يواجه واضعو النظريات الاقتصادية مشكلتين فالأشياء التي هو موضوع دراستهم لديها عقول، وإجراء تجربة موجَّهة في الاقتصاد أكثر صعوبة منه في علم طبيعي كالكيمياء. وتفسر هذه الاختلافات السبب في أن العلوم التي يطلق عليها صلبة تشتهر بالموضوعية والنجاح أكثر من العلوم المرنة، بما فيها علم الاقتصاد...
بقلم: روبرت ميرفي
ما هو الفرق بين الفعل المتعمَّد والسلوك العفوي، والفرق بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية؟
ولماذا تختلف الأساليب المستخدمة في وضع أساسيات علم الاقتصاد عن تلك المستخدمة في الفيزياء أو الكيمياء؟
(١) الفعل المتعمد مقابل السلوك العفوي
عندما ننظر إلى العالم ونحاول فهمه، سنجد أن أحد أهم التمييزات التي نقوم بها - عادة من دون حتى أن ندرك ذلك - هو التمييز بين الفعل المتعمد والسلوك العفوي. فعندما نصف مسار كرة في لعبة البيسبول، قد نذكر أشياء مثل: الكتلة والسرعة والاحتكاك بالهواء. لكننا لا نقول إن كرة البيسبول «ترغب في التحرك في مسار على شكل قطع مكافئ» أو إن الكرة «شعرت بالملل من الطيران في الهواء، فقررت في النهاية أن تسقط على الأرض». سيكون هذا محض هراء في رأي أي مستمع اليوم، وسيصدمنا سماعه على اعتبار أنه كلام لا يمت للعلم بصلة. لكن هب أننا نصف تحرك طائرة نفاثة. في تلك الحالة لن نواجه أي مشكلة في أن نقول إن قائد الطائرة «يرغب في تفادي مطبٍّ هوائي» أو إن «وقوده ينفد، فقرر الهبوط بالطائرة».
يعكس هذا الاختلاف في كيفية وصف الحدثين قرارًا جوهريًّا نتخذه عند تفسير أحداث العالم من حولنا. فعندما نرصد الأحداث يمكننا إما أن نعزوها إلى قوانين الطبيعة، أو أن نفسرها (على الأقل جزئيًّا) بالإشارة إلى «نوايا» كائن واعٍ. باختصار، يمكننا اتخاذ قرار بأن نصدق أن «عقلًا» آخر يفكر.
نحن هنا نتطرق إلى بعض المسائل الفلسفية بالغة التعقيد، والواضح أننا لن نطرح «الكلمة الحاسمة» في هذا الشأن في هذا المختصر. لكن لكي نفهم النظرية الاقتصادية ونمنحها أساسًا راسخًا، نحن بحاجة لأن ندرك الفرق بين «الفعل المتعمد» والسلوك العفوي. فقوانين علم الاقتصاد تنطبق على الفعل المتعمد، لا على السلوك العفوي. وكما سنرى، تتضمن قوانين الاقتصاد دائمًا إعمال عقل واحد على الأقل، أي إعمال فكر ذي أهداف واعية يتخذ خطوات للتأثير في العالم المادي من أجل تحقيق تلك الأهداف.
والفارق بين الفعل المتعمد والسلوك العفوي ليس فرقًا بين بشر و«جماد». فكثير من حركات الجسم البشري يمكن أيضًا أن تكون أمثلة على السلوك العفوي. على سبيل المثال: إذا قلت لك: «سأعطيك ٢٠ دولارًا إذا رفعت ساقك اليمنى»، فسنفسر سلوكك التالي على أنه رد فعل متعمد؛ إذ حركت ساقك «متعمدًا» لأنك أردت الحصول على النقود. لكن إذا ضربك الطبيب على ركبتك اليمنى بمطرقة كي يختبر الفعل المنعكس لديك، فلن تكون حركة ساقك مثالًا على الفعل المتعمد. على الرغم من اشتراك جهازك العصبي ومخك في الفعل، فلا نستطيع حقًّا أن نقول إن عقلك قد اشترك فيه. (لاحظ أن المخ والعقل شيئان مختلفان تمامًا، ومن الضروري أن نميز هذا الاختلاف).
وعلى الرغم من أن الخط الفاصل بين «الفعل الإرادي» و«السلوك الانعكاسي» قد لا يكون واضحًا، فإن ذلك لا ينتقص من أهمية المبادئ. صحيح أن قاذف الكرة في لعبة البيسبول قد لا يكون على وعي تام بالعمليات العقلية التي يمارسها عند رميه الكرة في اتجاه القاعدة الثانية، لكنه قطعًا يحاول إبعاد العدَّاء، لأنه يريد الفوز لفريقه.
حتى وإن «أخطأ التقدير» وتجاوزت الكرة القاعدة، فكل الدروس في هذا الكتاب تنطبق على فعله المتعمد، لأنه كائن واع يحاول أن يستبدل موقفًا يعتقد أنه أفضل بموقف آخر.
المبادئ الاقتصادية ليست حكرًا على «أناس متعقلين تمامًا»، بل تنطبق على أناس واقعيين يستخدمون عقولهم يوميًّا في ممارسة عمليات التبادل في عالم الواقع.
(٢) العلوم الاجتماعية مقابل العلوم الطبيعية
الاقتصاد «علم اجتماعي»؛ بمعنى أنه يعنى بدراسة الأفراد وجوانب المجتمع. وتشمل العلوم الاجتماعية الأخرى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان. أما العلوم الطبيعية، فتعنى بدراسة جوانب العالم الطبيعي، وتشمل الفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك وعلم الأرصاد الجوية.
ونتيجة لاختلاف موضوع دراسة كل منهما، تركز العلوم الاجتماعية على الفعل المتعمد كما أوضحنا آنفًا، بينما تركز العلوم الطبيعية على التصرف العفوي. فتفسيرات عالم الاجتماع ونظرياته ترتكز ضمنًا على الأقل على افتراض أن هناك عقولًا أخرى تعمل وتؤثر في الأحداث، حتى إذا لم يكن على وعي بأنه يفعل ذلك. وعلى النقيض من ذلك، لا يشير عالِم العلوم الطبيعية - باستثناء علم الأحياء - إلى وجود فكر واع عند تفسيره الأحداث في مجال تخصصه.
وهذا الوعي بوجود عقول أخرى - وحقيقة أن المفكرين الآخرين من البشر لديهم دوافعهم الخاصة - يسود العلوم الاجتماعية. ولا يقتصر الأمر أيضًا على صياغة النظريات من أجل تفسير الأحداث؛ فحتى «الحقائق» الأولية للعلوم الاجتماعية هي في حد ذاتها أمور عقلية، وليست طبيعية أو فيزيائية بحتة. على سبيل المثال: قد تصل عالمة اجتماع إلى نظرية تربط فيها ارتفاع معدل الجريمة بارتفاع معدل الطلاق. لكن لكي تتمكن حتى من جمع البيانات لاختبار صحة هذه النظرية، فإنها تحتاج إلى أن «تدخل عقول الناس» لكي تعرف أي الأحداث «تصنَّف» على أنها جرائم أو حالات طلاق من الأساس؛ فهذه ليست مجرد حقائق طبيعية ثابتة.
فحتى «الحقائق الأولية» للعلوم الاجتماعية تمتزج مع فهمنا لعقول الآخرين. أما في العلوم الطبيعية، فلا الحقائق الأولية ولا النظريات الموضوعة لتفسيرها تعتمد على تقدير نوايا كائنات عاقلة أخرى. فعالِم العلوم الطبيعية يمكنه أن ينظر إلى العالَم المادي ويحاول التوصل إلى تفسيرات للسلوك «العفوي» لهذا العالَم.
(٣) نجاح العلوم الطبيعية مقابل العلوم الاجتماعية
هناك تباين كبير بين علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء من جهة، وعلوم النفس والاجتماع والإنسان من جهة أخرى. يشير الأفراد إلى الفئة الأولى بالعلوم «الصلبة» وإلى الثانية بالعلوم «المرنة»، وهناك شعور عام - لا سيما بين علماء العلوم الصلبة - بأن العلوم التي يُطلق عليها «صلبة» تكون أكثر دقة و«علمية» من العلوم «المرنة»، وبوجه عام، فإن أكثر العلماء ذكاءً وأكثرهم شهرة في العالم، ينتمون إلى العلوم الصلبة؛ فإلى جانب أينشتاين حظي الفيزيائيان ريتشارد فاينمان وستيفن هوكنج بشهرة واسعة.
في المقابل، لا يعد حصد الجوائز في مجال علم النفس أمرًا جديرًا بالاعتبار بالقدر نفسه، وقليلون هم من يستطيعون ذكر أسماء أشهر علماء النفس في القرن العشرين. وفي الوقت الذي قد يدين فيه البعض علماء الفيزياء الذين اخترعوا الأسلحة النووية، فإن الأغلبية الساحقة تؤيد علم الفيزياء نفسه. وفي تناقض حاد آخر، نرى كثيرًا من الناس يشككون في بعض العلوم الاجتماعية - مثل الاقتصاد والطب النفسي - بل ويناصبونها العداء.
ما الذي يجري هنا؟ إذا لم نكن قد عرفنا الإجابة بعد، فربما كنا نتوقع أن تكون الأمور على عكس ما هي عليه، بحيث يحمل الرأي العام التقدير للعلماء الذين يدرسون «البشر» لا الجسيمات غير العاقلة.
إحدى الإجابات الممكنة أن العلوم الاجتماعية بررت الكثير من الأمور المروِّعة مثل العلاج بالصدمات الكهربائية لأشخاص محتجزين رغمًا عن إرادتهم، وذبح الحكومة ملايين من الخنازير أثناء فترة «الكساد الكبير» وقت أن كان الأمريكيون يتضورون جوعًا. لذلك، ربما تكون مثل هذه الأحداث سببًا في انعدام ثقة الكثيرين في الأطباء النفسيين وعلماء الاقتصاد. لكن بالمثل، لماذا لا يميل الأفراد إلى إلقاء اللوم على علماء الفيزياء بسبب كارثة هيروشيما، أو على الكيميائيين بسبب اختراع البارود؟
نعتقد أن السبب هو أن علْمَي الفيزياء والكيمياء اللذين يقفان وراء تصنيع الأسلحة العاتية «صحيحان». قال الفيزيائيون لقادة الجيش: «إذا أسقطتم هذا الشيء من إحدى الطائرات، فسوف يحفز هذا تفاعلًا انشطاريًّا يُطلق قدرًا هائلًا من الحرارة.» وقد كانوا دقيقين للغاية فيما توقعوه. وعلى العكس من ذلك تمامًا، قال الأطباء النفسيون لهيئة المحكمة: «امنحونا سلطة احتجاز من نظنهم مختلين عقليًّا، واسمحوا لنا بحقنهم بالعقاقير وبإجراء تجارب أخرى عليهم. هذا من شأنه أن يجعلهم أسوياء، مما يسفر عن مجتمع يضم أشخاصًا مهذبين لا يبدر منهم أي سلوك شاذ يضر بالمجتمع.» أيضًا أشار كثيرون ممن يُفترض أنهم من صفوة علماء الاقتصاد على الحكومات خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين قائلين: «دعونا نتحكم في الصحافة، وحينئذٍ سنجنب العالم الكثير من فترات الكساد المدمرة وتضخم الأسعار الحاد.» وهكذا، من الواضح أن سجل الأطباء النفسيين وعلماء الاقتصاد المرموقين ليس جديرًا بالثناء مثلما هو الحال مع علماء العلوم الطبيعية.
ولسبب ما يبدو أنه حتى أعظم العباقرة في العلوم الاجتماعية يمكنهم أن يقودوا العلوم التي يتخصصون فيها إلى نهايات مسدودة، بحيث يبدأ الكثيرون من الخبراء في المجال نفسه (وأيضًا عامة الناس) في الاعتقاد أن أحدث ما توصل إليه العلم حتى الآن ما هو إلا مضيعة للوقت. سوف يتفق الكثيرون أن «الطب النفسي كان على صواب … إلى أن ظهر سيجموند فرويد» أو أن «علم الاقتصاد أخذ منحنى بعيدًا كل البعد عن الصواب بعد ظهور جون ماينارد كينز على الساحة الاقتصادية». لكن لن تجد أحدًا يقول: «قدَّم إسحاق نيوتن الكثير من الإسهامات الرائعة في الفيزياء إلى أن ظهر أينشتاين غريب الأطوار وأتى عليها.»
من الأسباب المهمة وراء هذه الفجوة - بين نجاح العلوم الطبيعية والمكانة الرفيعة التي تحتلها من جهة، وبين الثمار المتواضعة للعلوم الاجتماعية ومعاداة البعض لها من جهة أخرى - أن الأشياء موضع الدراسة في العلوم الطبيعية بسيطة إلى حد ما، وسلوكها يبدو محكومًا بمجموعة محددة من القوانين. ومن ثمَّ، يمكن أن تعتمد العلوم الصلبة على تجارب موجَّهة من أجل تقييم نظرياتها. ولهذا السبب نجد الفيزياء أقل عرضة للوصول إلى الطريق المسدود الذي يظن كثيرون أنه حدث مع علم نفس فرويد أو اقتصاد كينز. أيضًا تضع نظريات الفيزياء تكهنات بشأن الأشياء في العالم المادي. وسيكون من العسير جدًّا على نظرية جديدة أقل شأنًا أن تسود في أحد العلوم الصلبة (كالفيزياء مثلًا)، لأن قلة شأنها ستتضح مرارًا وتكرارًا فيما يُجرى من تجارب. وقد جاهر أينشتاين بالاعتراض على بعض التأثيرات الفلسفية لنظرية الكم، لكن ما من عالم فيزياء واحد (بمن فيهم أينشتاين نفسه) استطاع أن يشكك في صحة تكهنات النظرية فيما يتعلق بالقياسات التجريبية التي أجريت على الجسيمات دون الذرية.
ولأن الجسيمات دون الذرية لا عقل لها (على حد علمنا)، فإنه لفهم سلوكها - لفهم طبيعة الجسيمات دون الذرية - ليس مطلوبًا من أي نظرية فيزيائية سوى أن تتنبأ بأقصى قدر من الدقة بما ستفعله هذه الجسيمات في مختلف الظروف. والآن، ينبغي أن نوضح أن الأمور ليست بهذا القدر من البساطة عندما يتعلق الأمر بالتطبيق الفعلي للفيزياء اليومية. يمكن لنظرية واحدة أن تعطي تكهنات أفضل من خلال بضع تجارب، في حين يمكن لنظرية أخرى أن تكون أكثر بساطة وتأثيرًا. وهناك بعض الفيزيائيين الذين يعتقدون في النظرية الأكثر تأثيرًا، ويبحثون عن أخطاء محتملة في التجارب التي تلقي بظلال الشك على نظريتهم المفضلة. ومع ذلك، فإنه في العلوم الصلبة وعلى المدى الطويل دائمًا ما تكون الغلبة للنظرية التي تعطي تكهنات أفضل على نحو أكثر تنظيمًا ووضوحًا من النظريات المنافسة الأخرى.
يظن معظم المتخصصين في العلوم الاجتماعية أن المنهج نفسه - «المنهج العلمي» - ينبغي تطبيقه في مجالاتهم أيضًا. لكن المشكلة تكمن في أن الأشياء التي يدرسونها لديها عقول بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد تبين أنه من العسير للغاية وضع مجموعة من القوانين الموجزة التي يمكنها أن تتنبأ بدقة بسلوك الأشخاص في مختلف الظروف. ففي العلوم الاجتماعية - لا سيما علم الاقتصاد - تكون الأمور أكثر تعقيدًا بكثير بحيث يستحيل في كثير من الحالات إجراء تجربة علمية منهجية موجَّهة حقًّا.
ولتوضيح هذا الاختلاف المهم بين العلوم الطبيعية وعلم الاقتصاد، سنفترض أولًا أن مجموعتين من علماء الفيزياء تتجادلان حول قوة الشحنة الكهربية التي يحملها جسيم ما. بعد إجراء إحدى التجارب باستخدام تقنية مهمة جديدة، تعلن إحدى المجموعتين في أستراليا أن النتائج السابقة بحاجة إلى تعديل. لكن ترد المجموعة الثانية بأن التجربة الأسترالية تشوبها بعض الأخطاء، لأن قرب المختبر من القطب الجنوبي أثر على دقة القياسات. ترى المجموعتان تسوية النزاع من خلال إجراء نفس التجربة في عدة خطوط عرض مختلفة، لكي يتبين هل النتائج تقترب من التقدير السابق كلما اقترب المختبر من خط الاستواء. والافتراضات الجوهرية وراء كل هذا البحث هي أن القوانين الأساسية التي تحكم سلوك الجسيمات واحدة، وأن من يقومون بإجراء التجربة يستطيعون تثبيت أي عامل آخر (ذي صلة) مع عزل تأثيرات الشحنة المغناطيسية المنبعثة من قطبي الأرض. تعطينا هذه القصة لمحة عن سبب نجاح علم الفيزياء؛ وفيها سبب وجيه بالفعل يجعلنا نعتقد أن علماء الفيزياء - بمرور السنوات - سيخرجون بنظريات أكثر دقة في التكهن بكيفية سير العالم المادي.
والأمور لا تكون على نفس هذا النحو من المباشرة والوضوح حينما تختلف مجموعتان من علماء الاقتصاد حول نظريات متعارضة. فعلى سبيل المثال: اعتقدت مجموعة من الاقتصاديين - الكينزيين - أن «الكساد الكبير» نجم عن انهيار في «الطلب الكلي»، وأنه كان على الرئيس هيربرت هوفر ومن بعده فرانكلين روزفلت أن يُحدثا عجزًا حكوميًّا كبيرًا - بإنفاق أموال مقترضة - لمواجهة الركود. لكن مجموعة أخرى من الاقتصاديين - المدرسة النمساوية - عارضت ذلك بشدة، وفكرت أن التدهور الأول الذي حدث في عام ١٩٢٩ نجم عن «انتعاش» سابق أحدثه بنك «الاحتياطي الفيدرالي»؛ البنك المركزي الأمريكي الذي أسسته الحكومة. ويقول هؤلاء إن هوفر وروزفلت جعلا الكساد يمتد إلى أكثر من عقد بسبب سياساتهما التدخلية الخاطئة. عارض النمساويون نظرية العجز الكينزية مشيرين إلى أن هوفر والبنك المركزي الأمريكي تسببا فيما كان في ذلك الوقت (وقت السلم) عجزًا قياسيًّا في الموازنة خلال فترتي إدارتيهما، وهو الأمر الذي تزامن مع أبطأ وأشق تعافٍ اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة. ويرد الكينزيون على ذلك بأنه على الرغم من أن العجز كان كبيرًا، فمن الواضح أن الحكومة لم تسرف في الاقتراض والإنفاق بدليل البطالة التي استمرت فترة طويلة.
وفي الوقت الراهن يظل الجدل غير محسوم، على الرغم من أن الاقتصاديين المحترفين ظلوا يتجادلون حول أسباب «الكساد الكبير» على مدى أكثر من سبعين عامًا. ولن ينتهي هذا الجدل، لأن ظروف الاقتصاد العالمي في أواخر عشرينيات القرن العشرين كانت فريدة من نوعها. ولا يمكن للاقتصاديين اختبار صحة النظرية الكينزية عن طريق، مثلًا، تثبيت كل العوامل الأخرى فيما عدا تضاعف عجز الموازنة الفيدرالية الأمريكية في عام ١٩٣٢، لكي يتمكنوا من ملاحظة تأثير ذلك على معدل البطالة.
ومما لا شك فيه أن الاقتصاديين الذين يجيزون - لأسباب أخلاقية أو سياسية - قدرًا أكبر من الإنفاق الحكومي سيميلون إلى الموافقة على الرأي الكينزي فيما يتعلق بأسباب «الكساد الكبير». ومما لا شك فيه أيضًا أن معارضي «الحكومة الكبيرة» سيميلون إلى المذاهب الاقتصادية التي تؤكد على فوائد تخفيض الضرائب، وتقليص الموازنات الحكومية. لكن عدم القدرة على إجراء تجارب منهجية موجَّهة هو ما يؤدي إلى استمرار مثل هذه النظريات المتعارضة كليًّا، بحيث يظل أفراد كلا الفريقين مقتنعين كل الاقتناع بأنهم على حق وبأن معارضيهم إما محتالون أو حمقى. وليس هناك وجود لمثل هذه المشاعر في العلوم الطبيعية، لأن حقائق هذه العلوم «تتحدث عن نفسها» بدرجة تفوق ما يحدث في العلوم الاجتماعية.
لكننا لحسن الحظ لم نفقد كل شيء. فعلى الرغم من أن مناهج العلوم الطبيعية محدودة الاستخدام في علم الاقتصاد، فإن هناك أساليب أخرى لاكتشاف مبادئ الاقتصاد أو قوانينه اعتمادًا على تقنيات غير متاحة للكيميائي أو الفيزيائي.
(٤) تطوير أساسيات علم الاقتصاد
كما أوضحنا سالفًا، يواجه واضعو النظريات الاقتصادية مشكلتين كبريين؛ فالأشياء التي هو موضوع دراستهم لديها عقول، فضلًا عن أن إجراء تجربة موجَّهة في الاقتصاد أكثر صعوبة منه في علم طبيعي كالكيمياء. وتفسر هذه الاختلافات إلى حد ما السبب في أن العلوم التي يطلق عليها صلبة تشتهر بالموضوعية والنجاح أكثر من العلوم المرنة، بما فيها علم الاقتصاد.
بالرغم من ذلك يتمتع الاقتصادي بميزة هائلة لا يتمتع بها عالِم العلوم الطبيعية؛ فواضع النظرية الاقتصادية هو نفسه كائن مفكر ذو أهداف واعية. ونظرًا لأن لديه رؤية عضو فاعل في العملية الاقتصادية، يسهل عليه فهم الدوافع والمعوقات التي تواجهها الأطراف الأخرى الفاعلة في العملية الاقتصادية. وعلى النقيض، فإن فيزيائي الجسيمات ليست لديه أي فكرة عن «كيف يكون الحال إذا كان كواركًا»، ولذا لا بد أن يعتمد الفيزيائي حصريًّا على التقنيات التجريبية المألوفة للتعرف على سلوك الكواركات.
وبدلًا من النظر إلى علمي الفيزياء أو الكيمياء للاستفادة منهما في وضع المبادئ الاقتصادية المفيدة، يمكننا الاستعانة بعلم الهندسة من أجل الحصول على نتيجة أفضل. ففي الهندسة القياسية (أي الإقليدية) نبدأ ببعض التعريفات والافتراضات الأساسية التي تبدو معقولة إلى حد بعيد. فمثلًا: نحن نعرّف كلًّا من «النقطة» و«الخط»، ونشرح معنى «الزاوية» التي تشكلت نتيجة تقاطع خطين أحدهما مع الآخر، وهكذا.
وما إن تصبح لدينا التعريفات والافتراضات الأساسية، يمكننا استخدامها للبدء في وضع «النظريات»، وهي كلمة معبرة تشير إلى «الاستنتاج المنطقي» للنتائج الخاصة بتعريفاتنا وافتراضاتنا الأساسية. وأي كتاب في الهندسة يبدأ بأهم النظريات الأساسية، ثم يستخدم كل نتيجة جديدة لاستنتاج شيء أكثر تعقيدًا. فمثلًا، هناك نظرية مبسطة تقول: «إذا رسمنا أربعة خطوط تشكل مستطيلًا، فيمكننا رسم خط خامس يقسم المستطيل إلى مثلثين متطابقين.» وحالما تثبت صحة هذه النظرية (المبسطة للغاية)، يمكننا أن نضيفها إلى صندوق أدواتنا، بل يمكن لنظريات لاحقة أكثر تعقيدًا استخدام هذه النظرية في إحدى خطواتها.
مصطلحات جديدة
الفعل المتعمد: فعل يؤدَّى من أجل سبب محدد؛ أي سلوك وراءه هدف.
الاقتصاد الكينزي: مدرسة فكرية (منسوبة إلى جون ماينارد كينز) ترى في عجز موازنة الحكومة حلًّا للخروج بالاقتصاد من حالة الركود واستعادة التوظيف الكامل.
عجز الموازنة: المبلغ الذي يتعين على الحكومة اقتراضه عندما تتجاوز نفقاتها ما تجمعه من ضرائب وموارد دخل أخرى.
الاقتصاديون النمساويون: مدرسة فكرية (منسوبة إلى كارل مينجر وآخرين تصادف كونهم نمساويين) تلقي بلائمة الركود على تدخل الحكومة في الاقتصاد، وتوصي بتخفيض الضرائب وتقليل الإنفاق بغرض مساعدة الاقتصاد أثناء الركود.
الاستنتاج المنطقي: أحد صور الاستدلال يبدأ بواحدة أو أكثر من المسلَّمات، ويتحرك خطوة بخطوة حتى يصل إلى نتيجة.
المسلَّمات: الفرضيات المبدئية أو الأساسات وهي إحدى منظومات الاستنتاج. على سبيل المثال: يمكن أن تكون طريقة مد خط مستقيم بين نقطتين من المسلَّمات في أحد كتب الهندسة. والمسلَّمات لا تُثبَت، بل تُفترض صحتها من أجل إثبات أمور أخرى أقل وضوحًا.
اضف تعليق