إذا فشلت بلدان متعددة في الوفاء بالتزامات خدمة الديون، فسوف يُـحـجِـم الدائنون عن تمويل بلدان أخرى مثقلة بالديون، وقد يؤدي هذا إلى إشعال شرارة أزمة ديون عالمية. مثل هذا السيناريو من شأنه أن يخلف عواقب مدمرة على الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل والاقتصاد العالمي ككل. ولكن من خلال تبسيط...
بقلم: آن أو. كروجر
واشنطن، العاصمة ــ كان النمو المتسارع الذي شهدته تدفقات رأس المال الدولية، في هيئة ديون في الأغلب الأعم، واحدا من أعظم النجاحات التنموية على مدار السنوات الخمسين الأخيرة. ولكن في حين لعب الإقراض دورا محوريا في الاقتصادات النامية، فإن القروض سلاح ذو حدين. إذا اسـتُـخـدِمَـت بِـحِـكـمة فإنها كفيلة بتوليد عائدات عالية، وتعزيز نمو الناتج المجلي الإجمالي، وتحسين رفاهة البلدان المقترضة. أما إذا تراكمت الديون وتزايدت أعباء خدمتها دون زيادة متناسبة في القدرة على السداد، فقد تكون العواقب وخيمة بل وحتى كارثية.
أثناء جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، على سبيل المثال، اضطرت بلدان عديدة إلى مجابهة زيادة كبيرة في الطلبات المالية، والتي كانت مدفوعة بارتفاع نفقات الصحة العامة وانخفاض الإيرادات نتيجة لتقلص النشاط الاقتصادي. واقتربت البلدان المثقلة بالديون من حافة العجز عن السداد، وحتى البلدان التي كانت تتمتع بموارد مالية مستدامة في السابق شهدت ارتفاعات خطيرة في أعباء الديون.
عندما تكون مستويات الديون مرتفعة ومستمرة في الارتفاع، فقد تندلع الأزمات على نحو مفاجئ وتتفاقم سريعا. على الرغم من الخطوات التي اتخذتها حكومات عديدة لخفض مستويات الدين المرتفعة فضلا عن الإصلاحات التي أدخلتها لتفادي أزمات محتملة، فإن تكاليف خدمة الديون في بعض البلدان تظل مرتفعة إلى الحد الذي تصبح معه التعديلات الحقيقية متعذرة التطبيق سياسيا أو اقتصاديا.
في ظل هذه الظروف، يبيع الدائنون المتشككون من القطاع الخاص السندات السيادية التابعة لهذه البلدان بأسعار مخفضة ويرفضون تقديم مزيد من الائتمان. بمجرد أن يحدث هذا وتتخلف الحكومات عن الوفاء بالتزاماتها، تجد نفسها عاجزة عن الوصول إلى أسواق رأس المال. وتستمر الأزمة الاقتصادية الناجمة عن هذا عادة إلى أن تتمكن هذه البلدان من إعادة هيكلة ديونها القائمة، وتنفيذ إصلاحات السياسات، واستعادة الثقة في جدارتها الائتمانية.
عندما تفشل شركة خاصة في الوفاء بالتزاماتها، تحدد إجراءات الإفلاس مدى خفض الالتزامات المطلوب وكيفية تخصيص الأصول المتبقية للشركة. على النقيض من هذا، لا توجد آلية معترف بها عالميا لإعادة هيكلة الديون السيادية. وعل هذا فإن أي حل يتوقف على التوصل إلى اتفاق طوعي بين الحكومات ودائنيها.
على مدار السنوات القليلة الأخيرة، مع انجراف عشرات من الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل نحو العجز عن السداد، انطلقت دعوات متنامية تطالب بالإعفاء من الديون. على سبيل المثال، اقترح الرئيس الكيني ويليام روتو مؤخرا منح البلدان الأفريقية "فترة سماح" على أقساط الفائدة مدتها عشر سنوات. في إطار كلمته أمام قمة المناخ الأفريقية الافتتاحية في نيروبي، اقترح روتو أن تعيد البلدان النامية توجيه الأموال المخصصة لخدمة الديون نحو استثمارات في الطاقة المتجددة.
لكن لا يخلو هذا وغيره من المقترحات المتعلقة بالإعفاء الشامل من الديون أو تأجيل سدادها من عيوب جسيمة. من اللافت للنظر أن ديون بعض البلدان غير مستدامة بطبيعتها. وحتى لو أعفيت هذه الحكومات من ديونها فجأة، فإنها ستظل مفتقرة إلى الموارد اللازمة لتمويل المبادرات البيئية الكبرى. علاوة على ذلك، في غياب خطة متفق عليها لإعادة الهيكلة والقدرة على الوصول إلى موارد إضافية، فسوف تكون الواردات الأساسية اللازمة للإنتاج والاستهلاك مقيدة بشدة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى العجز عن استغلال القدرات بالدرجة الكافية والركود الاقتصادي المحتمل.
تاريخيا، كانت مفاوضات إعادة هيكلة الديون عملية مطولة ومرتجلة. إذ يتعاون صندوق النقد الدولي مع البلدان المدينة لتقييم التغييرات الواجب إدخالها على السياسة المحلية وتعديلات الديون. من ناحية أخرى، يتشاور الدائنون السياديون، الذين يتعاونون من خلال نادي باريس، مع المقرضين من القطاع الخاص ويتخذون القرار بشأن استراتيجية إعادة الهيكلة اللائقة.
لكن مشهد الديون اليوم يفرض تحديات أعظم. ومن أجل التوصل إلى اتفاق لإعادة الهيكلة، يجب أن يكون كل الدائنين خاضعين لذات القدر من تقليم الديون. وإلا فإن بعض المقرضين سيحصلون على السداد الكامل في حين يتحمل آخرون عمليات شطب كبيرة، ومن المؤكد أنهم لن يوافقوا على هذا. لكن الصين، التي برزت كدائن رئيسي على مدار العقدين الأخيرين، رفضت الانضمام إلى نادي باريس. وبدلا من قبول تقليم الديون المستحقة لها بذات القدر كغيرها من الدائنين، تصر الحكومة الصينية على استرداد الديون المستحقة لها بالكامل، وهذا من شأنه يُـفضي إلى معاملة تفضيلية للصين فضلا عن تفاقم المصاعب التي تواجهها البلدان النامية في خدمة ديونها. وقد أدى الفشل في التوصل إلى اتفاق إلى تأخير عملية إعادة الهيكلة.
نتيجة لهذا، تحملت بلدان مثل سريلانكا وزامبيا تأخيرات غير ضرورية في حل أزمات الديون، حتى بعد التوصل إلى اتفاقات مع صندوق النقد الدولي بشأن إصلاحات السياسات اللازمة. لمنع قدر عظيم من المعاناة التي يمكن تجنبها، يتعين على المجتمع الدولي أن يرسي الأساس لإجراءات تضمن تقاسم الأعباء على نحو عادل وموقوت بين الدائنين.
تؤكد الاضطرابات الاقتصادية الجارية في العالَـم النامي على الحاجة الملحة إلى إنشاء إطار جديد لإعادة هيكلة الديون. تشير تقديرات أخيرة صادرة عن البنك الدولي إلى أن 60% أو أكثر من البلدان المنخفضة الدخل مثقفة بالديون و"معرضة بشدة لخطر ضائقة الديون". علاوة على ذلك، نجد أن دولا عديدة متوسطة الدخل، مثل مِـصـر والأردن، ولبنان، وباكستان، وتونس، تواجه أيضا تحديات مالية كبيرة فضلا عن التحديات التي تفرضها الديون.
إذا فشلت بلدان متعددة في الوفاء بالتزامات خدمة الديون، فسوف يُـحـجِـم الدائنون عن تمويل بلدان أخرى مثقلة بالديون، وقد يؤدي هذا إلى إشعال شرارة أزمة ديون عالمية. مثل هذا السيناريو من شأنه أن يخلف عواقب مدمرة على الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل والاقتصاد العالمي ككل. ولكن من خلال تبسيط عملية إعادة الهيكلة والتعجيل بتنفيذها، يصبح بوسعنا تجنب زيادة الأوضاع سوءا على سوء.
اضف تعليق