كنتيجة لدعوة باول القاسية ــ وغير الضرورية على الإطلاق ــ لتحمل الآلام، أصبح لدينا مجموعة جديدة من الضحايا، وسوف يتوقف نشاط أكثر القطاعات والمناطق نشاطا في أميركا. تصور رواد أعمال الشركات البادئة في وادي السيليكون، وهم من الشباب غالبا، أن الحكومة تؤدي وظيفتها، ولهذا ركزوا على الإبداع والابتكار...
بقلم: جوزيف ستيغليتز

نيويورك ــ كان التهافت على سحب الودائع من بنك سيليكون فالي ــ الذي يعتمد عليه ما يقرب من نصف كل شركات التكنولوجيا البادئة المدعومة برأسمال المجازفة في الولايات المتحدة ــ إعادة لتقديم قصة مألوفة في جزء منه، لكنه في حقيقة الأمر أكثر من ذلك. فمرة أخرى، تثبت السياسة الاقتصادية والضوابط التنظيمية المالية كونها غير كافية.

جاءت الأنباء حول ثاني أكبر فشل مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة بعد أيام فقط من تأكيد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أمام الكونجرس أن وضع البنوك المالي في أميركا سليم. لكن التوقيت لا ينبغي أن يكون مفاجئا. فبسبب الزيادات الكبيرة السريعة في أسعار الفائدة التي صممها باول ــ والتي ربما تكون الأكبر منذ زيادات أسعار الفائدة في عهد رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق بول فولكر قبل أربعين عاما ــ كان من المتوقع أن تُـفـضي التحركات في أسعار الأصول المالية إلى إحداث صدمة في مكان ما من النظام المالي.

ولكن مرة أخرى، أَكَّـد لنا باول أنه لا داع للقلق ــ على الرغم من الخبرة التاريخية الوفيرة التي تشير إلى أننا يجب أن نشعر بالقلق. كان باول جزءا من فريق الرئيس السابق دونالد ترمب التنظيمي الذي عمل على إضعاف ضوابط دود-فرانك التنظيمية التي استُـنَّـت بعد انهيار 2008 المالي، من أجل تحرير البنوك "الأصغر حجما" من المعايير المطبقة على البنوك الأكبر حجما والأكثر أهمية على المستوى الجهازي. وفقا لمعايير سيتي بنك، يُـعَـد بنك سيليكون فالي صغيرا. لكنه ليس صغيرا في حياة الملايين الذين يعتمدون عليه.

قال باول إن الأمر لن يخلو من آلام مع زيادة أسعار الفائدة بلا هوادة من جانب الاحتياطي الفيدرالي ــ لن يتحمل مثل هذه الآلام هو وكثيرون من أصدقائه في عالَـم رأس المال الخاص، الذين قيل إنهم كانوا يخططون لتحقيق مكاسب ضخمة حيث كانوا يأملون في شراء الودائع غير المؤمن عليها في بنك سيليكون فالي بكميات ضخمة بسعر 50 إلى 60 سنتا للدولار، قبل أن توضح الحكومة أن هؤلاء المودعين سيخضعون للحماية. وبهذا تصبح أسوأ الآلام من نصيب الأفراد المنتمين إلى الفئات المهمشة والمستضعفة، مثل الذكور الشباب من غير ذوي البشرة البيضاء، الذين يكون معدل البطالة بينهم عادة أربعة أمثال المعدل الوطني، وعلى هذا فإن الزيادة من 3.6% إلى 5% تترجم إلى زيادة من نحو 15% إلى 20% بينهم. إنه يدعو بابتهاج إلى مثل هذه الزيادات في البطالة (مدعيا بالكذب أنها ضرورية لخفض معدل التضخم) متناسيا أي مناشدة للمساعدة أو أي ذِكر للتكاليف في الأمد البعيد.

الآن، كنتيجة لدعوة باول القاسية ــ وغير الضرورية على الإطلاق ــ لتحمل الآلام، أصبح لدينا مجموعة جديدة من الضحايا، وسوف يتوقف نشاط أكثر القطاعات والمناطق نشاطا في أميركا. تصور رواد أعمال الشركات البادئة في وادي السيليكون، وهم من الشباب غالبا، أن الحكومة تؤدي وظيفتها، ولهذا ركزوا على الإبداع والابتكار، وليس على التحقق من موازنات بنوكهم العامة يوميا ــ وهو ما لم يكن بوسعهم القيام به على أية حال. (على سبيل الإفصاح التام: ابنتي، المديرة التنفيذية لشركة تعليمية بادئة، واحدة من رواد الأعمال الديناميكيين هؤلاء).

برغم أن التكنولوجيات الجديدة لم تغير أساسيات العمل المصرفي، فإنها زادت من مخاطر التهافت على البنوك لاسترداد الودائع. لقد أصبح سحب الأموال أسهل كثيرا مما كان عليه الأمر في السابق، كما تعمل وسائط التواصل الاجتماعي على تأجيج الشائعات التي قد تحفز موجة من عمليات سحب الودائع المتزامنة (وإن كان بنك سيليكون فالي لم يستجب ببساطة، حسب التقارير، لأوامر تحويل الأموال إلى الخارج، الأمر الذي أدى إلى خلق ما قد يكون كابوسا قانونيا). وفقا للتقارير، لم يكن سقوط بنك سيليكون فالي راجعا إلى ذلك النوع من ممارسات الإقراض الرديئة التي أدت إلى اندلاع أزمة 2008، والتي تمثل إخفاقا جوهريا في أداء البنوك لدورها المركزي في تخصيص الائتمان. بدلا من ذلك، كان الأمر أكثر ابتذالا: ذلك أن كل البنوك تنخرط في عملية "تحويل الآجال"، التي تجعل الودائع القصيرة الأجل متاحة للاستثمار الطويل الأجل. وقد اشترى بنك سيليكون فالي سندات طويلة الأجل، مما عرض المؤسسة للمخاطر عندما تغيرت منحنيات العائد بشكل كبير.

تعمل التكنولوجيات الجديدة أيضا على جعل حد التأمين على الودائع الفيدرالية السابق (250 ألف دولار) يبدو سخيفا: إذ تنخرط بعض الشركات في المراجحة التنظيمية عن طريق تشتيت الأموال على عدد كبير من البنوك. من الجنون أن نكافئ هذه الشركات على حساب أولئك الذين ائتمنوا الهيئات التنظيمية على أداء وظيفتها. بماذا ينبئنا هذا عن بلد حيث يُـسـقَـط أولئك الذين يعملون بجد ويقدمون منتجات جديدة يحتاج إليها الناس لمجرد أن النظام المصرفي يخذلهم؟ الواقع أن النظام المصرفي الآمن والسليم شرط لا غنى عنه للاقتصاد الحديث، ومع ذلك نجد أن النظام في أميركا لا يُـلـهِـم الناس الثقة حقا.

في تغريدة على موقع تويتر قال باري ريتولتز: "تماما كما لا يوجد ملحدون في الخنادق، فلا يوجد مؤمنون بالإرادة الحرة أثناء الأزمات المالية". على نحو مفاجئ، تحولت مجموعة من المتحاملين ضد القواعد والضوابط التنظيمية الحكومية إلى أبطال مدافعين عن إنقاذ الحكومة لبنك سيليكون فالي، تماما كما دعا الممولون وصناع السياسات الذين صمموا حملة إلغاء التنظيمات التي أدت إلى اندلاع أزمة 2008 إلى إنقاذ أولئك الذين تسببوا في إحداثها. (حتى أن لورنس سمرز، الذي قاد حملة إلغاء التنظيمات المالية بصفته وزيرا للخزانة الأميركية في عهد الرئيس بِـل كلينتون، دعا هو أيضا إلى إنقاذ بنك سيليكون فالي ــ وهو أمر لافت للنظر بشدة بعد الموقف القوي الذي اتخذه ضد مساعدة الطلاب في تحمل أعباء الديون المستحقة عليهم).

الإجابة الآن هي ذاتها كما كانت قبل 15 عاما. يتعين على حاملي الأسهم والسندات، الذين استفادوا من سلوك الشركة المحفوف بالمخاطر، أن يتحملوا العواقب. لكن المودعين في بنك سيليكون فالي ــ الشركات والأسر التي ائتمنت الهيئات التنظيمية على أداء وظيفتها، كما طمأنت الجمهور مرارا وتكرارا على حرصها على ذلك ــ يجب أن يُـعَـوَّضوا بشكل كامل، سواء عند مستوى أعلى أو أقل من حد "التأمين" البالغ 250 ألف دولار.

أي تصرف غير ذلك من شأنه أن يتسبب في إلحاق ضرر طويل الأمد بواحد من أكثر القطاعات الاقتصادية نشاطا وحيوية في أميركا؛ أيا كان تصور المرء لشركات التكنولوجيا الضخمة، يجب أن يستمر الإبداع، بما في ذلك في مجالات مثل التكنولوجيا الخضراء والتعليم. في عموم الأمر، التقاعس عن القيام بأي شيء من شأنه أن يبعث برسالة بالغة الخطورة لعامة الناس: الطريقة الوحيدة للتأكد من حماية أموالك في البنوك هي أن تضعها في البنوك ذات الأهمية الجهازية "الأكبر من أن يُـسـمَـح لها بالفشل". وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تركز السوق بدرجة أكبر ــ وتراجع الإبداع ــ في النظام المالي الأميركي.

بعد عطلة نهاية أسبوع مؤلمة مرت على أولئك الذين قد يتأثروا بذلك الحدث في مختلف أنحاء البلاد، قامت الحكومة أخيرا بالتصرف السليم ــ فقد ضمنت تعويض كل المودعين بشكل كامل، الأمر الذي أدى إلى منع التهافت لاسترداد الودائع من البنك والذي كان ليؤدي إلى تعطيل الاقتصاد. من ناحية أخرى، أثبتت الأحداث أن خللا ما كان يعيب النظام.

قد يزعم بعض المراقين إن إنقاذ المودعين لدى بنك سيليكون فالي من شأنه أن يؤدي إلى نشوء "خطر أخلاقي". هذا محض هراء. فلا يزال حاملو سندات وأسهم البنك معرضين للخطر إذا لم يشرفوا على المديرين على النحو اللائق. ليس من المفترض أن يتولى المودعون العاديون إدارة مخاطر البنوك؛ بل يجب أن يكونوا قادرين على الاعتماد على جهازنا التنظيمي لضمان أن أي مؤسسة تطلق على نفسها وصف بنك لديها المال الكافي لرد كل ما يودع لديها.

الواقع أن بنك سيليكون فالي لا يمثل فشل بنك واحد فحسب. بل هو رمز لإخفاقات عميقة في إدارة كل من السياسة التنظيمية والسياسة النقدية. كما كانت الحال مع أزمة 2008، فإن التنبؤ بها كان في حكم الممكن، وهناك من تنبأ بها بالفعل. الأمل الآن أن يكون أولئك الذين ساعدوا في إحداث هذه الفوضى قادرين على الاضطلاع بدور بَـنّـاء في الحد من الضرر، وأن نتعلم جميعا ــ من المصرفيين والمستثمرين وصناع السياسات إلى عامة الناس ــ الدروس الصحيحة أخيرا. نحن في احتياج إلى تنظيم أكثر صرامة، لضمان سلامة كل البنوك. يجب أن تكون كل الودائع المصرفية خاضعة للتأمين. ويجب أن يتحمل التكاليف أولئك الأكثر استفادة: الأفراد الأثرياء والشركات، وأولئك الأكثر اعتمادا على النظام المصرفي، استنادا إلى الودائع، والمعاملات، وغير ذلك من المقاييس ذات الصلة.

مر من الزمن أكثر من 115 عاما منذ اندلعت حالة الذعر في عام 1907، والتي أدت إلى إنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي. والآن تسببت التكنولوجيات الجديدة في جعل اندلاع حالات الذعر والتهافت على البنوك لاسترداد الودائع أكثر سهولة. لكن العواقب قد تكون أشد خطورة. لقد حان الآن وقت استجابة الإطار الذي نعتمد عليه جميعا في صنع السياسات ووضع الضوابط التنظيمية.

* جوزيف ستيغليتز، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الاستياء
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق