عالم الأفكار يؤدي إلى بناء الوعي واليقظة في فهم الأشياء وإدارة الشيء الذي تستخدمه أو تعيش معه، فالأبعاد الثلاثة التي تشكل عالم الاشياء المادي (الطول والعرض والارتفاع)، تحتاج الى بعد رابع وهو (الوعي)، حتى يحسن الانسان التعامل ويديرها بصورة صحيحة، وإلا ستصبح الأمور فوضى وهذا البعد...
عالم الأفكار هو مفهوم يطرح في مقابل مفهوم عالم الأشياء، لأنه كل الكوارث التي قد تحصل في العالم سببها التمحور في عالم الأشياء، فالإنسان عندما يكون مستغرقا في الأشياء والماديات، بالنتيجة تغيب عنه الرؤية والقدرة على فهم الأمور والنظر إلى المستقبل قبل أن تقع الكارثة وهو منشغل في عالمه الشيئي الخاص.
الاستباق بمعنى التغلّب، السبق، أو المسابقة، كما في الآية القرآنية (فاستبقوا الخيرات)، فالإنسان الذي يستبق وقع الكوارث يتغلب على وقوعها، ليس بمعنى أن يوقف وقوع الكارثة، وإنما يحتوي الأضرار التي قد تتسبب بها الكارثة، فالكوارث تكون على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: كوارث طبيعية مباشرة دون أن يكون هناك تدخل للبشر في حدوثها.
النوع الثاني: كوارث طبيعية يكون للبشر يد في حدوثها. فيتسبب البشر بمثل هذه الكوارث مثل الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي.
النوع الثالث: كوارث يصنعها البشر، مثل الحوادث المرورية، او الامراض الجسدية التي تتسبب بها الأغذية المصنعة.
فالاستباق بمعنى أن يكون الإنسان مستشرفا أو متنبئا أو متغلّبا على وقوع الكوارث، في الأنواع الثلاثة للكوارث.
بالنسبة لعالم الأشياء، هذا العالم يحجب الوعي عن الإنسان ويغلف وعيه بالماديات، وبالنتيجة يؤدي بالإنسان إلى الرؤية بعينه فقط، وينظر بحواسه، لأنه يحرك نوازع الطمع فيه، فالإنسان يريد أن يتملك الأشياء ولديه حب التملك، والاستملاك والحصول على الأشياء بأي ثمن كان، والطمع كما عن الإمام علي (عليه السلام): (الطمع رق مؤبد) يجعل الإنسان عبدا. فبالنتيجة هو لا ينظر الى العواقب ولايهتم إلى ما قد يحدث من مشكلات أو ما يأتي من مخاطر.
أيضا عالم الأشياء هو عالم الربح السريع، دون التفكير بالعواقب، فالمهم كم يحقق من أرباح وهذا ما نراه الآن في المشكلة الأساسية في قضية التغير المناخي التي نعاني منها الآن، فكل المشكلات الموجودة الآن بالنسبة للكوارث الطبيعية سببها هو الاحتباس الحراري، وسببه النشاط البشري الذي يؤدي الى اختلال الطبيعة، مثل بعض الأعاصير والسيول المطرية والعواصف الترابية، فالاحتباس الحراري يؤدي الى انحباس الأمطار في السماء دون أن تهطل بشكل متدرج، بل تسقط فجأة فتؤدي إلى سيول وانهيارات طينية كارثية.
فزيادة النشاط البشري التجاري والتصنيعي الكبير، هو السبب، لان الشركات الرأسمالية أهم هدف عندها هو أن تحافظ على النمو الاقتصادي وعلى زيادة الأرباح بالنسبة لحملة الاسهم، حيث يرى القائمون على القطاع الرأسمالي انه لا يمكن أن نوقف حركة هذا الاقتصاد، لأننا إذا أوقفناه إلى حد معين واحتويناه فسوف يؤدي هذا إلى انخفاض الأرباح وانخفاض النمو الاقتصادي، وبالنتيجة انخفاض الناتج المحلي مخلفا أزمات أخرى مثل الركود والبطالة.
الربح السريع هو تحقيق الربح دون أن النظر إلى المخاطر، وهذا هو أحد أهم أسباب الكوارث، اي البقاء في عالم الأشياء دون التفكير في المخاطر. فالشيء الذي ينتج عن عالم الأشياء هو اللذة والمتعة بأي ثمن عبر الاشباع الغريزي المتطرف.
فهناك بشر يحب الطعام، فيذهب للمطاعم بكثرة دون أن يفكر بالعواقب التي قد تحدث له مثل انسداد الشرايين، أو صعود ضغط الدم وارتفاع السكري، فهذه اللذة حجبت الإنسان وجعلته قابعا في عالم الأشياء دون أن يفكر بالمخاطر التي ستؤدي إلى إصابته بالأمراض.
أيضا هناك من يفكر بالحاضر فقط، وحتى لو فكر بالمستقبل، فإنه يفكر ماذا سيحصل له في الحاضر من خلال تفكيره في المستقبل، لذلك فإن النفاق والانتهازية والكسب من دون قواعد ومن دون قوانين، مع وجود الفساد، فهذا يعني إن الإنسان يعيش في الحاضر فقط، ولا يفكر بالمستقبل ولا بالعواقب، ولا بالعقاب، ولا يفكر بما يحدث في يوم القيامة، وبالجزاء والنتائج المترتبة عليه.
وهناك أقوال معروفة حيث يرددها الناس ومنها (الشاطر هو الذي يعبّي السلة بالعنب)، فهذا المثل أن الإنسان يبقى في الحاضر ومرتهنا له، فأي شيء تحصل عليه في الحاضر معنى ذلك إنك رابح، فلا تعبأ ولا تهتم بالمستقبل ولا تفكر به، هذا بالنسبة إلى عالم الأشياء.
عالم الابعاد الاربعة
أما عالم الأفكار فإنه يؤدي إلى بناء الوعي واليقظة في فهم الأشياء وإدارة الشيء الذي تستخدمه أو تعيش معه، فالأبعاد الثلاثة التي تشكل عالم الاشياء المادي (الطول والعرض والارتفاع)، تحتاج الى بعد رابع وهو (الوعي)، حتى يحسن الانسان التعامل ويديرها بصورة صحيحة، وإلا ستصبح الأمور فوضى وهذا البعد الرابع هو الفرق بين الإنسان والحيوان.
فالإنسان توجد لديه إدارة لحياته، من خلال عقله وقدرته على فهم الأشياء بصورة صحيحة وسليمة فيديرها بالصورة السليمة، كذلك عالم الأفكار يعطي للإنسان البصيرة، ويحرر الإنسان من هيمنة الحواس، فأخطر شيء في الإنسان عندما تهيمن الحواس على بصيرته، لكن نلاحظ اليوم أن المشكلات التي نعيشها خصوصا في شبكات التواصل الاجتماعي أن السمع والبصر هما المسيطران على فهمنا لأمور الحياة، لذلك تكون الأفكار مزيفة وتضليلية هدفها منع الناس من الوعي واليقظة وابقائهم مستعبدين في عالم الأوهام.
لكن عالم الأفكار يبني الإنسان ويحرره من هيمنة الماديات ويخرجه منها ويضعه في إطار البصيرة ورؤية ما خلف الجدار، فالبصيرة هي رؤية ما خلف الجدار، الرؤية للمستقبل، التفكير العميق والرؤية العميقة للأشياء لكي نعرف كيف ندير الأشياء.
عالم الأسباب والمسببات
كذلك يؤدي عالم الأفكار إلى القدرة على فهم عالم الأسباب والمسببات، وهو عالم مهم جدا، فلا يصح أن يصبح العلم تجاريا أو عشوائيا، وإنما هناك اسباب ومسببات، وهي بمثابة قواعد تنقسم إلى نوعين هما:
أولا: قواعد تكوينية.
ثانيا: قواعد تشريعية.
لذا فإن فهم عالم الأسباب والمسببات يحتاج من الإنسان إلى أن يغوص في عالم الأفكار ويتعمق فيه حتى يعرف ما هو السبب وما هو المسبب، وعندما يعرف ما هي العلاقة بين الأسباب والمسببات، سوف يؤدي ذلك إلى القدرة على استكشاف النتائج والتنبؤ بها.
عالم الاخلاق
كذلك عالم الأفكار يضع الإنسان في إطار المعايير الأخلاقية العقلانية المستقيمة، أما عالم الأشياء فعلى العكس من ذلك، يبقي على الإنسان في عالم اللذة، وعالم الغريزة بينما عالم الأفكار يضع الإنسان في الغريزة العقلانية، فبالنتيجة يركز على الثقة كأسلوب حياة، وهذا كله يؤدي إلى التفكير في العواقب والنتائج.
ولتجنب الوقوع في الكوارث بالاستفادة من عالم الأفكار لابد:
أولا: العقيدة التربوية بين المادية والمعنوية
العقيدة التربوية الحالية في مجتمعاتنا سواء كانت في الأسرة، أو في المدرسة، أو التعليم العالي، تضع الإنسان من ناحية المدخلات في عالم الأشياء، أي المهم الحصول على وظيفة بأي ثمن، ولا تضعه في عالم صناعة الإنسان الفكرية والمعنوية.
فاليوم الأب يعلّم ابنه منذ الصف الأول على أن يصبح طبيبا، ليس لمعالجة الناس فقط، وإنما للحصول على مبالغ مادية جيدة، هذه عقيدة تربوية، تحصر الإنسان في عالم الأشياء وليس في عالم الأفكار، لذا فالعقيدة التربوية جوهرية في بناء السلوك الإنساني.
إذا لاحظت اليوم فوضى في الشارع وانتهاكا للنظام، فإن هذا يأتي كنتيجة لتراكم السلوك منذ اليوم الأول للإنسان، فالسلوك المتراكم هو الذي يعطي المعرفة، فالإنسان عندما يكرر سلوكية معينة، يصل إلى مرحلة معينة من هذا التراكم فتصبح قيمة راسخة في سلوكه، لذا فالقيمة هي نتاج مجموعة السلوكيات التي تتراكم عند الإنسان. لذلك لابد أن نهتم منذ الصغر في عملية بناء التراكم السلوكي في التأكيد على بناء الحالة المعنوية دون الانغماس في المادية.
ثانيا: تسليط الضوء على المخاطر
عبر وجود مؤسسات إرشادية، ففي كل مكان لابد أن تكون هناك مؤسسة ترتبط بنا لتعطينا الرؤية للمخاطر، أضرب لكم مثالا حول ذلك، البنوك غرقت في الأزمة المالية، وأعلنت إفلاسها بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، حيث كانت سندات الديون التي استثمرتها تعتمد على أسعار الفائدة المنخفضة، ولكن لماذا لم تتنبأ مسبقا هذه البنوك بالمخاطر؟
لقد كان عملها كله يركز على الأرباح، وكل أرباحهم تقوم على الديون، أي شراء الديون وبيعها، بالإضافة إلى أنها لم تكن مرتبطة بمؤسسة فكرية تركز على المخاطر من خلال دراسات هيكلية مستمرة حتى توضح لها المخاطر في القادم من المستقبل، لكي تتجنب مخاطر الأزمات المالية التي قد تحدث.
لذلك هناك حاجة اساسية إلى مؤسسات إرشادية، فالكل يحتاج إلى هذا الأمر حتى الأسرة تحتاج إلى مؤسسة إرشادية تعطيها رؤية للمخاطر التي قد تواجه أبناء الأسرة، أو قد تواجه رب العائلة في القضايا الاقتصادية، من حيث الادخار الانفاق الاستهلاك إدارة الموارد فكل إنسان يحتاج إلى هذا النوع من الإرشاد.
ثالثا: التثقيف بالوعي أو ثقافة الوعي
هذا الشيء غير موجود لدينا، ويعد شيئا غريبا، ربما بعض الفلسفات تركز على الوعي، فالوعي له اهمية في الشعور بالذات وبناء اليقظة الذهنية، التي تركز باستمرار على مراقبة سلوك الإنسان وإدراك أفكاره، مثلا اليقظة الذهنية في الطعام، إلى أين يوصله هذا الأكل، هل هو كحاجة جسمية أم كرغبة وشهوة؟
لذا نحتاج في كل أنماط حياتنا الصحية والمادية والتربوية والاجتماعية والسياسية، إلى يقظة ذهنية حتى يكون الإنسان دائما في حالة فهم للمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها.
عالم الأفكار المتوحشة
وجواب على اشكال مطروح، أن الأفكار المتوحشة الموجودة في العالم التي تسببت بكوارث هائلة، هي أسيرة لعالم الأشياء، فالرأسمالية هي التي أنتجت كل أفكار ما بعد الحداثة، فهي إنتاج رأسمالي خالص، هذه الأفكار في أساسها ومحورها تابعة لعالم الأشياء، فهذه الأفكار لا تنتمي إلى الأفكار الخالصة، وإنما هي عالم الأفكار المرتهنة لعالم الأشياء.
اضف تعليق