي اختارها أبو ذر، وألهمها نفسه، وسار في هذا الصعب، وكان سببا في انضمام الملايين إلى الدين وأصبحوا متقين وصالحين ومصلحين وكانوا أيضا سببا بازدياد المؤمنين المهتدين الذين اختاروا التقوى ونبذوا ورفضوا الفجور بشكل قاطع. 

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يقول:

(شخص يكون بسبب هذه النفس مثل أبي ذر، يأتي إلى جبل عامل، ويبقى فيها فترى قليلة، ربما قرابة سنتين فقط، مع انعدام كل الإمكانيات المادية والأمنية له، ومع ذلك، ومع النفس التي ألهمت التقوى، واتخّذت التقوى طريقاً لها، ومن جبل عامل، أسّس أبو ذر تاريخاً حافلاً بالمكرمات. ونتيجة ذلك التاريخ، الألوف من علمائنا الأبرار رضوان الله عليهم، ونتيجة الألوف من العلماء هي هداية الملايين وعشرات ومئات الملايين من الناس).

ولكن هناك من لا يختار التقوى لنفسه، بل يختار الفجور، ولدينا أيضا أمثلة حول هذا الاختيار، ومنهم مثلا معاوية بن أبي سفيان، فهذه الشخصية كانت سببا بامتلاء التاريخ بالفساد والفجور، واختار الظلم ومغريات الدنيا وفضَّلها على التقوى، لهذا كان سببا في نشر الظلم والفساد والفجور بين الملايين من الناس.

الفائزون في الداريْن الدنيا والآخرة

أما هو شخصيا فقد سعى بكل ما يمتلك من قوة وأدوات لتغيير التاريخ من وجهه الأبيض إلى الأسود، بعد أن أسس فجورا تاريخيا تذكره كتب وسجلات التاريخ، وقد غيَّر التاريخ من النصاعة إلى نقيضها، مما مهد الطريق إلى نشر الكثير من المعاصي والانحرافات التي غزت نفوس وعقول الناس، وهذا ما ساعد على انتشار الشر والظلم والفساد والموبقات كلها.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(في المقابل، هذه النفس وجدت في شخص أمثال معاوية بن أبي سفيان، الذي ملأ التاريخ فساداً وظلماً وفجوراً، من يومه وإلى هذا اليوم وما بعده. وأيّة فجور تلك التي كانت نتيجة لنفس معاوية بن أبي سفيان؟! فمعاوية ومن خلال هذه النفس، أسّس فجوراً في التاريخ، فغيّر التاريخ من الأبيض إلى الأسود، ومن الناصع إلى ما أدّى لكثير من الموبقات والآثام).

من هنا فإن الإنسان هو الذي يختار الطريق لنفسه، ويمكنه أن يختار التقوى بعد أن يحضّر ويمهد جيدا لها، فيكون بذلك شبيها بأبي ذر الذي قدم لنا درسا في الصمود أمام مغريات الدنيا، وأيضا ضرب لنا مثلا في الزهد المقرون بالشجاعة المتفردة، لذلك فكل إنسان يختار التقوى لنفسه ويروضها ويجعلها متمسكة بهذه الملَكة، فإنه يسمو عاليا عاليا في الدنيا والآخرة، وهذا هو النجاح الأكبر بالنسبة للإنسان.

أما إذا تصاغر هذا الإنسان وتقزَّم أمام الشهوات، ودعوات الفجور التي تُقدَّم له من المنحرفين، فإنه سوف يشارك أولئك الذين سودوا وجه التاريخ، وجعلوا من شخوصهم أدوات لنشر الخراب والفجور والفساد، ويبقى هذا ملتصقا بهم إلى الأبد، لذا من أهم الخطوات والمهام والأهداف أن يختار كل إنسان التقوى ويرفض نقيضها حتى ينجح في الاختبار الدنيوي الصعب.

لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله على أن: 

(الإنسان هو الذي يختار النفس، بتهيئة المقدّمات، بالأسباب وبالنتائج وبالتأمّل. والإنسان هو الذي، وبيده، يجعل من نفسه، نفساً تستفيد من التقوى، فيسمو ويسمو دنيا وآخرة، أو يجعل من نفسه نفساً تتبع الشهوات والفجور، ويكون مثل أولئك الذين سوّدوا وجه التاريخ، في الماضي وإلى هذا اليوم).

أما بالنسبة للنتائج الكارثة لطاقة النفس السلبية، فهي تقود العالم والناس أجمع إلى المجازر الكبرى، والمشكلة أن هذه الطاقة المدمِّرة تجدها في نفس كل إنسان، لكن هناك من يتجنبها ويقارعها بقوة ويهزمها ويجد في التقوى ملاذا وقوة له، وفي نفس الوقت هناك من يتمسك بها ويرغبها ويميل أو يتمسك بها فيغدو فاجرا ظالما.

أما نتيجته فسوف تكون قاسية ومريرة حتى في حياته، أما في يوم الحساب فسوف يكون حسابه موازيا للتخريب والفجور والفساد الذي نشره بين الناس، من خلا الظلم والانتصار للطغاة الفاسدين الذين سودوا وجه التاريخ والحاضر معا.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(إنّ المجازر الرهيبة في العالم كلّه وفي العالم الإسلامي بالخصوص، والفجائع الغريبة، والقتل الفظيع للأبرياء والنساء والأطفال، هو نتيجة النفس. وهذه النفس موجودة في كل إنسان، فعلى الإنسان أن يجعل نفسه، نفساً خيّرة وتقيّة، ويستفيد منها، حتى ينتفع هو بها، وينتفع بها غيره، اليوم وغداً. وهذا يرجع إلى اختيار الإنسان نفسه).

بالنتيجة يبقى الاختيار متاحا للإنسان وهو وحده يمكن أن يختار لنفسه التقوى وهذا ما أمر به الله تعالى عباده، وفي نفس الوقت يمكنه أن يختار الفجور، وهذا ما منعه الله تعالى على عباده، كونه يحطم النفس وينحدر بها إلى مستنقع السوء والحضيض، بينما لو اختار التقوى فإنه سوف يحصد النتيجة العظمى لموقفه هذا، فيكون مع الصالحين المؤيَّدين الفائزين في الدارين، الدنيا والآخرة.

اضف تعليق