في ظل اقتصاد عالمي يتسم بترابط متزايد وتقلب مستمر، تقف منظومة المالية العامة في العراق عند مفترق طرق حاسم. ومع تصاعد التعرض للصدمات الخارجية من تقلبات أسعار النفط إلى تحولات ديناميكيات التجارة العالمية بات تعزيز المرونة المالية ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى...

1- تمهيد:

في ظل اقتصاد عالمي يتسم بترابط متزايد وتقلب مستمر، تقف منظومة المالية العامة في العراق عند مفترق طرق حاسم. ومع تصاعد التعرض للصدمات الخارجية — من تقلبات أسعار النفط إلى تحولات ديناميكيات التجارة العالمية — بات تعزيز المرونة المالية ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى. تستكشف هذه الدراسة الأدوات الرئيسية والاستراتيجيات والقدرات المؤسسية للمالية العامة العراقية في التصدي لهذه التحديات. ومن خلال تقييم الإمكانات الحالية والمستقبلية، تسعى الورقة إلى تقديم فهم شامل لكيفية تمكّن العراق من مواجهة الاضطرابات الاقتصادية العالمية، مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام.

2- استناداً لما تقدم تواجه الموازنة العامة الاتحادية المعدلة والتي تم تشريعها لمدة ثلاث سنوات بموجب القانون رقم 13 لسنة 2023 ملامح أزمة مالية- حمائية عالمية مزدوجة “Features of a Dual Global Financial and Protectionist Crisis”، وهي الموازنة التي اخذت بالاعتبار (بشكل ضمني ) حدين مزدوجين A double-edged strategy من حدود الامثلية في الانفاق العام السنوي في بلوغ غاياتها في التنمية المستدامة والاستقرار الاقتصادي . وهما الحد الاعلى للانفاق البالغ 200 ترليون دينار ( دون موازنة تكميلية) وهو الحد الاول وقبول موازنة الحد الادنى الامثل بنحو 156 ترليون دينار للانفاق العام دون ضياع الاهداف التنموية والاجتماعية .

وقد توسط الحدان سعر برميل نفط افتراضي للتحوط وهو 70 دولار للبرميل الواحد من النفط الخام وطاقة تصدير 3,4 مليون برميل لاغراض احتساب عائدات النفط السنوية في موازنة الأعوام الثلاثة ونحن في الفصل الثاني من السنة المالية 2025 .

ويلحظ ان الصرف في الحد الاعلى في الموازنة السنوية ظل يعني ان معدلات اسعار النفط السنوية تتعدى 80 دولار للبرميل الواحد وان العجز الافتراضي او التحوطي البالغ قرابة 64 ترليون يكاد يكون لا يذكر الا قليلا لاحتياجات وقتية وجعل الاقتراض الى الناتج المحلي الاجمالي بنحو معدلاته الطبيعية او بمثابة اقتراضات جسرية ,“Bridge Loans” بنحو 3% من الناتج المحلي الاجمالي .

في حين مثّلت معدلات الانفاق موازنة الحد الادنى في العام 2024، اذ كانت معدل سعر برميل النفط المصدر فعليا بمتوسط هو بنحو 75دولار ما يعني حصول اقتراضات جزئية لم تتعد 20% من ذلكً العجز المخطط او التحوطي البالغ 64 ترليون دينار .

فالسياسة المالية بحدها الادنى كانت حقاً سياسة مثالية الى حد مقبول وعقلاني وغطت الرواتب والاجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية والاستثمارات العامة الخدمية والالتزامات التشغيلية المهمة كافة ومختلف مناحي الدعم سواء الزراعي للمحاصيل وانتهاء بالوقود .اذ مثلت سياسة الحد الادنى في الوقت نفسه (سياسة انضباط مالي تلقائي وهي تجسيد مبسط لتجربة الدخول الاولي في فلسفة التعزيز المالي fiscal consolidation ) من خلال الفحص والتدقيق على النفقات العامة وتنفيذ المشاريع بدقة وانضباطية عاليين وباولوية كبيرة ناجحة في قطاع بناء المدارس والمستشفيات وخدمات الصرف الصحي والمياه بالاضافة الى قطاع الكهرباء (الهاجس الاول للامة ) بقليل من العجز وقليل من الاقتراض وبالتدريج .

وبالوقت نفسه انه سبق للعراق ان واجه ازمتان خلال العقدين الاخيرين قبل ان يواجه اليوم ملامح لازمة مالية -حمائية العالمية المزدوجة ، كانت احدهما (مالية - امنية )تمثلت بالحرب على الارهاب الداعشي وانتصر فيهما وسارت الحياة المالية بتدبير عالي بالرغم من فقدان اسعار النفط قرابة 60% من معدلاتها التحوطية في الموازنة ذلك بين العام 2014-2017

وواجه ازمة مماثلة بين الاعوام 2020-2021 ابان الازمة المالية-الصحية المزدوجة ابان انغلاق الاقتصاد العالمي وانقطاع سلاسل التجهيز في العالم وهبوط اسعار النفط، و استطاع العراق في كلا الازمتين الخروج من عنق الزجاجة في حينهما .

3- ختاماً، يتولى الفريق الاقتصادي للحكومة العراقية في الوقت الحاضر رسم وادارة خريطة طريق في مراقبة تاثير الصدمات الاقتصادية الخارجية سواء في تجنب تاثيرات الحرب التجارية الامريكية التي فرضت من خلال مختلف التعريفات الكمركية على تجارات بلدان العالم او في مواجهة دورة الاصول النفطية المحتملة- “Managing the Potential Volatility Cycle of Oil Assets” وتوجهها نحو الانكماش والهبوط باسعار النفط دون 70 دولار للبرميل وكيفية تجنب حرب الاسعار النفطية- “Avoiding an oil price war حتى داخل مجموعة اوبك +.

اذ تضع الحكومة العراقية اولويات تحصين الرواتب والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية والدعم الحكومي الاجتماعي الذي يشغل 13% من الناتج المحلي الاجمالي في سلم اولوياتها لضمان عيش 8 ملايين من متسلمي الدخل الحكومي النقدي والحقيقي، وهم يتحمّلون في الوقت نفسه مسؤولية رعاية ما يزيد على أربعين مليون مواطن، استناداً إلى قاعدة الرعاية الأسرية مرتب لكل خمسة افراد في الاسرة الواحدة ، التي تشكل جوهر السياسات الاجتماعية في البلاد. 

كما لا يمكن إغفال أن السياستين النقدية والمالية تعمل ضمن دائرة من التشاور المشترك والتنسيق اليومي، وبما يعزز قدرة الاقتصاد الوطني على مواجهة الصدمات الجيو-اقتصادية الخارجية والتكيّف مع متغيرات السوق العالمية ازاء ملامح الازمة الدولية المالية - الحمائية التجارية المزدوجة الراهنة المتمثلة بالقيود التجارية وحرب التعريفات الكمركية من جهة وملامح هبوط أسعار النفط من جهة اخرى انها كيمياء الاقتصاد في تفاعلاتها الشاقة.

اضف تعليق