البكاء وإقامة المآتم يعتبران لوناً من ألوان المواساة لأهل البيت، والشعائر الحسينيّة هي بمثابة تعزية للرسول الأكرم بذبح سبطه وولده الحسين وأهل بيته وسبي عياله، وهذه المواساة نتوسّم منها نيل الأجر وعظيم المثوبة، فإنّ من صفات شيعتهم وأتباعهم أنّهم يفرحون لفرحهم ويحزنون لحزنهم. وهو تعظيم لقدره وتجليل...

 في بداية كل سنة هجرية، في شهر محرم الحرام، يُحيي الشيعة ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ومعه ثلة من أهل بيته وأصحابه في واقعة كربلاء في السنة (61 ه) وفي كل سنة؛ يتساءل بعض الناس عن أسباب استذكار هذه الملحمة الكبرى التي مضى عليها نحو (1400) سنة، دون غيرها من الأحداث التاريخية. 

 ومن بين هذه الأسئلة السؤال الآتي: لماذا تحزنون وتبكون، والحزن والبكاء منهي عنه في الإسلام؟ ولماذا تبكون الحسين (عليه السلام) كل سنة، وهو سيد شباب أهل الجنة؟ كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في الحديث عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (الحَسَنُ والحُسَينُ سيِّدَا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ) [4706] أخرجه الترمذي (3768)، وأحمد (11594). صحَّحه الترمذي، وأبن حبان في (صحيحه) (6959)، والحاكم في (المستدرك) (4778).

لماذا تبكون على الحسين (عليه السلام) بالذات دون غيره من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)؟ ولماذا لا تبكون على رسول الله (صل الله عليه واله وسلم) فهو أفضل من الحسين (عليه السلام) وأعظم شأنا، ولماذا لا تبكون على أبيه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أفضل منه، وأعظم شأنا أيضا؟

يُعد الحزن أمرًا فطريًّا طبيعيًّا، يستجيب له الإنسان بشكل لا شعوري، فيحزن على ما فاته، أو أصابه من مصائب الدنيا؛ التي لا تخلو حياة الإنسان منها؛ كفقد الأحبة، أو جفوتهم، أو غير ذلك من المكروهات التي تصيب الإنسان. وقد وردت كلمة (حزن) وصيغها في القرآن الكريم (٤٢) مرة، مثال قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وقوله: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)، وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام يحزن على فقد ولده يوسف عليه السلام حزنًا شديدًا كاد يهلك من شدته. يقول الله تعالى (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). 

والبكاء حالة تعتري الإنسان من الهم وضيق القلب مع جريان الدمع على الخد. وردت كلمة بكي وصيغها في القرآن الكريم (٧) مرات. قال اللهُ تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)، وقوله: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)، وقوله: (إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)، وقوله (...وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)، فالبكاء عموما دليل الصدق والإخلاص، وهو من سمات الخاشعين، ومن علامات الخائفين، وهو دليل المعرفة والتبصر 

والبكاء سنة نبوية ثابتة عند جميع المسلمين. ذكر النسائي في سننه في كتاب الجنائز قوله: أن رسول الله زار قبر أمه آمنة بنت وهب فبكى عند القبر وأبكى من حوله. أقول: إذا كان رسول الله قد بكى على الموتى، فكيف يكون البكاء على الميت محرما، وغير مشروع؟ وقد صنعه الرسول بنفسه، وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله) يعتبر إقرارا، والإقرار سنة؛ لأن فعل الرسول، أو حتى سكوته عن الفعل إقرار منه وسنة فعلية.

 وروي في صحيح البخاري في كتاب فضائل الصحابة قال: صعد رسول الله (ص) المنبرـ وذكر واقعة مؤته، وقال: “لقد أخذ الراية زيد بن حارثة وأصيب، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب وأصيب، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحه وأصيب، ثم بكى رسول الله ودموعه تذرف على خديه”. السؤال هو: -إذا كان البكاء على الميت غير مشروع أو حرام؛ فلماذا بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

 وروى البخاري في “كتاب الجنائز” عن عبد الله بن عوف أنه قال: أدخلنا على رسول الله وولده إبراهيم يجود بنفسه، فرأينا رسول الله يبكي، قلنا: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: إنها رحمة العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفرقك يا إبراهيم المحزونون. فالرسول في هذه الرواية يبكي على ولده إبراهيم.

وأما الحزن والبكاء لمصيبة الحسين عليه السلام؛ فقد ورد في البكاء على الحسين عن الإمام زين العابدين عليه السلام: بكاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لمّا أخبر النبيّ بأنّ السيّدة فاطمة تلد الإمام الحسين عليهما السلام، أخبر أيضاً بشهادته، فبكى فلمّا وضعه وأُتي به إليه في تلك الساعة وهو ملفوف في خرقة، أذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره، ونظر إليه ورثاه وبكى وهو يقول: "سيكون لك حديث، اللهمّ العن قاتله"، ثمّ لما أتى عليه سبعة أيّام عقّ عنه كبشاً أملح، وحلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقاً، وخلّق رأسه بالخلوق (طيب مركّب من الزعفران) ثمّ وضعه فيحجره ورثاه وبكى وهو يقول: "يا أبا عبد الله، عزيز عليّ" ثمّ بكى. ثمّ قال: "اللهمّ إنّي أسألك فيما سألك إبراهيم عليه السلام في ذريّته، اللهمّ إنّي أُحبّهما وأُحبّ من يحبّهما، والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض".

عن ابن عبّاس قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خروجه إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات، قال بأعلى صوته: "يا بن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟" قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين فقال عليّ عليه السلام: "لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي". قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً وهو يقول: "أوه أوه، مالي ولآل أبي سفيان؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟ صبراً يا أبا عبد الله فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم".

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقابا"، وقوله في مناجاته بعد صلاته: "يا من خصّنا بالكرامة، ووعدنا الشفاعة... اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين... اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حفرة أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا. ورغم شجاعة السيّدة زينب عليها السلام وصلابتها في كربلاء لم يمنعاها من التأثّر والبكاء عند المصيبة الكبرى والفاجعة العظمى.

نحن الشيعة نبكي على رسول الله لفقده، ونبكي على علي بن أبي طالب وصي رسول الله، فهما أبوا هذه الأمة كما ورد عنه (ص) ونحن نبكي على الحسين وأهل بيته في ذلك اليوم، حينما نتذكر ما جرى في ذلك اليوم من مصائب على ذرية رسول الله (عليه السلام) من عطش الحسين (عليه السلام) وأهله وأصحابه، ورؤية الحسين (عليه السلام) لأهله وأحباه صرعى أمامه وبقائه وحيدا، وذبح الحسين كما يذبح الكبش وهو سبط النبي (صلى الله عليه واله) وريحانته وسيد شباب أهل الجنة... ورفع رأس الحسين ورؤوس القتلى على الرماح... وحرق الخيام وإيذاء النساء والأطفال وسبيهم وكأنهم ليسوا ذرية رسول الله (صلى الله عليه واله)... عندما يتذكر المؤمنون كل ذلك، فإنه من الطبيعي أن ينبعث من قلوبهم ما لا يتمالكون أنفسهم... فتحترق قلوبهم ألما وتسيل دموعهم حزنا على هذا المصاب الجليل الذي لم يشهد التاريخ مثله...

ملخص القول إننا نحزن على الحسين ونبكيه وذلك لأجل: 

1. مواساة أهل بيت العصمة عليهم السلام: إنّ البكاء وإقامة المآتم يعتبران لوناً من ألوان المواساة لأهل البيت عليهم السلام، والشعائر الحسينيّة هي بمثابة تعزية للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بذبح سبطه وولده الحسين عليه السلام وأهل بيته وسبي عياله، وهذه المواساة نتوسّم منها نيل الأجر وعظيم المثوبة، فإنّ من صفات شيعتهم وأتباعهم أنّهم يفرحون لفرحهم ويحزنون لحزنهم.

2. الإجلال والتعظيم: إنّ البكاء على الحسين عليه السلام هو تعظيم لقدره وتجليل لمقامه وتبيان لعظيم كرامته أمام جميع الناس، وبالتالي فإنّ بكاءنا هنا هو إعطاء شخصيّة الحسين عليه السلام عظمتها ومكانتها في نفوسنا.

3. ظهار المحبّة والولاء: إنّ البكاء على الإمام الحسين عليه السلام يعني أنّنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم وعدوّ لمن عاداهم، فالحزن والبكاء عليه هما إعلان الولاء والانتماء والبيعة له ولأهل البيت عليهم السلام.

4. تعليم مبادئ ثورة الحسين عليه السلام: فالبكاء يستهدف التفاعل القلبيّ والروحيّ مع المبادئ التي طرحها الإمام الحسين عليه السلام والانصهار بها، تلك المبادئ التي خلّدت الإسلام كالمطالبة بالحقّ المغصوب، والرفض القاطع للظلم، والتفاني والإيثار، والجهاد بكلّ غالٍ ونفيس، لذلك اعتبر البكاء على الحسين عليه السلام وسيلة لتربية النفس البشريّة.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

[email protected]

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق