النمو الاقتصادي هو المحرك الأقوى على الإطلاق للحد من الفقر، وخاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. لكن النمو وحده لا يكفي. ذلك أن تحقيق تقدم ملموس يتطلب تقاسم الفوائد على نطاق واسع، بدعم من تدابير اجتماعية قوية وتحسين القدرة على تحمل التكاليف. في غياب هذه الأسس، سيظل التمكين...
منيابوليس/ميلانو/ميونيخ- في عام 1990، كان أكثر من ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر المدقع (2.15 دولار في اليوم) وفقا للبنك الدولي. منذ ذلك الحين، انخفضت النسبة إلى أقل من 10% ــ وهو إنجاز رائع وملهم. لكنه بالكاد يخدش السطح لأنه أقل كثيرا من أن يلبي تطلعات المحرومين.
لتحقيق هذه الغاية، قدم معهد ماكينزي العالمي مفهوم "خط التمكين". بالبناء على عمل خبراء اقتصاد التنمية، تمثل هذه العتبة الدنيا الدخل المطلوب للوصول إلى الضروريات مثل الغذاء، والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم، والمياه، ووسائل النقل، والطاقة، مع توفير ما يكفي أيضا لتحمل حالات الطوارئ غير المتوقعة.
يشكل الدخل أهمية حيوية للتمكين الاقتصادي، لكن القدرة على تحمل التكاليف مهمة بذات القدر. في حين يختلف الدخل المطلوب لتلبية الاحتياجات الأساسية من بلد إلى آخر، فإن المعيار العالمي هو 12 دولارا للفرد يوميا وفقا لتعادل القوة الشرائية. على الرغم من عقود من التقدم، لا يزال ما يقرب من 80% من الناس في الاقتصادات المنخفضة الدخل، و50% في البلدان المتوسطة الدخل، يقعون تحت هذه العتبة الدنيا. وحتى في أكثر بلدان العالم تقدما، يظل 20% من السكان محرومين اقتصاديا.
يتمثل أحد الأسباب وراء هذه الفجوة المستمرة في التمكين في حقيقة مفادها أن ارتفاع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي لا يترجم دائما إلى فوائد اقتصادية واسعة الانتشار. ذلك أن تكلفة الضروريات الأساسية ــ مثل الإسكان في البلدان المرتفعة الدخل والغذاء في البلدان المنخفضة الدخل ــ ترتفع غالبا بسرعة أكبر من الأجور، ويؤدي هذا فعليا إلى "مزاحمة" مكاسب الدخل وتآكل مستويات المعيشة.
من الممكن أن يلعب خفض تكلفة السلع والخدمات الأساسية دورا حاسما في تعزيز التنمية الشاملة. تشير تقديرات معهد ماكينزي العالمي إلى أن خفض الأسعار في البلدان حيث التكاليف مرتفعة لتتناسب مع الأسعار الأرخص في البلدان ذات مستويات الدخل المتماثلة من شأنه أن يرفع نحو 230 مليون شخص ــ 2.8% من سكان العالم ــ فوق خط التمكين. في البلدان حيث يتراوح دخل الفرد بين 2500 دولار و5000 دولار، على سبيل المثال، تتفاوت تكاليف الغذاء بشدة غالبا، حيث تدفع بعض الأسر أكثر من ضعف ما تدفعه أسر غيرها مقابل الضروريات الأساسية. لن يؤدي تضييق هذه الفجوات إلى تخفيف الضغوط المالية فحسب، بل سيعمل أيضا على تمكين ملايين الأسر من تحقيق الأمن الاقتصادي الدائم.
تساعد الأسواق الفعّالة في الإبقاء على الأسعار تحت السيطرة، في حين تعمل حالات انعدام الكفاءة على رفع التكاليف والحد من القدرة على الوصول إلى السلع والخدمات الأساسية. يؤكد تقرير حديث صادر عن معهد ماكينزي العالمي على الحاجة إلى اضطلاع الحكومات بتحسين القدرة على تحمل التكاليف ويؤكد على فعالية تعزيز المنافسة، على المستويين المحلي والعالمي، من خلال الضوابط التنظيمية والسياسات التجارية.
كما يتمتع القطاع الخاص، الذي يوظف الغالبية العظمى من قوة العمل العالمية، بوضع جيد يسمح له بدعم التمكين الاقتصادي، والأمر ينطوي على ثلاثة أسباب مقنعة تحمل الشركات على القيام بهذا.
بادئ ذي بدء، يعمل القطاع الخاص بالفعل على قيادة التمكين الاقتصادي من خلال خلق فرص عمل عالية الجودة وتسليم السلع والخدمات. وفقا لمعهد ماكينزي العالمي، توجه الشركات الأميركية 4 تريليون دولار سنويا نحو تمكين الموظفين، والموردين، والمجتمعات، في حين تساهم نظيراتها الأوروبية بنحو 2.1 تريليون دولار. على هذا النطاق، من الممكن أن تعمل حتى التحسينات الطفيفة على توليد فوائد ضخمة.
علاوة على ذلك، تواجه الشركات ضغوطا متزايدة تدفعها إلى النظر في تأثيرها الاجتماعي إلى جانب أدائها المالي. تُظهِر الأبحاث أن معالجة التأثيرات الأوسع نطاقا المترتبة على أنشطة الشركات من الممكن أن تساعدها على تعزيز رضا الموظفين، وتحسين ولاء العملاء، وتعزيز الإنتاجية.
أخيرا، من الممكن أن يكشف النهج الموجه نحو التمكين عن فرص سوقية جديدة. في حين لم يدخل سوى عدد قليل من شركات تقديم خدمات الهاتف المحمول إلى المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا أو منطقة جنوب آسيا بهدف تمكين المجتمعات المحلية، فإن نجاحها في ربط صِـغار المزارعين بالأسواق العالمية وتسريع الشمول المالي كان كافيا لتحقيق تلك الغاية. ويتجلى اتجاه مماثل في قطاع التجزئة، حيث أدى نموذج الأعمال المنخفض التكلفة الذي تتبناه متاجر البقالة المخفضة الأسعار إلى جعل الغذاء أقل تكلفة لملايين الأشخاص في مختلف أنحاء العالم.
لفهم الكيفية التي قد تعمل بها الشركات على تعزيز التمكين، قام معهد ماكينزي العالمي بتحليل مبادرات أطلقتها 100 شركة كبرى من مجموعة من الصناعات في مختلف أنحاء العالم. وتشمل هذه الجهود الرعاية الصحية المدعومة، وبرامج التدريب الداخلية لمساعدة الموظفين على التقدم إلى أدوار أعلى أجرا، والأنشطة الخيرية مثل التبرعات لبنوك الطعام والإغاثة من الكوارث. كما تعهد عدد متزايد من الشركات بدفع أجر كاف للمعيشة لموظفيها، مع اتجاه بعضها إلى إلزام مورديها بالقيام بالمثل.
لكن تحديد النهج الأكثر فعالية يظل يشكل تحديا كبيرا. ففي حين تُـعَـد منحنيات تكلفة التخفيض الهامشي أداة مقبولة على نطاق واسع لتقييم كفاءة تكلفة الجهود الرامية إلى الحد من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري، لا يوجد إطار مماثل لتقييم تأثير المبادرات الاجتماعية. لسد هذه الفجوة، طور معهد ماكينزي العالمي مقياسا لـ"تأثير التمكين"، والذي يقيس فوائد مثل هذه البرامج نسبة إلى تكاليفها. وفقا لهذا المقياس، تعني نسبة 1.0 أن كل دولار يُـنفَـق يعود بفائدة تعادل قيمتها دولارا واحدا على الأسر التي تقع تحت عتبة التمكين، في حين تعكس النسبة الأقل قدرا أكبر من كفاءة التكلفة.
باستخدام هذا المقياس، تستطيع الشركات تصميم وتنفيذ برامج اجتماعية أفضل. على سبيل المثال، تشير تقديرات معهد ماكينزي العالمي إلى الشركات والمؤسسات الأميركية، إذا نجحت في تحسين كفاءة التكلفة في تبرعاتها الخيرية ــ التي تبلغ في مجموعها 140 مليار دولار أميركي سنويا ــ بنسبة 10% فقط، فإنها قد تتمكن من رفع خمسة ملايين شخص إضافيين فوق عتبة التمكين الاقتصادي.
وقد تستفيد الشركات من خبراتها لتحديد المجموعات الأكثر عُرضة للوقوع تحت خط التمكين، وتصميم الحلول لمعالجة تحديات محددة، مثل نقص المساكن في ألمانيا، وارتفاع أسعار المواد الغذائية في فيتنام والصين، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. الواقع أن إدراك هذه السياقات المحلية من شأنه أن يساعد الشركات في تطوير مبادرات تتناسب مع مواطن قوتها الأساسية. على سبيل المثال، قد تركز شركة أدوية على توسيع نطاق الوصول إلى الأدوية المنقذة للحياة، في حين قد يستثمر بنك في مشاريع الإسكان الميسر.
لا شك أن النمو الاقتصادي هو المحرك الأقوى على الإطلاق للحد من الفقر، وخاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. لكن النمو وحده لا يكفي. ذلك أن تحقيق تقدم ملموس يتطلب تقاسم الفوائد على نطاق واسع، بدعم من تدابير اجتماعية قوية وتحسين القدرة على تحمل التكاليف. في غياب هذه الأسس، سيظل التمكين الاقتصادي بعيد المنال، وسوف يمنع هذا ملايين الناس من تحقيق كامل إمكاناتهم.
..................................
اضف تعليق