دعا الاتجاه الليبرالي الجديد في الاقتصاد إلى سيادة غير مشروطة للسوق الحرة والمشاريع الخاصة على الدولة، والسياسة الاجتماعية، وسرعان ما أدى ذلك إلى ظهور سياسات ليبرالية جديدة قلصت دور الدولة في العملية الاقتصادية. ودعم كلٌّ من النظرية والتطبيق الآخر، خصوصًا في البلدان التي تتحدث الإنجليزية؛ أولًا في الولايات...
بقلم: جچيجوش كوودكو

لماذا برز مفهوم ضار وهيمن فترة مؤقتة في نصف العالم، وما الذي يمكن فعله حيال ذلك

حتى في الأوقات الطيبة تؤتي الأفكار التافهة ثمارًا فاسدة.

لولا موجة الليبرالية الجديدة التي اجتاحت العالم خلال الجيل السابق لصار العالم أفضل بكثير، وأكثر تطورًا، وأقل ظلمًا، وفوق هذا، لتفتحت أمامه آفاق مستقبلية واعدة. كيف أمكن لفكر اقتصادي وسياسي يخدم مصلحة قلة قليلة من الناس على حساب غالبيتهم أن يحظى بهذه المكانة وبهذه القوة التفاوضية؟

ثمة قدر كبير من الالتباس في علم الاقتصاد، لأنه على الرغم من التقدم الواضح الذي أُحرز في هذا التخصص على مدى العقود القليلة الماضية، لا يزال هناك خلط وخطأ فيما يتعلق بالمفاهيم والظواهر والعمليات. ففي بعض الأحيان، تستخدم مصطلحات تبادلية للدلالة على نفس الأشياء، أو يستخدم نفس المصطلح للتعبير عن ظواهر وعمليات مختلفة. الدقة في استخدام المصطلحات أمر ضروري لإدارة المناقشات ووضوح وجهات النظر؛ لكن تعقد المفاهيم واختلافها يجعل ذلك أمرًا يصعب تحقيقه في بعض الأحيان.

ما «اقتصاد السوق الاجتماعي» هذا الذي يشير إليه العديد من المؤلفين؟ أو، ما «الليبرالية الجديدة» التي يعتبرها بعضهم مخطئًا الاقتصاد الكلاسيكي (أو الاقتصاد الكلاسيكي الجديد)؟ وعندما يحدث هذا الخلط، يستحيل أن نقتنع بالرأي القائل إن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد نجح في الاختبار وأثبت صحته وصوابه لأن السياسة الاقتصادية القائمة على فرضياته النظرية أثبتت صحتها عمليًّا على مر التاريخ، خصوصًا خلال العقود القليلة الأخيرة.1 وإذا تناولنا الرؤية المنهجية والعلمية الصائبة التي توجب التمييز بين الاقتصاد الكلاسيكي الجديد وبين الانحراف الاقتصادي المعروف بالليبرالية الجديدة، فسيتبين فشل نظرية الليبرالية الجديدة الاقتصادية على أرض الواقع، لأن انتهاجها لم يسفر عن نمو متوازن وطويل الأجل من النواحي المالية والاجتماعية والبيئية ولم يؤد إلى تنمية اقتصادية. ومن ثم، فهي نظرية اقتصادية خاطئة.

في جميع بلدان العالم تقريبًا، اتسمت فترت السبعينيات - لا سيما بعد صدمة ارتفاع أسعار البترول في عامي ١٩٧٣–١٩٧٤ - والثمانينيات بارتفاع معدلات التضخم. واليوم من الصعب أن نصدق أنه كانت توجد فترة - تحديدًا في منتصف هذين العقدين - تضاعفت فيها أرقام معدلات التضخم، وفقًا لمعدل النمو السنوي في سعر السلع الاستهلاكية، حتى في أكثر الدول تقدمًا. وفي أكثر السنوات سوءًا، عام ١٩٨٠، بلغ معدل التضخم ١٨٪ في بريطانيا العظمى، و١٣٫٥٪ في الولايات المتحدة. وتفشى التضخم في البلدان الأقل نموًّا، لا سيما في أمريكا اللاتينية. وفي الوقت نفسه، تراكمت قيود أخرى على الطلب؛ مما عرقل النمو الاقتصادي نسبيًّا. هذا أنهى حالة الازدهار التي استمرت نحو ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية، وأذن ببدء مرحلة «الركود التضخمي»2 في الرأسمالية المتطورة؛ وهي مرحلة سادها ازدياد التضخم المصحوب بارتفاع متزايد في معدلات البطالة، وانخفاض متزايد في معدل الإنتاج، وفي الحالات القصوى حدث تراجع وتوقف الإنتاج؛ لذلك أطلق عليه الركود التضخمي. وثمة مصطلح آخر، «التدهور التضخمي»، كان يشير إلى التضخم المصحوب بانخفاض في مستوى الإنتاج المطلق، أي تراجع.

وقد احتمت البلدان الاشتراكية من آثار الركود التضخمي بحزمة من آليات التحكم في الأسعار، لكنها على الرغم من ذلك بدأت تشعر بنقص متزايد في المعروض. وتفاقمت آثار الضربة الموجهة من الخارج نتيجة لهشاشة النظام الرسمي، لا سيما عدم وجود آليات قوية لتخصيص رءوس الأموال ولمواجهة الصعوبات الدائمة، لموازنة العرض والطلب، نتيجة لقيود الميزانية المخففة. بعبارة أخرى: عمل النظام هناك بحيث يتحدد المعروض من الأموال وفقًا لحجم الطلب عليها، وليس العكس، كما يحدث في النظام الرأسمالي؛ حيث يتحدد الطلب على الأموال وفقًا للمعروض منها، نتيجة للقيود الصارمة على الميزانية. بعد صدمة ارتفاع أسعار النفط بين عامي ١٩٧٣ و١٩٧٤ -التي بدا ظاهريًّا أن البلدان الاشتراكية تمكنت من تفاديها- بدأت عملية الانحلال البطيء للاقتصاد الشمولي، على الرغم من تطبيق إصلاحات تتوافق مع السوق هنا وهناك. وكان أهم أسباب هذا الانحلال عجز هذه الاقتصادات عن مجاراة التقدم التكنولوجي التنافسي وعدم انفتاحها بالقدر الكافي على تدفق الأفكار والأشخاص والبضائع. ولم تفلح الآليات الرسمية للتحكم في الأسعار في كبح جماح التضخم، بقدر ما أخفت آثاره وأجلت ظهوره.

لقد عمل التضخم الصريح المستمر - الذي يتجلى في زيادة الأسعار، وتفريغ السوق على الرغم من ذلك - على تدمير اقتصادات السوق الرأسمالية. وفي الوقت نفسه، أدى التضخم المكبوت - الذي يظهر من خلال النقص الكبير في العرض - إلى تآكل الاقتصادات الاشتراكية الموجهة. وبناءً على ملاحظة هذه الظاهرة وضع جانوس كورني نظرية رفيعة المستوى لاقتصاد النقص في العرض أو ما يعرف باقتصاد العجز.3 يرى جانوس أن اقتصاد العجز فئة رئيسية لا يمكن إغفالها من فئات الاقتصادات الشمولية التي تعتمد على امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج، وهيمنتها البيروقراطية على العمليات الاقتصادية. وأثناء المناقشة التي دارت في ذلك الوقت حول اتجاهات وأساليب الإصلاحات الداعمة للسوق والحد من غياب العدالة في الاقتصاد، ابتدعت أنا مفهوم «تضخم نقص العرض».4 وقد استُخدم هذا المصطلح في أدبيات الاقتصاد لكنه لم يحظ بالشهرة الواسعة التي حظي بها مصطلح «الركود التضخمي».

أبرزت حالة تضخم نقص العرض التناقضات الجوهرية للخيارات التي وجدت الاقتصادات الاشتراكية والرأسمالية نفسها تواجهها فجأة. ففي حالة الاقتصادات الاشتراكية، كانت الإشكالية هي: هل نختار التضخم (السعري) المفتوح الذي يتسم بارتفاع الأسعار وانخفاض معدلات نقص العرض (أحد أعراض التضخم مكبوت)، أو التضخم الذي يتسم بانخفاض الأسعار وارتفاع معدلات نقص العرض. من ناحية أخرى، وجد الاقتصاد الرأسمالي نفسه - بعد فترة قصيرة على الأقل - في مواجهة الخيار الذي يعبر عنه ما يطلق عليه منحنى فيليبس كما يلي: معدل تضخم مرتفع مع معدل بطالة منخفض، أو معدل تضخم منخفض مع معدل بطالة مرتفع.5 وبعد ثلاثين عامًا من تناول إدموند فيليبس6 النظري لهذه المسائل فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام ٢٠٠٦. لكن قبل أن يصبح هذا ممكنًا، كان على الفكر الاقتصادي الذي ساد في السبعينيات والثمانينيات أن يحقق هيمنة سياسية، وقد حققها فعلًا. لكن لسوء الحظ، كان التطبيق العملي لهذه النظرية الاقتصادية مشوهًا، واستُغلَّتْ بطرق لا تتفق بالضرورة مع نوايا من وضعوها. أمور كهذه تحدث، لا سيما عندما تتدخل السياسة في الاقتصاد.

شعر العمال والمستثمرون (الذين يعملون بجد) بازدياد حدة تأثيرات التضخم أكثر فأكثر. على المدى البعيد، لا أحد يحب التضخم، ولا حتى السياسيون. لقد قلل التضخم من الفعالية الاقتصادية بوجه عام من خلال تقليص الحافز للعمل، وتزييف المعلومات، التي تعبر عنها الأسعار، والتي تفيد المنتجين والمستثمرين إفادة كبرى. لقد كان التضخم قويًّا قوة لم تفلح معها الوصفات الكينزية للتلاعب بالطلب الكلي باعتباره وسيلة لتحفيز مناخ الأعمال. وعلى الرغم من أن التضخم كان في معظمه ناجمًا عن عوامل تتعلق بالعرض (زيادة تكاليف الإنتاج، لا سيما أسعار المواد الخام)، فإن التدخل المتمثل في توفير دفعة إضافية من الطلب (غالبًا تمول من العجز في الميزانية) لن يؤدي إلا إلى زيادة معدل التضخم وإذكاء تصاعد الأسعار. كان هذا محظورًا، فبدأ البحث عن طريق آخر. حينئذٍ، كان في الانتظار بالاقتراحات الاقتصادية كلٌّ من اقتصاديات جانب العرض والنظرية النقدية، اللتين أصبحتا رائجتين بنفس رواج الكينزية على مدى ثُلث سنوات القرن العشرين، بداية من وقت الكساد الكبير وحتى السبعينيات.

تعاملت المدرسة الفكرية الجديدة مع التضخم بوصفه ظاهرة نقدية خالصة. دعت إلى تطبيق سياسة نقدية تقييدية، وإلى تخفيض الطلب عن طريق خفض الإنفاق العام؛ فجذبت الأتباع والأنصار، وسرعان ما حظيت برعاية سياسية. ففي بريطانيا، تولى المحافظون السلطة بقيادة مارجريت ثاتشر عام ١٩٧٩. ثم فاز الجمهوريون بقيادة رونالد ريجان بالبيت الأبيض. وعلاوة على الشعارات الجذابة، والوهمية أيضًا، كشعار ثاتشر «ليس هناك خيار آخر»، راقت الخطب والحجج لكل مَن يرغب في رؤية عودة الاستقرار والنمو الملموس على نحو معقول. ولم تكن هذه رغبة رأس المال والتمويل ومجال الأعمال فحسب، بل أيضًا رغبة العمال (على الأقل لبعض الوقت). وحالما أدرك العمال لاحقًا ما كانوا يفقدونه، كانت اتحاداتهم قد جرت تهدئتها باقتدار فصارت تفاوض من موقع ضعف، وكأنه لا يوجد خيار آخر بالفعل.

بالطبع ثمة خيار آخر دومًا. ولم يكن هذا الخيار هو الخيار الصيني، نظرًا لأن أحدًا لم يكن يتحدث بعد عن المعجزة الاقتصادية الصينية. ولم يكن أيضًا خيار الاتحاد السوفييتي والمعجزة الاقتصادية لأوروبا الشرقية، لأن الأمور كانت تتدهور هناك على نحو مضطرد. إن أيًّا من هذين الخيارين لم يكن قريبًا على الإطلاق من أن يكون بديلًا واقعيًّا عن رأسمالية السوق في الدول بالغة التقدم. وكانت الأوضاع مختلفة في دول العالم النامي، حيث كانت الاشتراكية والرأسمالية في نزاع على الهيمنة بينما كانت الحرب الباردة دائرة. لقد رفض الغرب كلا هذين الخيارين الاشتراكيين، وللأسف، لم يتسن له الالتفات إلى نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي في دول أوروبا الغربية، لا سيما الدول الاسكندنافية. كما لم يحظ النموذج الياباني بأي فرصة للهيمنة، لأسباب تتعلق بثقافة اليابان وأزمتها الهيكلية الخاصة، فقد كانت «المعجزة» اليابانية تتجه نحو نهايتها ببطء. وهكذا كانت اليد العليا لليبرالية الجديدة العنيدة التي نمت من تربة الركود التضخمي والأزمة الكينزية. وتزايد تأثيرها حول العالم أكثر فأكثر، حتى في البلدان الأقل نموًّا، حيث تزايدت ضرورة تلقين الفكر الليبرالي الجديد بعد انهيار الاشتراكية الفعلية.

دعا الاتجاه الليبرالي الجديد في الاقتصاد إلى سيادة غير مشروطة للسوق الحرة والمشاريع الخاصة على الدولة، والسياسة الاجتماعية، وسرعان ما أدى ذلك إلى ظهور سياسات ليبرالية جديدة قلصت دور الدولة في العملية الاقتصادية. ودعم كلٌّ من النظرية والتطبيق الآخر، خصوصًا في البلدان التي تتحدث الإنجليزية؛ أولًا في الولايات المتحدة وبريطانيا، ثم بعد ذلك في نيوزيلندا وأستراليا، وفي أوقات أخرى في كندا وأيرلندا. وحققت سياسات رونالد ريجان ومارجريت ثاتشر نجاحات باهرة. فقد نجحا في تحويل مسار الليبرالية الجديدة، التي كانت في السابق أحد الاتجاهات الأيديولوجية والفكرية العديدة، إلى تيار سياسي سائد. ويعقب ديفيد هارفي باقتدار على ذلك قائلًا: «إن تحالف القوى الذي وطدوا أواصره، والأغلبية التي قادوها باتا إرثًا راسخًا، حتى إن أجيالًا لاحقة من القادة السياسيين وجدت مشقة في الإفلات من هذا الاتجاه. ربما يكمن أوضح دليل على نجاحهم في أن كلينتون وبلير كانا في موقف لم يجدا فيه مساحة للمناورة، بحيث لم يسعهما إلا القبول - شاءا أم أبيا - باستمرار عملية استعادة سلطة النخبة الثرية، ضد غريزتيهما اللتين كانتا أفضل من ذلك.»7

بدأت الليبرالية الجديدة بمواجهة تحد، ثم تلقت هدية. كان التحدي هو وقوع الأزمة الكبيرة في اقتصاد أمريكا اللاتينية، وكانت الهدية هي انهيار النظام الاشتراكي.

كانت بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى في خضم دوامة الانحدار الناجم عن التضخم والعجز، والركود والتراجع، وتنامي الدين العام، لا سيما الدين الخارجي، وما يصاحب كل هذا من ألم اجتماعي واضطراب سياسي. ولم يكن هذا الألم الاجتماعي هو السبب في أرق قلة من أبناء الدول الغنية، بل كان السبب في ذلك إمكانية المخاطرة السياسية، لا سيما عدم تمكنها من تحصيل ديونها. ولم تكن المخاطرة السياسية تتمثل في إمكانية اختيار بلدان أمريكا اللاتينية للاشتراكية - فهو خيار تراجعت جاذبيته كثيرًا، إلى أن انهار بسقوط الاتحاد السوفييتي - بل في إمكانية تولي الأنظمة غير الديمقراطية زمام السلطة؛ إذ ربما ترفض هذه الأنظمة سداد الديون، بدعوى أن بلدانها عانت كثيرًا على أيدي البنوك والدول الغنية في السابق. وكانت تجربة حكومة سلفادور الليندي الاشتراكية في تشيلي محبطة ومقلقة بما فيه الكفاية. كانت هذه الحكومة قد انتخبت على نحو ديمقراطي في عام ١٩٧٠، وبعد ثلاث سنوات أطاح المجلس العسكري بقيادة بينوشيه - المدعوم من قبل المخابرات الأمريكية - بالليندي على نحو وحشي. ولم تكن الحكومات لتشرع بالضرورة في خصخصة شاملة وسريعة، فقد كان بإمكانها أيضًا أن تختار بدء التأميم. وكان هذا تحد لا يمكن إغفال مواجهته، فلا أحد يمكن أن يستفيد من تكرار النموذج التشيلي. لكن العالم تغير، فقد وُلد «توافق واشنطن».

في الواقع، لم يكن هناك أي توافق في الآراء بالمعنى الحقيقي للكلمة، حتى في واشنطن خلال السنوات الأخيرة من رئاسة ريجان والسنوات الأولى من ولاية جورج بوش الأب، التي بدأت في عام ١٩٨٩. ويشير مصطلح «استراتيجيات ريجان الاقتصادية - ريجانوميكس» إلى السياسات الاقتصادية التي بدأت في عام ١٩٨١، ونالت شعبية كبيرة في العديد من الدوائر داخل المؤسسة الرئاسية وخارجها، لكن الخلافات والمجادلات ظلت مستمرة. مع ذلك، حدث توافق واسع النطاق إلى حد ما بين ذوي النفوذ من رجال الاقتصاد والسياسة بشأن العلاجات التي ينبغي تطبيقها للتأكد من أن اقتصادات أمريكا اللاتينية أنتجت فائضًا يكفي لسداد ديونها. صحيح أنه ظهرت حاجة إلى النمو الاقتصادي، لكن كان ينبغي أيضًا مراعاة تقسيم الغنائم الناجمة عن هذا النمو على نحو ملائم. إذ ينبغي أن تحظى شركات الدول الدائنة ورءوس أموالها بالوصول الحر إلى أسواق البلدان المدينة. وكانت الدول المدينة تشكل عالة من الناحية الاقتصادية؛ وكانت بحاجة لأن «تنشأ» أولًا، بحيث يمكن اختراق أسواقها على نحو أفضل. وشكل هذا أساسًا لظهور مصطلح آخر حظي باستخدام واسع النطاق على مدى العقدين الأخيرين هو مصطلح «الأسواق الناشئة».

توجد وفرة من المؤلفات التي تتحدث عما يطلق عليه توافق واشنطن، الذي كان عدد ناقديه مساويًا لمؤيديه،8 على الرغم من أن المؤيدين تراجعوا في الآونة الأخيرة. فخلافًا لإرادة أولئك الذين صاغوا هذا المصطلح،9 صار أحدَ الأمثلة الرئيسية على الترهات الاقتصادية في هذه الفترة، وهذا يعزى إلى مرونة تفسيره، والطريقة الخاطئة التي استخدم بها هذا المصطلح عندما مُطَّ ليستخدم في وصف حالات ليس بينها في أغلب الأحوال الكثير من الأشياء المشتركة. وتظل الحقيقة هي أنه في ظل وجود جرعة كبيرة من تأثير النظرية النقدية؛ انبثق مفهوم السياسة الاقتصادية المدعوم بقوة الذي يحظى بقبول عالمي كبير من نظرية الليبرالية الجديدة الاقتصادية في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات. وأسفر عن خصخصة سريعة وشاملة، وتحرير للأسعار والتجارة وتحويلات رأس المال، وسياسة التقشف المالي التي تغطي ميزانية الحكومة والنشاط النقدي للبنك المركزي. لكن نقطة الضعف الأساسية لهذا المفهوم تكمن في عدم إيلاء الجانبين المؤسسي والاجتماعي للنمو الاقتصادي اهتمامًا كافيًا، وفي تجاهل أهمية التكيف الثقافي للتنمية.

ساد هذا المفهوم على نطاق واسع، وسرعان ما حظي بالصدارة في تحليلات الدوائر الرئيسية في الإدارة الأمريكية وبرامجها، وكذلك في المراكز التي تبحث تشكيل الرأي العام، والشركات الاستشارية، ووسائل الإعلام في واشنطن والمؤسسات المالية الدولية الموجودة هناك، مثل: بنك التنمية الأمريكي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، الذي يخضع في واقع الأمر للسيطرة الأمريكية. ونتيجة لذلك وضعت معايير وانتُهجت سياسات خاصة كانت الحكومة الأمريكية أو أي منظمة دولية تقترحها، أو حتى تفرضها، على الدول التي تعتمد في اقتصادها عليها، أو تلك التي تتقدم بطلب المساعدة. وفي حالات محدودة، ترددت همسات بأن البلدان الغنية، لا سيما الولايات المتحدة، تعمدت توريط الدول الفقيرة في الديون، لتبقيها تحت السيطرة وتستغل اقتصاداتها بما يخدم المصالح الأمريكية.10 ولا ينبغي أن نرفض هذه المزاعم كليًّا بدعوى أنها ليست سوى هراء، طالما أنه يوجد بعض الحجج المقنعة التي تدعمها. صحيح أنه لا يمكن إثباتها في الوقت الحاضر، لكن قد يكون للتاريخ رأي آخر.

كان وقوع أزمة ديون أمريكا اللاتينية هو المعضلة التي لم تتمكن المنطقة من حلها بمساعدة مدرسة الليبرالية الجديدة الفكرية الناشئة التي تمخض عنها توافق واشنطن. وبوصفي خبيرًا زائرًا لدى صندوق النقد الدولي، حظيت بفرصة في أوائل التسعينيات لأن أرى عن كثب كيف ساد هذا الاتجاه الفكري، وكيف تأتى له أن يؤثر على جزء آخر مختلف تمامًا من العالم. كان هذا حين تلقت واشنطن هدية هيمنة الليبرالية الجديدة؛ فقد انهار النظام الاشتراكي وسقط الاتحاد السوفييتي، وثبت فشل أفكار التخطيط الاقتصادي المركزي وممارساته وهيمنة الدولة في كل دول العالم، ربما باستثناء كوبا وكوريا الشمالية. لكن ما فاجأ الجميع هو ظهور ذلك العدد الكبير من المتقدمين للحصول على المشورة والمال، باستثناء الصين، التي لم تسقط. وهذا أمر له عواقب طويلة الأجل على الاقتصاد العالمي بأسره.

ثم ظهرت بلدان ما بعد الاشتراكية. في البداية كانت بضع بلدان، ثم صارت دستة، حتى تجاوز عددها الثلاثين بلدًا في الآونة الأخيرة. ولم يكن لدى الغرب شيء جاهز لهذه البلدان، سوى تجربته الخاصة في مجال اقتصاد السوق بالغ التطور، الذي لا يلائم هذه المناسبة تمامًا، وتوافق واشنطن، الذي كان قد وُضع لظروف مختلفة تمامًا. وكانت الحاجة إلى فعل شيء ما بمنزلة فرصة العمر لليبراليين الجدد. وأنى لهم أن يفوتوا فرصة كهذه؟ لقد استطاعت الليبرالية الجديدة الآن، بما فيها توافق واشنطن، أن تسيطر على جانب كبير من العالم. لم تذهب الفرصة سدى؛ وشهدت التسعينيات أوج ازدهار الليبرالية الجديدة.

صادفت تعاليم الليبرالية الجديدة في بلدان ما بعد الاشتراكية في وسط أوروبا الشرقية أرضًا بالغة الخصوبة، تفوق خصوبتها حتى بلدان أمريكا اللاتينية ذات الأواصر القوية مع الولايات المتحدة. ولبعض الوقت، سادت تعاليم الليبرالية الجديدة حتى في بعض البلدان الآسيوية المتحولة. قبل سقوط الاشتراكية، كانت هذه البلدان تشكل معاقل للفكر الاشتراكي التقليدي الصريح، ولم ينشأ فيها تقريبًا أي نوع من الميول الإصلاحية التي كانت مألوفة في أماكن أخرى من العالم. هكذا كانت الحال في لاوس ومنغوليا. وقد أوكلت واشنطن مهمة السيطرة على اقتصاد هذين البلدين إلى أستراليا ونيوزيلندا على التوالي. لكن المعركة الحقيقية لم تدر رحاها في وادي نهر ميكونج في لاوس أو في السهول المنغولية؛ بل دارت المعركة النهائية التي حسمت الحرب الباردة في بولندا.

وكان في انتظار الغرب مفاجأة إضافية، تمثلت في ظهور فرصة كبيرة للربح من الأسواق التي كانت تبدو في السابق بعيدة المنال كالسهول الروسية، أو محجوبة خلف الستار الحديدي. كان وصول تلك الأسواق إلى سلع البلدان الغنية ورءوس أموالها - سواء في شكل استثمارات مباشرة أو استثمارات قصيرة الأجل في محفظة المضاربة - يعتمد على درجة سرعة انفتاحها أمام اختراق الغرب لها ومدى اتساع هذا الاختراق. وكانت الليبرالية الجديدة - بما لديها من أيديولوجية وخطابة ودوافع - مستعدة بجدارة لهذه المهمة.

لعبت الولايات المتحدة وبريطانيا دورًا نشطًا، ومرة أخرى، حدثت أمور كثيرة في نفس الوقت. فقد كان لدى هذين البلدين كميات كبرى من رأس المال الحر، وكانا يبحثان عن فرص مواتية للاستثمار في الخارج. كانت اليابان قد بدأت أزمة تراجعها، وكانت الصين لا تزال أكثر انغلاقًا أمام العالم، ولم تكن أفريقيا جذابة بالمرة، وكانت أمريكا اللاتينية قد أفلست. هنا فقط (في بلدان ما بعد الاشتراكية) كان ثمة إقليم جديد بحاجة إلى المساعدة لكي «ينشأ» وينفتح. ولم تكن المسألة بسهولة فتح مغارة علي بابا بعبارة بسيطة مثل «افتح يا سمسم»، لكنها كانت على مرمى حجر.

من الناحية السياسية، لا يخفى على أحد أن إضعاف الاتحاد السوفييتي قرب الولايات المتحدة من تحقيق مصالح استراتيجية، وطموحات بالهيمنة العالمية، وكانت بريطانيا حليفًا مخلصًا وليس زاهدًا في المكاسب. في ذلك الوقت، لم تكن الفرصة سانحة فقط لتقويض دعائم ما أطلق عليه ريجان «إمبراطورية الشر»، قاصدًا بذلك الشيوعية، بل لإسقاط السوفييت والتعجيل بنهايتهم.

ومن الجدير بالذكر أن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية كان سيستمر وقتًا أطول لو توافرت له الظروف الملائمة، وكان انهياره بمنزلة مفاجأة تامة. وهناك سيناريوهات عدة حول هذا الأمر يمكن تصورها. فحين سألت فرانسيس فوكوياما هل كان من الممكن أن تختلف الأحداث عما آلت إليه، أجاب مؤكدًا أن ذلك كان ممكنًا، وتكهن بأن الأمور كانت ستختلف لو قدر لأحد الزعماء المحافظين مثل يوري أندروبوف (الذي توفي عام ١٩٨٤) أو قسطنطين تشيرنينكو (١٩٨٥) أن يعمر فترة أطول. واعتقدت أن هذا مثير للاهتمام، فقد كانت تكهناتي عكس ذلك، إذ كنت أرى أن الاتحاد السوفييتي كان سينجو مما حدث لو كان ميخائيل جورباتشوف تولى السلطة في وقت مبكر عن الوقت الذي تولاها فيه، ربما بعقد من الزمن. وفي أواخر التسعينيات، سألت جورباتشوف نفسه - وهو رجل دولة مرموق يدين له العالم بالكثير - هل يعتقد أن الاتحاد السوفييتي كان سيستمر فترة أطول لو كان بوريس يلتسين تولى قيادة الحزب والبلاد من جورباتشوف في مطلع التسعينيات، فرد بالإيجاب دون أن يتردد للحظة واحدة. ربما كان من الممكن أن تجري الأمور على هذا النحو. لكن في النهاية، كان أحد الأسباب التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي هو أن السبيل الوحيد للاستيلاء على السلطة في روسيا كان تفكيك الاتحاد. كان يلتسين عازمًا منذ البداية على الحكم؛ لكنه لم يبدأ في التساؤل عن كيفية الحكم إلا لاحقًا.

ولأسباب عديدة، لم تدخل بلدان أخرى هامة اللعبة، أو ربما دخلت بعضها لكن بفتور. فقد كانت اليابان البعيدة واقعة في براثن أزمتها الخاصة، وكانت على أي حال تعتبر منطقة جنوب شرق آسيا - لا منطقة وسط أوروبا الشرقية - هي هدفها الرئيسي للاختراق الاقتصادي. وألمانيا القريبة جدًّا كانت مشغولة بتنفيذ عملية إعادة التوحيد التي كانت مكلفة على نحو لا يصدق، وكانت ألمانيا ترغب في الانتهاء منها بأسرع وقت ممكن. والأنظمة الديمقراطية الاجتماعية الاسكندنافية كان مجموع سكانها كلها يقل عن عدد السكان في بولندا، فما الذي يمكنها أن تشكله من الناحية الاقتصادية؟ وعلاوة على ذلك، كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يقعان في واشنطن، وكانت وول ستريت تقع في نيويورك، لا في كوبنهاجن أو ستوكهولم. وكانت فنلندا نفسها تعاني من سقوط الاتحاد السوفييتي، لأنها كانت قد أقامت مع الاتحاد السوفييتي مجموعة من الترتيبات التجارية المدعومة المربحة. وكانت لدى كلٍّ من فرنسا وإيطاليا مشاكلها الخاصة، التي كانت مشاكل داخلية في الأغلب فيما يخص إيطاليا، بينما كانت مشاكل فرنسا أكثر إلحاحًا وأهمية، وتتعلق بتسوية أوضاعها في مستعمراتها الأفريقية السابقة؛ لذا تشاركت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بطولة المشهد، لا سيما وقد تجلى مجد الليبرالية الجديدة في هذين البلدين. وكان من الطبيعي تمامًا أن تُقدَّم الليبرالية الجديدة باعتبارها حلًّا للمشاكل المتلاحقة في أوروبا الشرقية. وكان العرض متاحًا. فتقديم المشورة أسهل من تقديم النقود.

وكان يوجد طلب أيضًا. في بادئ الأمر جاء الطلب من بولندا، حيث كانت أشياء كثيرة تحدث في نفس الوقت. وكانت بولندا، إضافة إلى المجر، ممهدة تمهيدًا جيدًا لتطبيق نظام اقتصاد سوق خالص، وهذا نجم في المقام الأول عن الإصلاحات الشاملة التي طُبقت في وقت سابق تحت مظلة الأحكام العرفية في أوائل الثمانينيات، ثم تطبيق إصلاحات أشمل أثناء المرحلة الثانية من الإصلاح الاقتصادي في نهاية الثمانينيات. وبما أن الاشتراكية سقطت، فقد كانت هناك حاجة ملحة إلى ما يحل محلها. وكان من الواضح وقتئذ أن الاتحاد السوفييتي - الذي كان مستغرقًا في معاناته وغارقًا في مشاكله الخاصة - لن يتدخل. والألمان أيضًا كان لديهم قدر هائل من المشاكل يجعلهم متخوفين من تقديم نظرية اقتصاد السوق الاجتماعي وطريقة تطبيقه إلى جيرانهم الشرقيين. وفي بولندا، أثار حلم المدينة الفاضلة الذي وعد به اتحاد العمال مشاعر قوية معادية لسيطرة الدولة. وكان يوجد كثير من السياسيين الحريصين على الالتفاف حول نموذج الليبرالية الجديدة الأجنبي والادعاء أنه نتاجهم الفكري؛ حتى إنهم زودوه بشعار شعبي ساذج هو: «العلاج بالصدمة». فقد كان المختبر جاهزًا لتقبل شعارات كهذه.

هذا الطلب الشعبي على تطبيق سياسة الليبرالية الجديدة، التي قلصت دور الدولة ورفعت قدر فئة ضيقة من أصحاب المصالح على حساب الشعب بأسره - تحدى كل عقلانية الاقتصاد الكلي. كما أنه ضرب بعرض الحائط كل ما اتُفق عليه في عام ١٩٨٩ في محادثات المائدة المستديرة، والأهم من ذلك أنه أطاح بكل آمال أغلبية الشعب الصامدة. تلك الآمال التي تجلت أكثر بعد التاسع من نوفمبر عام ١٩٨٩، اليوم الذي سقط فيه حائط برلين أخيرًا بإرادة الجماهير.

على الفور تعرض البرنامج الاقتصادي الأصلي لتحول راديكالي متطرف، وانتشرت شعارات: «الآن، وإلا فلا!» و«كل شيء ممكن!» و«ليس هناك خيار آخر!» وشهد ذلك الخريف منعطفًا حادًّا؛ إذ كان رئيس الوزراء في خطابه الافتتاحي في سبتمبر قد رسم برنامجًا ديمقراطيًّا اجتماعيًّا لبناء اقتصاد سوق اجتماعي (كما انعكس في وقت لاحق في الدستور، بطريقة شكلية بحتة). وفجأة، تحولت الأمور نحو ليبرالية جديدة ذات طابع متطرف للغاية. حدث هذا تحت تأثير ضغط المستشارين الأجانب، الذين استُقدم معظمهم من الولايات المتحدة وبريطانيا. ولم يكن هؤلاء ممن يتمتعون بأي مميزات فكرية عظيمة، لكنهم ببساطة لعبوا دورًا أساسيًّا في دعم مصالح الجماعات التي كانوا يخدمونها، سواء أكانوا على وعي بذلك أم لا. ومن نافلة القول أنهم كانوا يُموَّلون بطرق متعددة من قبل مجموعة كبيرة من المصادر في بلدانهم.

ومن المحير أن أول رئيس وزراء في مرحلة ما بعد الاشتراكية تاديوش مازوفيتسكي، غير قادر حتى الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، على إدراك أن ما حدث في ذلك الخريف كان تحولًا جذريًّا في السياسة. فعندما سألته عن ذلك في صيف عام ٢٠٠٧، قال إنه لا يعتقد أنه كانت هناك أي نقطة تحول؛ لكنه يعتقد أن المسألة ببساطة كانت تتعلق بإعداد رزمة تشريعات تجسد الإصلاحات البنيوية اللازمة. ويرى أن الشيء الوحيد الذي حدث هو الإسراع في التخلص من تسوية المائدة المستديرة، وزعم أنه كان قد أعلن عزمه على تنفيذ ذلك عندما رُشح في أغسطس لتولي مهمة تشكيل الحكومة. ووفقًا لما قاله، كانت هذه اللحظة هي نقطة التحول، والانتقال من اتفاق على تقاسم السلطة، إلى تول كامل للسلطة. وقال إن الأولويات السياسية استلزمت إعادة تقييم الأوضاع. وهكذا حل الاقتصاد الرأسمالي محل الاقتصاد الذي يخضع لمزيج من سلطتي الدولة والقطاع الخاص، الذي أوجدته اتفاقيات المائدة المستديرة، على الرغم من أنه كان من المفترض أن يحل اقتصاد السوق الاجتماعي محل هذا الاقتصاد المختلط. أعتقد أن ذلك بالضبط ما كان يرغب فيه رئيس الوزراء مازوفيتسكي، لكن من الواضح أن هذه لم تكن رغبة آخرين.

كنت عضوًا في هيئة استشارية أُطلق عليها «المجلس الاستشاري الاقتصادي لمجلس الوزراء»، وترأسها البروفيسور فيتولد ترزيكياجوسكي من عام ١٩٨٩ إلى عام ١٩٩١. وشاركت في العديد من المناقشات المهنية هناك، مع أن أعضاء الحكومة أبدوا اهتمامًا كبيرًا بما نقول. وكنت أيضًا مديرًا لمعهد البحوث المالية، الذي أصدر توصيات ومقترحات سياسات بديلة قوبلت بالتجاهل في معظم الأحيان، وقدم آخرون المقترحات التي حازت القبول. والأمر المثير أنه حتى خبراء صندوق النقد الدولي الذين كانوا يعملون بمنتهى الهمة ويتمتعون بدعم الولايات المتحدة ومجموعة السبع فشلوا في تخفيف حدة ما اعتبروه برنامج تحرير اقتصادي واستقرار جذري مبالغ فيه.

تصدرت المواقف المتشددة المشهد. فبعض المستشارين - فيما يبدو - كانوا حريصين على التجريب في نظام اقتصاد حي. وكانت هذه فرصة فريدة من نوعها، وفي هذا الصدد بالذات، كانت المسألة فعليًّا مسألة «الآن، وإلا فلا!» جُربت كل أساليب الخصخصة المعروفة، إضافة إلى عدة أنواع جديدة منها؛ وأخضعت كل آليات سعر الصرف المتاحة للاختبار؛ وقُيِّمت أنماط تحرير التجارة المختلفة، وطُوِّعت بحيث تصبح أكثر تطرفًا، أو أكثر اعتدالًا. وكانت السياسة القائمة على صياغة وارسو لتوافق واشنطن تجربةً مهمة في حد ذاتها، وأسفرت عن قدر كبير من المواد الاقتصادية تفتح المجال أمام بحث أكثر في الفكر الاقتصادي الليبرالي الجديد، وأمام معاناة أكبر للمجتمع البولندي.

وبقدر ما كانت الليبرالية الجديدة القاصرة والساذجة غير ملائمة لبلدان ما بعد الاشتراكية، حازت الفكرة المستوردة المعروفة بالعلاج بالصدمة على القبول. حتى ليزيك بالسيروفيتش، نائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت، الذي كان أيضًا وزيرًا للمالية، والذي قام بتنسيق سياسة الحكومة الاقتصادية، منحها الموافقة على الرغم من أنه سبق وأن نفى ولاءه لأي خيارات من هذا النوع. ولم تكن الحكومة على علم تام بالعواقب التي يمكن أن تترتب على هذه السياسة، فقبلتها تحت ضغط الوقت، وانخدعت بحجج زائفة. وعلى أرض الواقع، تلخصت الفكرة في عدد وافر من الصدمات التي لم يكن لها أي ضرورة (مثل تخفيض قيمة الزووتي على نحو مفرط، أو فرض أسعار فائدة جديدة تقصم الظهر على الأرصدة التجارية التي كانت موجودة قبل فرض هذه الأسعار)، بالإضافة إلى جرعة عديمة الجدوى من العلاج. فمن ناحية، نُفذت خطوات التحرير الاقتصادي تنفيذًا غير صحيح، نتيجة لاعتبار التحرر الاقتصادي والتحول إلى اقتصاد السوق أمرين متطابقين. ومن ناحية أخرى، لم يكن العديد من المعايير المالية والنقدية لسياسة الاستقرار موضوعًا على نحو صحيح، وهذا أدى إلى عدم تحقيق الأهداف، أو تجاوزها على نحو سيئ. ولم يلق البعد المؤسسي لبناء اقتصاد السوق الاهتمام اللازم؛ واستُبعدت الجوانب الاجتماعية على اعتبار أنها ليست مهمة.

صحيح أن بعض التدابير كان صحيحًا، مثل التحرير التام للأسعار، أو إتاحة قابلية تحويل العملة المحلية، لكن هذا لا يغير حقيقة أننا كنا أمام خطأ مركب: فقد أسيء فهم البرنامج، ونُفذ على نحو سيئ.11 وتشير كل الدلائل إلى أن الحكومة - بالرغم من التحذيرات - لم تكن على علم تام بما كانت بصدد توريط نفسها فيه، ووثقت ثقة مفرطة في مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين أعدوا حزمة من التغييرات الهامة، ونتيجة لذلك، وقعت تحت تأثير التوقعات المتفائلة غير العقلانية. وصار من السهل على القادة، واقتصاديي الحكومة ومستشاريهم، والجزء الطيع من وسائل الإعلام أن يقنعوا الناس بأنه ما من خيار آخر، وأن يضللوهم بالنتائج الواعدة، التي سرعان ما شكك خبراء الاقتصاد المستنيرون في صحتها بوصفها ليست واقعية.12 لقد امتزجت ظروف المناخ السياسي المحلي، والضغوط الخارجية بحيث بدا الهراء الاقتصادي - من وجهة نظر مصالح الاقتصاد الوطني والجمهور - وكأنه برنامج سياسة اقتصادية يُنفذ بالفعل.

إن العلاج بالصدمة نوع من الترهات الشائعة. ويوحي تقارب الكلمتين: صدمة، وعلاج، بأن الأولى يجب أن تؤدي حتمًا إلى الثانية. وربما كان الحديث عن «فشل الصدمة» و«العلاج التدريجي» سيبدو منطقيًّا أيضًا بالقدر نفسه. لكن مجموعة من الظروف تضافرت وجعلت بولندا تحديدًا تتقبل هذه الترهات، بالرغم من كل عواقبها السلبية التي لا يزال يشعر بها الكثير من الفئات المهنية الاجتماعية، والكثير من مناطق البلاد حتى الوقت الراهن، بعد مرور ٢٠ عامًا على فشل ذلك المشروع.

* مقتطف من كتاب: حقائق وأخطاء وأكاذيب: السياسة والاقتصاد في عالم متغير، لمؤلفه: جچيجوش كوودكو، وهو اقتصاديٌّ بولندي المهندسين الرئيسيِّين للإصلاحات الاقتصادية في بولندا.

.............................................

(1) See, for instance, Kazimierz Laski, “The Stabilization Plan for Poland,” Wirtschaftspolitische Blätter, 5 (1990), pp. 444–458. See also Mario D. Nuti, Crisis, Reform, and Stabilization in Central Eastern Europe: Prospects and Western Response [in] La Grande Europa, la Nuova Europa: Opportunità e Rischi (Siena: Monte dei Paschi di Siena, 1990). The author of the present work has published extensively on this issue in scholarly journals since 1989; see also a polemic with Jeffrey Sachs, who had powerful influence on the Polish minister of finance and other high government officials at the time: Grzegorz W. Kolodko, “Patient Is Ready,” The Warsaw Voice, Dec. 4, 1989.

(2) Carl Sagan, “The Fine Art of Baloney Detection,” Parade, Feb. 1. 1987.

(3) Michael Shermer, Why People Believe Weird Things: Pseudoscience, Superstitions, and Other Confusions of Our Time (New York: W.H. Freeman, 1997).

(4) Francis Wheen, How Mumbo-Jumbo Conquered the World: A Short History of Modern Delusions (London: Harper Perennial, 2004).

(5) Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York: Free Press, 1992).

(6) Isaac Getz and Alan G. Robinson, “Innovate or Die: Is That a Fact?” Creativity and Innovation Management, 12, 3 (Sept. 2003), pp. 130–136. www.blackwell-synergy.com.

(7) More on the great post-communist systemic changes see Grzegorz W. Kolodko, From Shock to Therapy. The Political Economy of Postsocialist Transformation (Oxford-New York: Oxford University Press, 2000).

(8) The author of the present work joins with other authors in considering the lessons to be learned from the Polish transformation—what worked and what didn’t—and its applicability for other countries in the process of complex systemic change in The Polish Miracle: Lessons for the Emerging Markets (Burlington VT: Ashgate, Aldershot, 2005).

(9) Joseph E. Stiglitz, Globalization and Its Discontents (New York and London: W.W. Norton, 2002).

(10) Robert Gwiazdowski, “Stiglitz: falszywy prorok” [Stiglitz—a false prophet], Forbes [Polish edition], Dec. 2006, p. 144.

(11) Andrew Reynolds, introduction to Victor Erofeyev, Life with an Idiot, trans. Andrew Reynolds (London: Penguin, 2004), pp. xx.

(12) Wislawa Szymborska, “List,” translated by Stanislaw Barańczak and Clare Cavanagh, Monologue of a Dog (Orlando: Harcourt, 2006), pp. 83–87.

اضف تعليق