حملة المبادئ يتشبّثون بشتّى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، أفضل الوسائل لجلب القلوب، هو التظلّم وإظهار المظلوميّة فإنّ القلوب تعطف على المظلوم كائناً مَن كان، وتشمئزّ من الظالم كائناً مَن كان. وهذه خطّة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب...

قال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الروم: 38..

هذه الآية كما تراها خطاب من الله عزّ وجل إلى حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) يأمره أن يؤتي ذا القربى حقّه؛ فمَن ذو القربى؟ وما هو حقّه؟

لقد ذكرنا -في آية القربى أو آية المودّة- أنّ المقصود من القربى هم أقرباء الرسول وهم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فيكون المعنى: وأعطِ ذوي قرباك حقوقهم.

رُوي عن أبي سعيد الخدري وغيره: أنّه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً وسلّمه إليها، وهو المروي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما ‌السلام) وهو المشهور بين جميع علماء الشيعة.

وقد ذكر ذلك من علماء السنّة عدد كثير بطرق عديدة، فمنها:

صرَّح في (كنز العمّال) وفي مختصره المطبوع في الهامش من كتاب (المسند) لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة لك فدك.

قال: رواه الحاكم في تاريخه

وفي ص177 من الجزء الرابع من تفسير (الدر المنثور) للسيوطي أنّه أخرج البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ) أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فدكاً.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: وقد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب: أنّه لما نزل قوله تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ) دعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدك.

1- ما هي فدك؟

في القاموس: فدك قرية بخيبر.

وفي المصباح: فدك -بفتحتين- بلدة بينها وبين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وهي ممّا أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله)‌.

وفي معجم البلدان للحموي، باب الفاء والدال: فدك: بالتحريك، وآخره كاف قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) في سنة سبع صلحاً؛ وذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلاّ ثلاث، واشتد بهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك فهو ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)‌.

2- هل كانت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ 

فقد قال تعالى: 

(وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الحشر: 6.

قوله تعالى: (أَفَاءَ اللهُ) أي: ردّ الله ما كان للمشركين على رسوله بتمليك الله إيّاه منهم، أي من اليهود الذين أجلاهم.

(فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) أوجف خيله أي أزعجه في السير، والركاب - هنا - الإبل، والمعنى ما استوليتم على تلك الأموال بخيولكم أي ما ركبتم خيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليها.

(وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ) أي يمكّن الله رسله من عدوّهم من غير قتال، بأن يقذف الرعب في قلوبهم، فجعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء، وليست من قبيل الغنائم التي توزّع على المقاتلين.

(مَّا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ) أي من أموال كفّار أهل القرى (فَلِلَّـهِ) (وَلِلرَّسُولِ) أي جعل تلك الأموال ملكاً لرسوله (وَلِذِي الْقُرْبَىٰ) يعني قرابة النبي (وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) من القربى.

روى الطبرسي عن ابن عباس قال: نزل قوله: (مَّا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ...) في أموال كفّار أهل القرى، وهم بنو قريظة وبنو النضير، وهما بالمدينة وفدك وهي في المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله، يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنّها كلّها له، فقال أُناس: فهلاّ قسَّمها؟ فنزلت الآية.

وقد مر عليك كلام الحموي في معجم البلدان حول فدك أنّها ممّا لم يوجف عليه بخيلٍ ولا ركاب؛ فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

3 – هل دفع الرسول فدكاً إلى ابنته فاطمة الزهراء نِحْلة وعطية في حياته أم لا؟

فقد ذكر المحدّثون في تفسير قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ) إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطماً فدكاً.

وهاك مزيداً من الأدلة حول الموضوع تأكيداً لهذا البحث:

ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة، والشيخ السمهودي في تاريخ المدينة أنّ عمر قال: إنّي أحدّثكم عن هذا الأمر: إنّ الله خصَّ نبيّه في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره فقال: (وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فكانت هذه خالصة لرسول الله... إلى آخره. 

إذاً فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات أنّ فدكاً كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصة، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً بعنوان النِحْلة والعطيّة بأمر الله تعالى حيث أمره بقوله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ).

4 - هل كانت السيدة فاطمة الزهراء تتصرّف في فدك في حياة أبيها الرسول أم لا؟

يستفاد من تصريحات المؤرّخين والمحدّثين أنَّ السيدة فاطمة الزهراء كانت تتصرّف في فدك، وأنَّ فدك كانت في يدها.

فمنها تصريح الإمام أمير المؤمنين بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب الذي أرسله إلى عثمان بن حُنيف وهو عامله على البصرة فإنّه ذكر فيه:... بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحَكَم الله... إلى آخره.

وذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً... إلى آخر كلامه.

ومعنى كلام ابن حجر أنّ فدكاً كانت في يد الزهراء (عليها السلام) من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبو بكر منها.

وقد روى العلاّمة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلمّا دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة - بعد استيلائه على فدك - دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا بنية إنّ الله قد أفاء على أبيك بفدك، واختصَّه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، وإنّه قد كان لأُمّك خديجة على أبيك مهر، وإنّ أباك قد جعلها لك بذلك، وأنحلتكها لك ولولدك بعدك.

قال: فدعا بأديم ودعا بعلي بن أبي طالب فقال: اكتب لفاطمة بفدك نِحْلة من رسول الله.

فشهد على ذلك: علي بن أبي طالب، ومولىً لرسول الله، وأُمّ أيمن.

ولمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستولى أبو بكر على منصّة الحكم ومضت عشرة أيام. واستقام له الأمر بعث إلى فدك مَن أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)‌.

كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّها كانت ذات اليد، أي كانت متصرّفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلاّ بالدليل والبيّنة. كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (البيّنة على المدعي، واليمين على مَن أنكر) وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البيّنة؛ لأنّها ذات اليد.

الوجه الثاني: أنّها كانت تملك فدكاً بالنِحْلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الوجه الثالث: أنّها كانت تستحق فدكاً بالإرث من أبيها الرسول، ولكنّ القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبيّنة، وطالبوها بالشهود على النِحْلة، وأنكروا وراثة الأنبياء.

وكان بإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقّها بكل وجه من هذه الوجوه.

السرُّ في مطالبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بفدك

من الممكن أن يقال: إنّ السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة، وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرّة في طلب حقوقها؟

وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتّع به السيدة فاطمة من علوِّ النفس وسموّ المقام؟

وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز، وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟

وما الدافع بسيّدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكلّف، وتتجشم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها، وهي تعلم أنّ مساعيها تبوء بالفشل وأنّها لا تستطيع التغلّب على الموقف، ولا تتمكّن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟؟

هذه أسئلة يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع.

الجواب: أوّلاً: إنّ السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أرادوا أن يحاربوا عليّاً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون علي فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ‌وسلم حين قالوا: (لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا) المنافقون: 7.

ثانياً: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلاّت بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أنّ نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان بن أبي الحديد.

وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجّة أنّ وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أُخرى سبعين ألف دينار، ولعلّ هذا الاختلاف في واردها بسبب اختلاف السنين.

وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها.

ثالثاً: إنّها كانت تطالب، من وراء المطالبة بفدك، الخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامّة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)‌.

فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت علي بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟

قال: نعم.

قلت: فلمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟

فتبسّم، ثم، قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء؛ لأنّه يكون قد سجّل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود.

رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلابدَّ للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقّه؛ لأنّه حقّه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه؛ وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق.

خامساً: إنّ الإنسان وإن كان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإنّه مع ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة.

أما ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله)‌ -وهو أزهد الزهّاد - كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مرَّ كلامه (صلى الله عليه وآله)‌ حول أموال خديجة.

سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقّه المغصوب، فإنّ الأمر لا يخلو من أحد وجهين:

إمّا أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة.

وإمّا أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنّه مظلوم، وأنّ أمواله غصبت منه.

هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممّن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإنّ المظلوم يعرّفه للأجيال أنّه غير صادق في دعواه.

سابعاً: إنّ حملة المبادئ يتشبّثون بشتّى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك مَن يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك.

ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب، قلوب كافة الطبقات، هو التظلّم وإظهار المظلوميّة فإنّ القلوب تعطف على المظلوم كائناً مَن كان، وتشمئزّ من الظالم كائناً مَن كان.

وهذه خطّة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم.

وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها.

لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتوجّهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)‌ لأجل المطالبة بحقّها.

إنّها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)‌.

كما وأنّها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس، على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار، ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنّها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرّر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدّرات وسيّدة المحجّبات.

كانت هذه النقاط مهمّة جدّاً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيّدة نساء العالمين، وابنة أفصح مَن نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كلّه.

خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجاليّة، منظّمة، منسّقة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزَّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع.

بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذَّة، ومكانتها السامية.

وتُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتّع بها هذه الصدّيقة.

وأمّا الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوّة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لابدَّ من الاستعانة بذهن القارئ.

كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجّة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع، وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهّفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.

جلست السيدة في المكان المـُعدّ لها خلف الستر، ولعلّ دخولها يومذاك كان لأوّل مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)‌.

فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، وأنَّت أنَّة.

إنّني أعجز عن التعبير عن تحليل تلك الأنَّة، ومدى تأثيرها في النفوس.

أنَّة واحدة فقط - بلا كلام - يهيّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء.

أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنة من المعاني؟

ولماذا أجهش الناس بالبكاء؟

وهل الأنَّة الواحدة تُبكي العيون، وتُجري الدموع وتُحرق القلوب؟

هذه ألغازٌ لا أعرف حلّها، ولعلّ غيري يستطيع حلّ هذه الألغاز!!

* مقتطف بتصرف من كتاب: (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد)، لمؤلفه: السيد محمّد كاظم القزويني

اضف تعليق