تقترض الحكومات للإنفاق فيما يتجاوز ما تستطيع، أو تريد، جمعه من خلال الضرائب العامة. وهناك عدة دوافع اقتصادية لذلك؛ فعندما تتراجع الإيرادات الضريبية، مثلما يحدث أثناء فترات الركود، تقوم الحكومات بالاقتراض لسداد التزامات الإنفاق القائمة. وهذا أفضل من أجل تحقيق استمرارية تقديم الخدمات العامة، مثل المدارس والمستشفيات، ويعني...
بقلم: علي عباس، أليكس بينكوفسكي
إنه يضطلع بدور محوري في الاقتصاد العالمي غير أنه يحمل مخاطر
عندما عجز إدوارد الثالث ملك إنجلترا عن تمويل حرب المائة عام ضد فرنسا، لجأ إلى العائلات المصرفية في فلورنسا. وكانت القروض التي منحوها له باهظة التكلفة. وعندما فشل إدوارد في أن يصبح ملكا لفرنسا، عجز عن سداد الدين بالكامل. وعلى مر القرون، تحولت ديون الملك إلى ديون سيادية: أي شبكة من التزامات الديون متعددة المليارات، ومتعددة الجنسيات، ومتعددة العملات التي نعرفها اليوم.
لماذا تقترض الكيانات السيادية؟
تقترض الحكومات للإنفاق فيما يتجاوز ما تستطيع، أو تريد، جمعه من خلال الضرائب العامة. وهناك عدة دوافع اقتصادية لذلك؛ فعندما تتراجع الإيرادات الضريبية، مثلما يحدث أثناء فترات الركود، تقوم الحكومات بالاقتراض لسداد التزامات الإنفاق القائمة. وهذا أفضل من أجل تحقيق استمرارية تقديم الخدمات العامة، مثل المدارس والمستشفيات، ويعني أن الحكومة ليست مضطرة إلى خفض الإنفاق عندما يكون الاقتصاد ضعيفا بالفعل - وهو الشيء الذي يمكن أن يزيد الموقف سوءا. ويُعرف هذا باسم "التمهيد الضريبي". وقد تتخذ الحكومات خطوات أكبر وتزيد النفقات فعليا، أو تخفض الضرائب، أثناء فترة الركود في محاولة لتعزيز النمو. وهذا "التنشيط المالي" يتم تمويله من خلال إصدار سندات الديون السيادية.
غير أن هذه الأسباب لا يمكنها أن تفسر عادة المستويات المرتفعة من الديون المشاهدة في كثير من البلدان. ويمثل الاستثمار في المستقبل أحد دوافع الاقتراض الأخرى؛ فالحكومات قد تقترض مبالغ ضخمة للمساعدة في بناء طريق سريع رئيسي جديد، أو محطة كهرباء، أو نظام لمترو الأنفاق. ويمكن أن تكون التكاليف في البداية بالغة الارتفاع، لذا يتم تقسيم السداد على عدة سنوات. لكن المأمول أن تعزز هذه الاستثمارات النمو طويل الأجل، بما يبرر الاقتراض. وعلى غرار رأس المال المادي، يمكن للحكومات كذلك الاستثمار في رأس المال البشري، مثل التعليم والصحة. ومرة ثانية، ينبغي أن تفوق المنافع على المدى الطويل تكلفة الاقتراض.
ممن تقترض الحكومات؟
يمكن للحكومات أن تنحو منحى ابتكاريا للغاية في البحث عن مقرضين محتملين، مثل أن تسعى للوصول إلى من يفرض عليها أدنى سعر للفائدة. ومع ذلك، عادة ما تكون هناك مفاضلات ترتبط باختيار المقرض. فعلى سبيل المثال، يمكن للكيانات السيادية الاقتراض من داخل بلدانها أو من خارجها. ويمكن للاقتراض المحلي -من البنوك ومديري الأصول المحليين أو من الأسر مباشرة- أن يكون مصدرا ثابتا يمكن الاعتماد عليه للتمويل؛ لكن المبالغ المالية المتاحة عادة ما تكون محدودة وآجال السداد قصيرة. لذا، تقترض الحكومات أيضا من أسواق رأس المال الدولية، بمبالغ أكبر وآجال سداد أطول عادةً. غير أن هذه الأسواق يمكن أن تتسم بالتقلب، ولا سيما بالنسبة للبلدان منخفضة الدخل، فمن الخطر افتراض أن هؤلاء المقرضين سيوفرون دائما مصدرا للتمويل متاحا بسهولة.
وتقوم كذلك مجموعة متنوعة من الجهات التابعة للقطاع الخاص بإقراض الكيانات السيادية. فمديرو الأصول، مثل صناديق التقاعد، يحوزون عادة قدرا كبيرا من الدين الحكومي. فهم يحتاجون إلى أصول آمنة طويلة الأجل نسبيا لتتوافق مع التزاماتهم طويلة الأجل. وتحوز البنوك كذلك قدرا كبيرا من الديون السيادية، ولا سيما الديون الخاصة بحكومات البلدان التي تقع فيها مقراتها؛ وإن كان هذا "الرابط بين البنوك والكيانات السيادية" قد نتجت عنها مشكلات في الماضي. فخلال أزمة الدين السيادي لمنطقة اليورو في الفترة 2010-2012، على سبيل المثال، خفضت البنوك المتعثرة تمويلها للحكومات، مما رفع تكاليف الاقتراض السيادي. وقد أسفر ذلك عن حلقة مفرغة من زيادة تشديد الأوضاع المالية التي فاقمت الركود الاقتصادي والمشكلات في النظام المصرفي. أما اليوم فقد بات هناك فهم أكبر لهذه المخاطر من كلا الجانبين.
وأخيرا، يمكن للحكومات أن تقترض من الحكومات الأخرى أو من المنظمات الدولية. ولا يكون هذا الشكل من الإقراض عادة مدفوعا في الأساس بأهداف تجارية (رغم أن المقرض لا يصرح بذلك في الواقع العملي)، فربما تقرض إحدى الحكومات حكومة أخرى لتعزيز الروابط الثنائية. والبنك الدولي أو بنك التنمية الإفريقي يقرضان الأموال لبلد ما لمساعدته على بناء نظام للصرف الصحي أو تمويل اللقاحات أو إصلاح قطاع الكهرباء. ويمكن لصندوق النقد الدولي تقديم التمويل إذا وجد بلد ما نفسه في مواجهة صعوبات على مستوى ميزان المدفوعات.
كيف تقترض الحكومات؟
هناك أيضا أساليب تعاقدية مختلفة تقترض الحكومات من خلالها. وتمثل القروض أحد أشكال التمويل الشائعة؛ ويتم ترتيبها على أساس ثنائي، أو من خلال اتحاد للمقرضين، ويكون السداد عادة مقسما على عدة سنوات. وفي المقابل، تصدر السندات لمئات أو آلاف الدائنين، ويتعين أن يتم سداد المبالغ كاملة في وقت واحد. وبالإضافة إلى ذلك، هناك كثير من الأدوات غير الشائعة التي يمكن للكيانات السيادية الاقتراض من خلالها، لكن هذه الأدوات تكون عادة ذات نطاق أصغر كثيرا.
وتسعى الحكومات إلى تقليل تكاليف اقتراضها -أي أسعار الفائدة- إلى أدنى حد مع منع هيكل ديونها من الوصول لمرحلة الخطر البالغ. فعلى سبيل المثال، يجد كثير من الحكومات أن اقتراضها بالدولار أو اليورو أرخص تكلفة من الاقتراض بعملاتها الخاصة. غير أن هذا الأمر يمكن أن يسبب مشكلات إذا انخفضت قيمة عملاتها، حيث يزيد ذلك من العبء الحقيقي للدين. وبالمثل، تفضل بعض الحكومات أن تدفع سعر فائدة ثابتا على الدين، إذ يضمن ذلك استقرار تكاليف خدمة الدين. لكن من الممكن أن يكون من الأرخص (في البداية على الأقل) إصدار دين يرتبط بسعر فائدة متغير أو بتضخم أسعار المستهلك، ومع ذلك، قد يشكل ذلك أيضا بعض المخاطر إذا تحركت هذه المتغيرات في اتجاه غير متوقع أو غير محبذ.
ويمكن لهيكل الدين العام الذي يتسم بالحذر أن يساعد على إبقاء تكاليف الاقتراض السيادي منخفضة على المدى الطويل. غير أن هناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر على الجدارة الائتمانية للكيان السيادي وعلى تكاليف اقتراضه، مثل مستوى تنميته الاقتصادية ، وحجم أسواقه المالية، وسجله في الوفاء بتعهداته، وأوجه تعرضه للصدمات الخارجية، إلى جانب الأوضاع المالية العالمية. وكثير من هذه العوامل يكون خارجا عن سيطرة الحكومات. وتحتفظ هيئات تصنيف المراتب الائتمانية السيادية والمؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، بنماذج واضحة تتولى باستمرار تقييم الجدارة الائتمانية للكيانات السيادية.
ماذا يحدث عندما تعجز الحكومات عن السداد؟
على غرار الأفراد والشركات، قد تتعثر الكيانات السيادية في سداد ديونها. ويمكن أن يرجع ذلك إلى أنها اقترضت أكثر مما ينبغي أو اقترضت بأسلوب يحمل مخاطر عالية - أو بسبب أنها أصيبت بصدمة غير متوقعة، مثل حدوث ركود عميق أو كارثة طبيعية.
وفي مثل هذه الظروف، يتعين على الكيان السيادي إعادة هيكلة ديونه. ولكن خلافا للأفراد والشركات، لا توجد محاكم إفلاس للكيانات السيادية يمكنها أن تجبر المدينين ودائنيهم على حل المسألة. وبدلا من ذلك، يخضع الأمر للتفاوض؛ فالدائنون يريدون استعادة أكبر قدر ممكن من أموالهم، في حين ترغب الكيانات السيادية في إعادة الوضع "الطبيعي" في الأسواق المالية، دون دفع كثير من الأموال.
وغالبا ما تفرض أشكال إعادة الهيكلة هذه تكاليف طائلة على المدين والمقرضين على السواء، وهو ما يجعلها من الحالات النادرة نسبيا. ومن الأمثلة المشهورة على ذلك روسيا (1998)، والأرجنتين (2005)، واليونان (2012)، وأوكرانيا (2015). فمن الطبيعي أن تكون التكاليف أقل كثيرا عندما يمكن الوصول لاتفاق قبل التوقف عن سداد الدين السيادي، من خلال التخلف عن سداد قسط من أقساط الدين. فعمليات إعادة الهيكلة الوقائية هذه عادة ما تُحل بسرعة وتكون ذات آثار سلبية أقل على بقية الاقتصاد والنظام المالي، لكن بمجرد أن يتوقف الكيان السيادي عن سداد دينه، فإن عملية إعادة الهيكلة اللاحقة يمكن أن تكون طويلة ومكلفة.
وقد قطع الاقتراض السيادي شوطا طويلا منذ غزوات الملك إدوارد الثالث داخل فرنسا؛ فقد أصبح أكبر حجما، وأكثر تطورا، وذا صبغة دولية أكبر، وله دور حيوي في الاقتصاد العالمي من خلال السماح للحكومات بالحفاظ على سلامة اقتصاداتها أثناء فترات الركود وغيرها من الصدمات غير المتوقعة، وتمويل الاستثمارات التي ترفع الإنتاجية والنمو. غير أن المخاطر -المتمثلة في الإفراط في الاقتراض واحتمالات التوقف عن السداد- باقية معنا حتى يومنا هذا.
اضف تعليق