صارت إعادة التوزيع وظيفة للنظام الإقتصادي المعاصر، لكن إمكانات الدولة لمزاولة هذه الوظيفة تتسع مع التطور الإقتصادي. نريد الوقوف على واقع التوزيع النهائي للدخل في عالم اليوم، قدر ما تسمح به البيانات، ثم مناقشة الإرتباط بين التنمية الإقتصادية ومدى إنتفاع الفئات الضعيفة منها بدلالة ما يصيبها من مجموع الدخل...
تشتد الحاجة إلى إعادة النظر بمفاهيم العدالة الإجتماعية بدءاً من الإعتراف بأن الناس يولدون على إختلاف واسع في الإستعدادات والقدرات بما فيها الصحة البدنية والنفسية. ولذا تختلف إمكاناتهم في كسب وسائل العيش بالعمل والإنتفاع من الموارد والممتلكات والتسهيلات العامة. وبما أننا شركاء في الطبيعة بما في ذلك الأرض وخيراتها، ونتشارك سويا مخاطر الوجود ونواقص النظام الإجتماعي ومزاياه فلابد أخلاقيا من التكافل العام دون ترك الضعفاء تستبد بهم الأقدار بحجة إحترام المؤهلات وتكافؤ الفرص.
وهذا التوجه ينتظر إعلاء مبدأ المساواتية والأخوة الطبيعية وفضح ثقافة المغالبة والنزاع بين البشر؛ والنقد المباشر لمن يكدحون في الليل والنهار لإثبات أن التسابق والإستئثار والحرب بين الناس حتمية، ما دام نظام الإقتصاد في العالم لم يتغير جذريا ليكون كما يتخيلون. والكف عن ترويج أطروحات لتمجيد الأنانية وتبرير المكاسب الإستثنائية بالمواهب والكفاح وما إلى ذلك من ألوان الشماتة بالضعفاء والبسطاء.
يتولد الدخل من عمليات إنتاج السلع والخدمات ويتوزع بين عائد العمل، أي تعويضات المشتغلين، والفائض، وهو التوزيع الأولي او الوظيفي للدخل؛ والدخل المكتسب في الأنشطة الإنتاجية الصغيرة، مختلط من عائد ضمني للعمل وفائض، لا يخرج عن هذا التوصيف. لكن مستويات المعيشة لا يُعيّنها التوزيع الأولي للدخل فقط، بل لنظام الضرائب والإعانات دور كبير في رسم الصورة النهائية للتقارب أو التفاوت في مستويات الدخل الأسَرِي القابل للتصرف والإستهلاك.
وصارت إعادة التوزيع وظيفة للنظام الإقتصادي المعاصر، لكن إمكانات الدولة لمزاولة هذه الوظيفة تتسع مع التطور الإقتصادي. نريد الوقوف على واقع التوزيع النهائي للدخل في عالم اليوم، قدر ما تسمح به البيانات، ثم مناقشة الإرتباط بين التنمية الإقتصادية ومدى إنتفاع الفئات الضعيفة منها بدلالة ما يصيبها من مجموع الدخل.
توزيع الدخل أو الإستهلاك الأسَرِي
البيانات التي عالجناها لدخل الأسرة القابل للتصرف به، أي بعد إضافة الإعانات وطرح الضرائب، ولا يشمل دخل قطاع الأعمال عدا الأرباح الموزعة عن الأسهم التي تصل للأسرة وفوائد الودائع في المصارف أو السندات وما إليها، ويتضمن الإيجار الضمني للمسكن المملوك. أحيانا عندما يتعذر الوصول إلى الدخل القابل للتصرف يكون الإستهلاك الأسري بديلا تقريبيا عنه. والمصدر الآخر للرفاه وتباينه يتمثل في الإنتفاع من البنى التحتية والخدمات العامة مثل التعليم والصحة والعناية بالمدن والقرى... وغيرها وهذا لا تتسع له البيانات المعالجة في هذه الورقة.
ثمة تراتبية للتفاوت ادناه في الإستهلاك الأسري، ثم الدخل الأسري القابل للتصرف أي بعد الضريبة والإعانة، وبعده الدخل الأسري المكتسب قبل الضريبة والإعانة، ثم الدخل الشامل قبل الضرائب، أما توزيع الثروة فهو الأشد تفاوتا ومعروف بالتركز، لنقارن مثلا بين أسرة لا تملك مسكنا وفئة أثرياء العالم مثل إيلون ماسك وما بينهما. تقاس الكفاءة الوظيفية للنظام الإقتصادي بمدى إنسجام الدخل المكتسب مع العوائد الإعتيادية للعمل وراس المال. وكلما إبتعد الدخل عن هذا المعيار، نتيجة لمختلف المصادر غير الشرعية وريع الفروقات السعرية والمعاملات الفاسدة مع القطاع العام، وما سواها، تنخفض دوافع العمل المُنتِج والتوظيف الإنتاجي لرأس المال، وينعكس في عدم رضا متزايد عن النظام السياسي. أما المعيار الثاني فهو الكفاءة الإجتماعية للنظام الإقتصادي والتي ترتبط عكسيا مع التفاوت في توزيع الرفاه ونسبة المحرومين والضعفاء الذين لا يُعتَنى بهم ولا يُنصَفون.
ندرس توزيع الدخل، او الإستهلاك الأسري، وجدنا 167 دولة توفرت عنها بيانات لسنة أو اكثر في موقع البنك الدولي للمدة ما بعد عام 2014. متوسط حصة أدنى 10% من السكان دخلا 2.74%؛ والأخيرة الأعلى 10% من السكان دخلا حصتها 28.55%، وبالمتوسط الأعلى يعادل 10.45 مرة بقدر نصيب الأدنى. والوسيط الذي يُقسّم الدول إلى مجموعتين متساويتين في العدد لا يختلف عن الوسط دليل إقتراب التوزيع من النمط الطبيعي الوسيط للفئة الدنيا 2.8%، وللعليا 27.5%. وتوزعت الدول تبعا لحصة الفئة الدنيا من دون الواحد بالمائة إلى قريب 5%. على سبيل الإيضاح: 0.9% جنوب أفريقيا، 1% البرازيل، 1.2% فنزويلا، 1.8% الولايات المتحدة، 2% تركيا؛ 2.2% أسبانيا، 2.3% إيطاليا؛...؛ 2.7% روسيا والمغرب والفلبين؛ 3.2% الصين، 3.3% الهند؛...؛ 3.7% العراق والدانمارك؛ والدول الأقل تفاوتا بين 4.2% و 4.8% سبعة دول، كانت إشتراكية سابقا زمن الحقبة السوفيتية، والباكستان.
معامل جيني: مقياس للتفاوت بين الصفر، المساواة التامة، و100%، التفاوت المطلق؛ ويمكن التعبير عن المعامل بأجزاء الواحد الصحيح لا فرق. يوزع السكان إلى فئات متساوية في نسبتها إلى المجموع متدرجة من أدنى الدخل إلى اعلاه، وإزاء الفئة السكانية حصتها من الدخل؛ ثم تُراكَم الحصص السكانية مقابل تراكُم ما يصيبهم من الدخل. معامل جيني هو نسبة مساحة الفجوة بين خط المساواة التامة ومنحنى التوزيع الفعلي. متوسط المعامل 36.6%، والوسيط 35.1%. يتراوح بين 24.1% إلى 63%. نورد أمثلة لدول مختارة، العراق 29.5% الدولة رقم 31 من الأدنى إلى الأعلى؛ المانيا وبريطانيا 32.4%؛ اليونان واليابان وكوريا الجنوبية 32.9%؛ روسيا 35.1% والصين 35.7%؛ الولايات المتحدة 41.3% والمكسيك 43.5%؛ البرازيل 52% والدولة الأخيرة والأشد تفاوتا حسب البيانات المنشورة جنوب أفريقيا 63%. لا نستطيع تأكيد دقة البيانات عن هذه الدولة أو تلك لكنها إجمالا ومهما كانت نسبة الخطأ تكشف النمط السائد في العالم.
التفاوت يشمل أكثر من نصف السكان، ولا يقتصر على إستئثار الفئات العليا بجزء من دخل الفئات الدنيا بل يطال الفئات الوسطى ايضا. نستعين بمعامل الإرتباط، الطردي بين الصفر والواحد الصحيح والعكسي بين الصفر وسالب واحد، للتعرف على علاقة شدة التفاوت بحصة كل من الفئتين أدنى 10% وأعلى 10% دخلا؛ كان الإرتباط عكسيا سالبا بمقدار 0.88 بين حصة الفئة الدنيا والمقياس العام للتفاوت؛ وموجبا بمقدار 0.97 مع حصة الفئة، العليا أي أن حصة الفئة العليا من الدخل مقارنة بحصتها من السكان تكفي للدلالة على مدى الإبتعاد عن المساواة.
مدى إنتفاع الضعفاء من النمو الإقتصادي
هو تساؤل وأحيانا تشكيك بأن نمو الناتج، الدخل الوطني، في الدول النامية يذهب إلى الأقوياء والأثرياء والفئات المتوسطة دون العمال والفلاحين وبقية الفئات الضعيفة سياسيا. بيد أن دراسة الوقائع تبين العكس فالنمو الإقتصادي ينفع الجميع وهو ضروري لتحسين أوضاع الفئات واطئة الدخل. بعدما نُشِرَت بيانات عن دخل وإنفاق الأسرة للدول النامية خلال خمسينات وستينات القرن اللعشرين كشفت عن علاقة بين متوسط الدخل للفرد وحصة الفئة الدنيا من الدخل أقرب ما يكون لحرف U. فالنمو الإقتصادي في المراحل الأولى يقترن بإنخفاض حصة الفئات الدنيا من الدخل وبعد تجاوز عتبة ليست بعيدة في مستويات متوسط الدخل للفرد، تتحول العلاقة إلى العكس.
فالمضمون ليس إنخفاض دخل العمال اليديويين وأصحاب المشاغل الصغيرة والفلاحين... بل أن أجورهم ومكاسبهم الأخرى تنمو يوتيرة أدنى من معدل النمو العام في البداية فتنخفض حصتهم من مجموع الدخل. ومع ذلك وجدت الكثير من الإنحرافات عن هذا النمط بحيث يبقى الإتجاه العام تحسن التوزيع مع التطور الإقتصادي. من هذه البيانات التي نعالجها الآن نلاحظ: وجود إرتباط عكسي ضعيف لا يعتد به، سالب 0.02، بين حصة أدنى 10% من الدخل وتزايد متوسط الدخل للفرد في مجموعة الدول التي دون الحد الأعلى للفئة متوسطة الدخل بمسافة، دون 10 الآف دولار متوسط الدخل للفرد؛ اما بعدها فالإرتباط موجب 0.35، ونذكّر ان المقصود هنا الحصة النسبية دون المستوى المطلق للدخل.
النمو الإقتصادي ينفع الفقراء وذوي الدخل المنخفض
الآن نأتي إلى الأهم للنظر في الإرتباط بين دخل الفئات الدنيا والنمو الإقتصادي، وهو تصاعد متوسط الدخل للفرد، وجدناه موجبا عاليا 0.86 للدول في المجموعة الأولى التي متوسط الدخل للفرد فيها دون 10 آلاف دولار. وللدول الأعلى في مستوى التطور كان الإرتباط 0.97. نستنتج أن التفاؤل بالنمو الإقتصادي من جهة تحسين اوضاع معيشة الضعفاء وارد وأكيد. ولذا فإن تنشيط الدعوة إلى إلتزام التنمية الإقتصادية هو الأفضل وليس التحفظ عليها في الدول النامية وإشاعة بديل " التنمية المستدامة" الذي يصرف الوعي عن أهمية النمو الإقتصادي بإثارة الصخب حول البيئة والتلوث و...كثير من العقبات؛ أو أنها "كومبرادورية" أو " كلبتوقراطية"... وهكذا. قد يضعف البصر ويشتد الغبار أو الضباب ومع ذلك نحاول مشاهدة الوقائع أفضل من الإنغماس في عوالم متخيلة، أو أطروحات جذّابة في لغة إلتزامها مصالح الضعفاء أو الحفاظ على الطبيعة لكنها تُكرّس الضعف والفقر في جوهرها.
تجربة الصين
بيّن مسار التنمية الإقتصادية في الصين، أيضا، تكرار نمط حرف U خلال المدة بين بداية النهضة الموسعة 1988 و 2018، كان متوسط معدل النمو السنوي لمتوسط الناتج للفرد 7.9% وهو مرتفع، لاشك في هذا، والذي وصلت به الصين إلى ما أصبحت عليه. خلال تلك المدة نما متوسط الدخل للفرد لفئة السكان 5% الأدنى دخلا سنويا بمعدل 4.9%، لكن النمو 12% لأعلى واحد بالألف من السكان، 0.1%، ولأعلى 1% أزيد من 10% سنويا، و 8.9% لأعلى 5% من السكان، و7% للأسرة الوسيطة. تقدر مساهمة دخل العمل من مجموع دخل الفئة العليا في الصين 90%؛ يفهم من هذه أن إختلاف الأجور بين فئات العاملين مصدر رئيسي للتفاوت، وفي السنين الأخيرة ايضا صار التفاوت في دخل العمل مصدرا رئيسا للإبتعاد عن التكافؤ. لأن معدل النمو مرتفع في الصين تكون فرص إنتفاع فئات الدخل الأدنى عالية رغم التفاوت حتى لو إتسع. وهذا من أسباب التشجيع على النمو الإقتصادي العالي في الدول النامية إذ يمكن تحسين أوضاع المعيشة للجميع.
وهذا لا يعني غياب المآسي في صفوف الضعفاء والوقائع المحزنة، فحكومة الصين لم تكن مهتمة بإعادة توزيع الدخل، وقد لاحظ من إطلع على بيانات الدخل هناك قبل وبعد الضريبة تماثُل التوزيع، لكن زخم التنمية الإقتصادية المرتفع أوصل نتائج زيادة الدخل إلى الجميع وإنْ بمديات مختلفة. وفي تجارب الدول الأخرى في النمو، والحياة اليومية للناس حتى في المجتمعات ذات الدخل المرتفع الذي تجاوز 100 ألف دولار للفرد يوجد من يعاني ويتألم لوحده. سياسات دولة الرفاه في ضمان الحد الأدنى لمستوى المعيشة والضمان الإجتماعي وصور العناية الأخرى كانت مُشرّفة كما في الدول الإسكندنافية وألمانيا وسواها. ومع الأسف تجربة دولة الرفاه واجهت ضغوطا من الليبرالية الجديدة وفي نفس الوقت لم تحصل على الدعم الكافي من القوى الأخرى.
الحجم الإقتصادي للدولة المعاصرة يُمكّنُها من إعادة التوزيع وإشاعة العدالة الإجتماعية
ننظر في الحجم النسبي لإنفاق الحكومة العامة في الإقتصاد لنستدل على إمكانية تأثيرها في العدالة الإجتماعية. تشمل الحكومة العامة المستوى المركزي او الفدرالي، والولايات او الأقاليم، ثم الحكم المحلي. نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي مقياس موضوعي لحجمها الإقتصادي النسبي. حكومات الدول المتقدمة حاليا، أغلبها، ما كانت تستطيع التصرف بأكثر من 10% من الناتج الوطني بداية القرن العشرين. بينما وصل متوسط نسبة الإنفاق الحكومي لهذه المجموعة 40.6% من الناتج المحلي عام 2024، فهل يجوز القول هذه حكومة لا تستطيع إقامة العدل الإجتماعي وضمان معيشة طيبة بالحد الأدنى لكل الناس، لأن النظام الإقتصادي يقوم على الملكية الخاصة والسوق!. وفي منطقة اليورو بلغت النسبة 49.5%، وكانت 53.7% في عام 2020 عندما إحتاجت لذلك في ظروف الوباء. في عام 2024 وصلت النسبة 57.2% في فرنسا. هذه حكومات قوية تستند إلى مؤسسات عالية السيطرة والتحكم في تفاصيل الإقتصاد لكن بوسائل ناعمة.
في الدول الناهضة ومتوسطة الدخل إمكانية الحكومة أقل من نظيرتها المتقدمة لكنها ايضا عالية وكافية وفارقت جذريا ما كانت عليه حكومات الدول النامية في ثمانينات القرن الماضي وما قبلها. عام 2024 متوسط الإنفاق الحكومي إلى الناتج لهذه المجموعة 32.6%، وفي أوربا وامريكا اللاتينية 39.2%، و 34.5%. في الدول واطئة الدخل لا زالت إمكانية الحكومات محدودة، إنفاقها بالمتوسط 19.1% من الناتج. ومع ذلك لا يعني عجزها عن جميع مهام العدالة الإجتماعية، على الأقل في الغذاء ولو بالحد الأدنى والدواء.
العدالة الإجتماعية تتطلب نظاما ضريبيا نزيها ويعمل بكفاءة فنية معقولة، ونفس المطلب لشبكات الحماية ضد الفقر والضمان الإجتماعي.
اضف تعليق