فبعد ثلاثة عقود ونصف من الزمن، حيث استفادت كل المجموعات الديموغرافية إلى حد كبير من النمو الاقتصادي، انهار نمط الرخاء المشترك. ورغم أن بعض التكاليف الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن ذلك جرى تحييدها عن طريق الضرائب والتحويلات، فإن هذا لا يغير من حقيقة مفادها أن اقتصاد السوق جنبا...
بقلم: دارون عاصم أوغلو
بوسطن ــ قفزت المناقشات حول اتجاهات التفاوت في الولايات المتحدة من صفحات المجلات الأكاديمية إلى منافذ إعلامية رائدة. وفي حين يتساءل المحافظون منذ فترة طويلة ما إذا كانت فجوة التفاوت في الولايات المتحدة اتسعت حقا، فقد ساهمت مجلة الإيكونيميست مؤخرا في الحوار، فخلصت إلى أن "فكرة اتساع فجوة التفاوت بعيدة كل البعد عن كونها حقيقة واضحة بذاتها". من المؤسف أن هذا الجدال تسبب في التشويش على عِـدّة قضايا بطريقة غير مفيدة.
الواقع أن التصورات حول التفاوت عديدة، وكل منها يتعلق بسؤال مختلف ويزداد تعقيدا بسبب تحديات القياس الفريدة المرتبطة به. يتمثل المقياس الأكثر وضوحا ومباشرة هنا في التفاوت في دخل العمل، والذي يشير إلى ما يحصل عليه أصحاب الدخل المرتفع مقارنة بأصحاب الدخل المنخفض. عندما نتحدث عن أداء العاملين الحاصلين على شهادات جامعية مقارنة بأولئك الذين يحملون شهادة الدراسة الثانوية فقط، فإننا نتحدث أيضا عن التفاوت في دخل العمل.
لا شك أن قياس دخل العمل ليس بالمسألة البسيطة، لأن بعض الدخل المكتسب لا يُـبـلَـغ عنه، كما يستعين بعض الأفراد الذين يتقاضون أجورا شديدة الارتفاع باستراتيجيات تجعل دخلهم من العمل يبدو وكأنه دخل رأسمالي (الذي يخضع لشريحة ضريبية أقل). علاوة على ذلك، عندما يتعلق الأمر بتحديد ما إذا كانت الأجور الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) ازدادت، تدور مناقشة محتدمة حول ما إذا كان مؤشر أسعار المستهلك يبالغ في تقدير التضخم الحقيقي. ولكن حتى بعد وضع هذه المسائل في الحسبان، يتبين لنا دون أدنى شك أن التفاوت في دخل العمل قد ارتفع على الأقل منذ عام 1980، وأن هذا الاتجاه استمر منذ الركود العظيم بعد عام 2008.
يتناقض هذا الاتجاه بشكل صارخ مع فترة ما بعد الحرب، عندما كان التفاوت في دخل العمل مستقرا أو في انحدار. خلال الفترة من خمسينيات إلى أوائل سبعينيات القرن العشرين، كان العمال الحاصلون على شهادة الدراسة الثانوية أو أقل يتمتعون بنمو حقيقي في الأجور بذات معدل نمو أجور أولئك الذين يحملون شهادة جامعية أو أكثر. لكن هذا النمط من الرخاء المشترك انتهى في وقت ما في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. ففي حين استمرت الأجور الحقيقية التي يحصل عليها العاملون من حاملي الشهادات الجامعية في الارتفاع بشكل مضطرد، فإن العمال الذين لا يحملون شهادات جامعية يكسبون اليوم أقل من كَسبهم في عام 1980. على النقيض مما تقترحه الإيكونيميست، فإن هذا النمط العام لا يداخله شك.
ففي حين تُظهِر دراسة حديثة أجراها ديفيد أوتور، وأرين دوبي، وآني ماكجرو أن الأجور في القسم الأدنى من التوزيع بدأت تزداد أخيرا في عام 2015 تقريبا ــ الأمر الذي أدى إلى تقلص الفجوة بين الأعلى والأدنى بشكل ملحوظ بعد عام 2020 ــ فلا يزال أولئك عند القاع يكسبون أقل كثيرا، نِسبة إلى الأعلى، مقارنة بما كانوا يكسبون في عام 1980. يستند تعريف ثان للتفاوت إلى الدخل الإجمالي (قبل الضريبة والتحويل)، الذي لا يشمل دخل العمل فحسب، بل وأيضا الدخل من أرباح الأسهم، ومكاسب رأس المال، وأرباح الأعمال المسجلة في الإقرارات الضريبية. المشكلة في هذا المقياس هي أن دخل الأعمال لا يُـبـلَغ عنه دائما، ولا تظهر أشكال أخرى من دخل رأس المال في السجلات الضريبية إلا عندما تتحقق مكاسب رأسمالية (كأن يبيع شخص ما بعض الأسهم بمبلغ أكبر من الذي دفعه مقابلها).
مع ذلك، هناك اتفاق عريض حول ما حدث "للتفاوت المرصود في إجمالي الدخل" أو "التفاوت في الدخل المالي"، والذي يعبر ببساطة عن الدخول الإجمالية في الإقرارات الضريبية. وهنا، ارتفعت حصة شريحة الواحد في المائة الأعلى من نحو 8% قبل عام 1980 مباشرة إلى ما يقرب من 18% بحلول عام 2019؛ وعندما نضم مكاسب رأس المال، ترتفع النسبة إلى أكثر من 21%.
ينشأ قسم كبير من المناقشة الدائرة حاليا عن عمل أساسي أجراه توماس بيكيتي، وإيمانويل سايز، والمنهجية التكميلية التي عملا على تطويرها بالتعاون مع غابرييل زوكمان. يرصد هذا الثلاثي الدخل الرأسمالي غير المبلغ عنه بطريقة تتابع عن كثب توزيع الدخل الرأسمالي المبلغ عنه، فتتوصل بالتالي إلى زيادة مماثلة في عموم الأمر في حصة الدخل الإجمالي لأعلى 1٪ مقارنة بحصتها من الدخل المالي المرصود. ولكن الآن، يتحدى العمل الذي نشره مؤخرا الاقتصاديان جيرالد أوتن وديفيد سبلنتر، النتائج الشهيرة التي توصل إليها الثلاثي.
يتعلق جزء من الخلاف بالدخل الرأسمالي غير الخاضع للضريبة، سواء كان ذلك بسبب التهرب الضريبي أو الإعفاءات المختلفة، كتلك التي تنطبق على أرباح الشركات المحتجزة والدخل في مختلف حسابات التقاعد والصناديق الائتمانية. وبما أن هذا العنصر غير الخاضع للضريبة يمثل الآن وفقا للتقديرات ما يقرب من 90٪ من إجمالي الدخل الرأسمالي، فإن السؤال هو كيف يجري توزيعه. يفترض أوتن وسبلنتر أن الدخل الرأسمالي غير الخاضع للضريبة يُـوَزَّع بشكل أكثر تساويا من توزيع بيكيتي، وسايز، وزوكمان له، ويقدران أن مطالبة شريحة الواحد في المائة الأعلى بهذا الدخل أقل كثيرا من حصتها في الدخل الرأسمالي المرصود (15% مقابل نحو 50٪ لدخل رأس المال الخاضع للضريبة اليوم).
ولا يخلو الأمر من أسباب وجيهة وراء حصول شريحة الواحد في المائة الأعلى على حصة أقل من الدخل الرأسمالي غير الخاضع للضريبة مقارنة بالدخل الرأسمالي الخاضع للضريبة (على سبيل المثال، لا تعلن العديد من الشركات الصغيرة عن دخولها، وكثير من الأميركيين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة لديهم حسابات تقاعد). ولكن نظرا للخيارات العديدة المتاحة لأصحاب الثراء الفاحش لتجنب سداد الضرائب والتهرب منها، يبدو من غير المعقول أن نفترض أنهم يسيطرون حقا على مثل هذه الحصة الصغيرة من الدخل الرأسمالي غير الخاضع للضريبة.
علاوة على ذلك، حتى مع تعديلات أوتن وسبلنتر، ازدادت حصة أعلى 1% في الدخل الإجمالي خلال الفترة من عام 1980 إلى اليوم، وإن كان ذلك بنسبة أقل كثيرا مما توصل إليه بيكيتي، وسايز، وزوكمان. عندما يزعم أوتن وسبلنتر، وبعض العاملين في وسائل الإعلام، أن فجوة التفاوت لم تشهد أي زيادة، فإنهما يشيران إلى مؤشر مهم آخر: مستوى التفاوت بين الناس بعد الضرائب والتحويلات. يصعب قياس هذا الأمر بشكل خاص، لأن قدرا كبيرا من إعادة التوزيع متأصل في قانون الضرائب في الولايات المتحدة، كما أن نظام تحويل الضرائب الأوسع هناك معقد إلى حد غير عادي.
على سبيل المثال، تحديد من الذي يحصل على المزايا التي يدفعها صاحب العمل ودخل التقاعد ليس واضحا على الإطلاق. وهنا، يجري أوتن وسبلنتر مزيدا من التعديلات ويتوصلان إلى الخلاصة الرئيسية من عملهما ومفادها أن حصة أعلى 1% بعد خصم الضرائب والتحويلات ظلت شبه ثابتة، عند مستوى 8% تقريبا، منذ ستينيات القرن العشرين. ولكن لأن تقديرات أوتن وسبلنتر لحصة أعلى 1% من الدخل الإجمالي من المرجح أن تكون أقل من الحقيقية (نظرا لتعاملهما مع الدخل الرأسمالي غير الخاضع للضريبة)، فإن تقديراتهما لحصة أعلى 1% بعد خصم الضريبة والتحويل ربما تكون هي أيضا أقل مما ينبغي.
وسوف تستمر المناقشة حول هذه النقطة بكل تأكيد. لكن مثل هذه المناقشات لا ينبغي لها أن تحجب الأمر الأكثر أهمية في قصة الاقتصاد الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية. فبعد ثلاثة عقود ونصف من الزمن، حيث استفادت كل المجموعات الديموغرافية إلى حد كبير من النمو الاقتصادي، انهار نمط الرخاء المشترك. ورغم أن بعض التكاليف الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن ذلك جرى تحييدها عن طريق الضرائب والتحويلات، فإن هذا لا يغير من حقيقة مفادها أن اقتصاد السوق ــ جنبا إلى جنب مع الاتجاهات التكنولوجية التي ولّدها والعولمة التي شجعها ــ أصابه الخلل وتسبب في توليد قدر هائل من التفاوت بين الناس.
اضف تعليق