هناك كلمة واحدة يمكن أن تشرح سبب تحدي بايدن طوال هذه الفترة لجميع قوانين الجاذبية السياسية المعروفة، هذه الكلمة هي السلطة. إنها مغرية ويمكن أن تستهلك كل دقيقة من كل يوم. كما أنها تسبب الإدمان. وقد يكون من السهل أن تعد نفسك شخصاً لا يمكن الاستغناء عنه...
بقلم: جاك سترو، وزير خارجية بريطانيا الأسبق
في غياب السلطة تبدو الحياة قاتمة، ويطغى شعور بالفراغ أو انعدام الهدف
بدا الرئيس الأميركي ضعيفاً ومتقدماً في السن، لكن على عكس ادعاءات ترمب فقد كان مفيداً لبلاده. في الآتي يتناول وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو الطريقة التي سيتذكره التاريخ بها، وما يخبئه المستقبل للعلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وبلادها.
هناك كلمة واحدة يمكن أن تشرح سبب تحدي الرئيس الأميركي جو بايدن طوال هذه الفترة لجميع قوانين الجاذبية السياسية المعروفة، هذه الكلمة هي "السلطة". إنها مغرية ويمكن أن تستهلك كل دقيقة من كل يوم. كما أنها تسبب الإدمان. وقد يكون من السهل أن تعد نفسك شخصاً لا يمكن الاستغناء عنه على الإطلاق إن لم يكن لديك هدف سام وفريد من نوعه.
لكن ما من أحد في أي نظام ديمقراطي سبق لي أن صادفته - سواء في بريطانيا أو خارجها - كان على استعداد لخوض ما سماه الرئيس الأسبق للولايات المتحدة ثيودور روزفلت بمسيرة "الغبار والعرق والدم" التي تنطوي عليها المناصب العليا، إلا إذا كان مستعداً لبذل نفسه في قضية نبيلة تمنحه في أفضل الأحوال شعوراً بالرضا وطعم الانتصار نتيجة تحقيق إنجاز كبير في نهاية المطاف. وفي أسوأ الأحوال إذا لم ينجح فإنه في الأقل يكون أخفق بعدما خاض مجازفات جريئة وكبيرة.
نعم، كان بايدن مدمناً على سلطته وتعتريه رغبة في التمسك بها. وهذا الانجذاب إليها مفهوم تماماً. فمن يكون في موقعه ولا يتملكه هذا الشعور؟
إن رئيس الولايات المتحدة هو أقوى زعيم في العالم لأنه القائد الأعلى لأقوى قوات مسلحة على سطح الأرض، بموازنة عسكرية تبلغ ضعف موازنة الصين وتتجاوز بكثير الإنفاق المشترك للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وهذه القوة العسكرية مدعومة بأقوى اقتصاد في العالم وهو الأكثر ابتكاراً. فالرئيس الأميركي يحمل حرفياً بين يديه مصير الجنس البشري بأكمله.
إلا أن سلطة الرئيس تكون في كثير من المجالات أكثر تقييداً من سلطة رئيس الوزراء في المملكة المتحدة الذي يتمتع بغالبية في "مجلس العموم". ويعتمد الرئيس الأميركي على "الكونغرس" للحصول على التمويل، وحتى صلاحياته التقديرية في السياسة الخارجية يمكن أن تكون مقيدة بصورة كبيرة من جانب "مجلس الشيوخ".
وبصفتي وزيراً بريطانياً سابقاً رفيع المستوى في ظل حكومتين كانت اتصالاتي الشخصية مع كل من الرئيس بيل كلينتون والرئيس جورج بوش محدودة. لكن ما رأيته من هدوء غريب بدا وكأنه يحيط بالرئيس أصابني فعلاً بالذهول.
وفي حين كانت هناك بالتأكيد جلبة تطغى على الموظفين في الجناح الغربي للبيت الأبيض، إلا أنني لم ألاحظ تلك الطاقة المحمومة نفسها التي يمكن أن تسود في بعض الأحيان على مكتب رئيس الوزراء البريطاني، خصوصاً في أيام الأربعاء قبل "جلسة طرح الأسئلة على رئيس الوزراء" Prime Minister’s Questions أو في خضم الأزمات. فالرئيس الأميركي يستطيع أن يختار متى يواجه الأسئلة في حين أن رئيس الوزراء في المملكة المتحدة لا يتمتع بهذا الترف.
وفي مطلع فبراير (شباط) عام 1998 طلب مني رئيس الوزراء آنذاك توني بلير أن أرافقه في أول زيارة حكومية رسمية له للبيت الأبيض، للقاء الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
في مرحلة الإعداد لمواعيد تلك الرحلة لم يكن أحد يتوقع أنها ستتزامن مع اندلاع فضيحة مونيكا لوينسكي (وهي متدربة في البيت الأبيض في أواخر التسعينيات، سرت حولها مزاعم عن وجود علاقة خارج نطاق الزواج، بينها وكلينتون). فقبل بضعة أيام فحسب قال الرئيس الأسبق - الذي كان من أبرز المدافعين عن القضايا الأخلاقية - لحشد من الصحافيين المتشككين، إنه "لم يقم علاقات جنسية مع تلك المرأة". وكانت وسائل الإعلام الأميركية تسعى بلا هوادة إلى فضحه ومحاسبته.
وبينما كان كلينتون يتظاهر بانتقاده لمظالم الصحافة الأميركية (التي بدت معتدلة مقارنة بالصحافة البريطانية في ذلك الوقت)، قرر أنه لا بد لنا من أن نمضي قدماً في عقد ندوة على مدى أربع ساعات في إحدى الغرف العليا للبيت الأبيض، عن مفهوم "الطريق الثالث" Third Way (فلسفة سياسية تسعى إلى التوفيق بين السياسات التقليدية اليسارية واليمينية رداً على إخفاقات كل من الاشتراكية والرأسمالية). هل تذكرون ذلك؟
لم تكن هناك أية مقاطعات للحديث. وبدا المكان كما لو كان من الممكن أن يكون غرفة في "هارفرد يارد" أو كلية في "جامعة أكسفورد". كان هادئاً وغريباً بصورة بارزة ولافتة للنظر. وفكرت في أنه لو حدث موقف مماثل في المملكة المتحدة فإن رئيس الوزراء (حتى لو كان بوريس جونسون نفسه) لما كان لينجو منه بسهولة.
اختتمت رحلة وفدنا بمأدبة رائعة أقيمت في البيت الأبيض تضمنت جلسة موسيقية أحياها كل من ستيفي ووندر وإلتون جون. وفي تلك الزيارة تم اصطحابي بصفتي "الوزير الأعلى رتبة" مع توني، مع نائب الرئيس كلينتون آل غور.
وفي ما يتعلق بغور لاحظت أمرين، كانت لديه شهية هائلة لتناول الحلوى، وكان يبدو غريب الأطوار في ظل وجود غرباء، وكان يتمتع بـ"غطرسة" الطبقة العليا فاحشة الثراء. وربما يفسر هذا سبب عدم تمكنه من هزيمة جورج دبليو بوش بصورة حاسمة في انتخابات عام 2000.
الرئيس السابق بوش نفسه كان يتمتع ببعض الخصائص التي تتسم بها الطبقة العليا. فقد التحق بكلية "أندوفر" - وهي إحدى أقدم المدارس الخاصة في الولايات المتحدة - ثم انضم إلى "جامعة ييل". لكنه حافظ في المقابل على صورة الرجل الريفي من تكساس الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، وتمتع بشخصية هادئة بصورة ملحوظة فيما كان منفتحاً على الأفكار الجديدة.
وعندما كانت كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية الأميركية، قامت بترتيب اجتماع لي مع الرئيس بوش لأشرح له الأسباب التي دفعتني إلى الاعتقاد أن الولايات المتحدة لا بد أن تخوض المحادثات النووية التي بدأتها فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مع إيران.
ومرة أخرى كان الهدوء السائد في غرفة الاجتماع - مقارنة بأجواء مقر رئاسة الوزراء في "10 داونينغ ستريت" - مختلفاً بصورة لافتة للنظر. فقد مازح الرئيس الأسبق موظفيه قائلاً إنه حصل على درجة متوسطة من "جامعة ييل" في وقت أن الطروحات والأفكار الذكية في الغرفة كانت تأتي من رايس ومن مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي ستيفن هادلي.
وفي ما يتعلق بجو بايدن على رغم القيود التي يفرضها عليه منصبه والجهود الحثيثة التي يبذلها "جمهوريو" دونالد ترمب لإحباط كل خطوة يقوم بها، فإنه يمكن للرئيس الأميركي الراهن أن ينظر بثقة إلى الإنجازات المهمة التي حققها خلال فترة رئاسته.
وفي حين أن الانسحاب الذي قادته الولايات المتحدة من أفغانستان كان فوضوياً للغاية، فإن تلك الخطوة تمت موازنتها من خلال قيادة بايدن الواضحة لـ"حلف شمال الأطلسي" (ناتو) والدعم الذي قدم لأوكرانيا في مقاومة الغزو الروسي. وساعد في تحفيز الاتحاد الأوروبي على اتخاذ موقف صارم على نحو متزايد من روسيا، على رغم التوتر الذي عبرت عنه بعض الدول التي تعتمد بصورة كبيرة على الطاقة الروسية، وبخاصة ألمانيا.
وفي المقابل اتسمت سياسة بايدن تجاه الصين بالصرامة أيضاً. فهو يدرك أن اقتصاد الولايات المتحدة والصين مترابطان بصورة وثيقة، ويعتمد كل منهما على الآخر بصورة متبادلة. إلا أنه فرض قيوداً على تصدير الرقائق الإلكترونية التي تتجاوز عتبة قدرة معينة إلى الصين (وبعض الدول الأخرى)، وبخاصة تلك المستخدمة في مجال "الذكاء الاصطناعي" AI، والتطبيقات العسكرية. كذلك حظر تصدير الآلات المستخدمة في تصنيع تلك الرقائق المتقدمة.
أما "قانون خفض التضخم" Inflation Reduction Act الذي وضعه بايدن وعلى رغم تسميته، فهو لم يهدف في المقام الأول إلى معالجة التضخم الذي يقل عن ثلاثة في المئة، إلا أنه كان بمثابة تشريع تاريخي ويمثل أكبر استثمار عام - لا يقل عن 500 مليار دولار ـ منذ صفقة الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت الجديدة التي أبرمها في ثلاثينيات القرن الـ20.
ويهدف القانون إلى تعزيز التصنيع المحلي وتشغيل العمالة، وتحسين الأجور وخفض أسعار الطاقة المنزلية وتعزيز الطاقة المستدامة، وخفض كلف العقاقير الطبية (وهي قضية رئيسة بالنسبة إلى كثير من الأسر). وتطلب الأمر براعة بايدن كلها إلى جانب براعة معاونيه في "الكونغرس" لدفع القانون إلى الأمام، على رغم المعارضة القوية التي أبداها "الجمهوريون" له.
وعلى خط مواز واصل الاقتصاد الأميركي وتيرة نموه القوي، متجاوزاً اقتصادات دول أوروبا بكثير. وأضيفت أكثر من 200 ألف وظيفة الشهر الماضي وأظهرت البورصات الأميركية مرونة مذهلة طوال فترة ولاية جو بايدن.
ومن بين الاتهامات المتعددة التي وجهها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى بايدن أنه فشل في كبح جماح الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة. والمفارقة في الأمر - التي من المحتمل أن تغيب عن أنصار ترمب - أن بايدن كان سيحقق نجاحاً أكبر بكثير لولا "الفيتو" المثير للسخرية الذي وضعه "الجمهوريون" في مجلس النواب. وكان تمكن من تمرير مشروع القانون في "مجلس الشيوخ" الذي حظي بدعم أعضاء من الحزبين السياسيين الرئيسين، والذي كان "يحتمل أن يكون فعالاً" في الحد من الهجرة غير الشرعية إلا أن المشروع واجه عقبات في "مجلس النواب" إذ تم حظره بناء على تعليمات ترمب نفسه.
حتى في ما يتعلق بموضوع الإجهاض فقد تمكن بايدن من التغلب على العقبات التي أوجدتها "المحكمة العليا" Supreme Court والمجالس التشريعية للولايات ذات الغالبية "الجمهورية"، من خلال ضمان بقاء أدوية إنهاء الإجهاض متاحة في الولايات المناهضة للإجهاض.
لا شك أن حزب "العمال" البريطاني هو أقرب أيديولوجياً إلى "الديمقراطيين" منه إلى "الجمهوريين". وكان توني بلير قبل فترة طويلة من فوزه برئاسة الوزراء خلال عام 1997 بذل جهداً كبيراً في تطوير علاقته مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
انتخاب جورج بوش الابن رئيساً خلال عام 2000 كان مفاجئاً وجاء بهامش فوز ضيق في الوقت نفسه (فقد خسر التصويت الشعبي بأكثر من نحو نصف مليون صوت، وفاز بأصوات "المجمع الانتخابي" لكن بغالبية أربعة أصوات فقط).
وكان توني بلير عمل بجد للتغلب على الشكوك المتجذرة تجاه "الجمهوريين" وعزز علاقته مع بوش من خلال "الوقوف جنباً إلى جنب" معه، في أعقاب أحداث "11 سبتمبر" مباشرة.
والعبرة المستخلصة هنا أنه لا يمكنك اختيار القادة الأجانب الذين ستواجههم ومن الأفضل عدم محاولة القيام بذلك. ولم يفاجئني رفض رئيس الوزراء السير كير ستارمر مناقشة علاقته مع نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس عندما أشار إلى أن "الحزب ’الديمقراطي‘ هو وحده الذي يقرر من يريد أن يطرح".
إن قرار الرئيس بايدن عدم الترشح لولاية ثانية فتح بالتأكيد باب الاحتمالات أمام المرشح "الديمقراطي" (أياً يكن)، وسيؤدي إلى منافسة أكثر إثارة للاهتمام. لكن الاحتمالات لا بد أن تبقى تراهن على فوز ترمب.
ويذكر أن هناك "علاقة خاصة" تربط ما بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة في مجالات مختلفة مثل الاستخبارات والأمن والدفاع وبعض قضايا السياسة الخارجية، لكنها لا تمتد إلى أي جانب آخر – وبخاصة التجارة - بعدما أصبح الحزبان الأميركيان الرئيسان يميلان أكثر فأكثر إلى اعتماد سياسات أكثر حمائية للصناعات الأميركية خلال الأعوام الأخيرة.
وعلاوة على ذلك، هذه العلاقة ليست متوازنة تماماً. فكل رئيس وزراء بريطاني يدرك أن المملكة المتحدة تحتاج الولايات المتحدة أكثر من حاجة هذه الأخيرة لها. ويتعين علينا تالياً أن ننحاز إليها بغض النظر عن الرئيس الذي يجلس في المكتب البيضاوي. والأمر في نهاية المطاف يتعلق بالسلطة، من يملكها وكيف يقوم باستخدامها، فذلك يؤثر فينا جميعاً.
اضف تعليق