يؤكد أحد أطر السياسة الاقتصادية الناشئة، والذي أسميته "النزعة الإنتاجية"، على الدور الذي تضطلع به الحكومات في معالجة التفاوت بين الناس، والتحول إلى الطاقة النظيفة. من خلال وضع هذه الأهداف المهملة في الصدارة، تعيد النزعة الإنتاجية التأكيد على الأولويات السياسية المحلية دون أن تكون معادية للاقتصاد العالمي المفتوح...
بقلم: داني رودريك
كمبريدج ــ يأتي السرد الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي العالمي الحالي في خضم تحول مفاجئ في الـحـبكة يغير كل شيء. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ما يسمى النظام الدولي الليبرالي مرتكزا على التدفق الحر للسلع ورأس المال والتمويل، لكن هذا الترتيب يبدو على نحو متزايد الآن خارج موضعه الصحيح في التاريخ.
الواقع أن كل نظام قائم على السوق مدعوم بسرد أو آخر ــ قصص نرويها لأنفسنا حول الكيفية التي يعمل بها النظام. يصدق هذا بشكل خاص على الاقتصاد العالمي، لأن العالَـم، على النقيض من أي بلد منفرد، لا تديره حكومة مركزية تعمل كصانع للقواعد ومنفذ لها. في مجموعها، تساعد هذه الروايات في إنشاء وصيانة المعايير التي تحافظ على استمرارية عمل النظام بطريقة منتظمة، على النحو الذي يُـنبئ الحكومات بما ينبغي لها أن تفعل أو لا تفعل.
تعمل هذه المعايير بعد استيعابها على دعم الأسواق العالمية بطرق تعجز القوانين الدولية والمعاهدات التجارية والمؤسسات الدولية عن الإتيان بها. تحولت الروايات العالمية مرات عديدة على مدار التاريخ. في ظل معيار الذهب في أواخر القرن التاسع عشر، كان الاعتقاد السائد أن الاقتصاد العالمي نظام ذاتي التكيف ذاتي التوازن حيث يتحقق الاستقرار على أفضل وجه عندما تمتنع الحكومات عن التدخل. ذهب هذا الـفِـكر إلى أن حركة رأس المال الحرة، والتجارة الحرة، وسياسات الاقتصاد الكلي السليمة، كفيلة بتحقيق أفضل النتائج للاقتصاد العالمي والبلدان فرادى على حد سواء.
خَـلَّـفَ انهيار معيار الذهب، إلى جانب الكساد العظيم، تأثيرا ضخما على سرد الأسواق الحميدة. فقد أعطى نظام بريتون وودز الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، والذي اعتمد على إدارة الاقتصاد الكلي على طريقة جون ماينارد كينز لتثبيت استقرار الاقتصاد العالمي، الدولة دورا أكثر بروزا. فالدولة القوية فقط هي القادرة على توفير الضمان الاجتماعي ودعم أولئك الذين سقطوا عبر شقوق اقتصاد السوق. عمل نظام بريتون وودز أيضا على تغيير العلاقة بين المصالح المحلية والعالمية. كان الاقتصاد العالمي، المبني على نموذج من التكامل الضحل، خاضعا لأهداف ضمان التشغيل الكامل للعمالة المحلية وإقامة مجتمعات عادلة. وبفضل ضوابط رأس المال ونظام التجارة الدولية المتساهل، تمكنت البلدان من إنشاء مؤسسات اجتماعية واقتصادية تناسب تفضيلاتها واحتياجاتها الفردية.
كان سرد العولمة المفرطة النيوليبرالي الذي أصبح مهيمنا في تسعينيات القرن العشرين، بما يحمله من تفضيل للتكامل الاقتصادي العميق والتدفق الحر للتمويل، عودة إلى سرد معيار الذهب للأسواق الحميدة الذاتية التعديل والتكيف. لكنه أقر رغم ذلك الدور الحاسم الذي تضطلع به الحكومات: فرض القواعد المحددة التي جعلت العالم مكانا آمنا للشركات الضخمة والبنوك الكبرى.
كان المفترض أن تمتد فوائد الأسواق الحرة إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. تصور النيوليبراليون أن المكاسب الاقتصادية المتحققة من العولمة المفرطة من شأنها أن تساعد في إنهاء الصراع الدولي وتعزيز القوى الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في البلدان الشيوعية مثل الصين.
لم يُـنـكِـر سرد العولمة المفرطة أهمية العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، والأمن الوطني، ولم ينازع مسؤولية الحكومات عن ملاحقة هذه الأهداف. لكنه افترض أن هذه الأهداف يمكن تحقيقها من خلال أدوات السياسة التي لا تتعارض مع التجارة الحرة والتمويل الحر. ببساطة، سيكون بوسع المرء أن يحصل على فطيرته ويتناولها. وإذا جاءت النتائج مخيبة للآمال، كما تبين لاحقا، فلن يقع اللوم على العولمة المفرطة، بل على غياب السياسات التكميلية والداعمة في مجالات أخرى.
في النهاية، فشلت العولمة المفرطة، التي كانت في تقهقر منذ أزمة 2008 المالية، لأنها لم تتمكن من التغلب على التناقضات الكامنة فيها. وفي نهاية المطاف، لم يكن من المرجح أن تتمكن الحكومات التي أعطت الشركات القدرة على كتابة السرد من إقناع مؤلفي هذا السرد بدعم الأجندات الاجتماعية والبيئية المحلية. بينما يتخلى العالَـم عن العولمة المفرطة الآن، لا يزال من غير المؤكد على الإطلاق ماذا قد يحل محلها.
يؤكد أحد أطر السياسة الاقتصادية الناشئة، والذي أسميته "النزعة الإنتاجية"، على الدور الذي تضطلع به الحكومات في معالجة التفاوت بين الناس، والتحول إلى الطاقة النظيفة. من خلال وضع هذه الأهداف المهملة في الصدارة، تعيد النزعة الإنتاجية التأكيد على الأولويات السياسية المحلية دون أن تكون معادية للاقتصاد العالمي المفتوح. وقد أظهر نظام بريتون وودز أن السياسات التي تدعم الاقتصادات الوطنية المتماسكة تساعد أيضا في تعزيز التجارة الدولية وتدفقات رأس المال الطويلة الأجل.
هناك نموذج ناشئ آخر قد يُـسَـمى الواقعية المفرطة، على طريقة المدرسة "الواقعية" للعلاقات الدولية. يؤكد هذا السرد على الخصومة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين ويوظف منطقا محصلته صِـفرية في إدارة العلاقات الاقتصادية بين القوى الكبرى. لا ينظر إطار الواقعية المفرطة إلى الاتكالية الاقتصادية المتبادلة كمصدر لمكسب متبادل بل يعتبرها سلاحا يمكن استخدامه لتعجيز الخصوم، كما فعلت الولايات المتحدة عندما استخدمت ضوابط التصدير لمنع الشركات الصينية من الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة والمعدات اللازمة لتصنيعها.
سوف يعتمد مسار الاقتصاد العالمي في المستقبل على كيفية عمل هذين الإطارين المستقلين بذاتيهما ومقابل بعضهما بعضا. نظرا للتداخل بين الاثنين عندما يتعلق الأمر بالتجارة، فسوف تتبنى الحكومات في الأرجح نهجا أكثر ميلا إلى الحماية خلال السنوات القليلة المقبلة وتتبنى على نحو متزايد إعادة توطين الصناعات والخدمات، فضلا عن سياسات صناعية أخرى تروج للتصنيع المتقدم.
من المرجح أيضا أن تتبنى الحكومات سياسات خضراء تحابي المنتجات المحلية، مثل قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة، أو تقيم الحواجز على الحدود، كما يفعل الاتحاد الأوروبي من خلال آلية التعديل الحدودي للكربون. مثل هذه السياسات من شأنها أن تخدم الأجندات الداخلية وأجندات السياسة الخارجية. ولكن في نهاية المطاف، ستنحي الاعتبارات الجيوسياسية في الأرجح كل الاعتبارات الأخرى جانبا، بما يمكن سرد الواقعية المفرطة من فرض هيمنته.
ليس من الواضح، على سبيل المثال، ما إذا كان التركيز على التصنيع المتقدم الذي يميز الانبعاث الجديد للسياسة الصناعية حاليا ليساعد بدرجة كبيرة في الحد من اتساع فجوات التفاوت داخل البلدان، خاصة وأن الوظائف الجيدة في المستقبل من المرجح أن تأتي من الصناعات الخدمية التي لا تؤثر بدرجة كبيرة على المنافسة مع الصين ولا تتأثر بها.
إن تمكين مؤسسات الأمن الوطني في القوى الكبرى على مستوى العالم من اختطاف السرد الاقتصادي من شأنه أن يعرض الاستقرار العالمي للخطر. وقد تكون النتيجة أن نحيا في عالم متزايد الخطورة حيث يتسبب التهديد المستمر المتمثل في احتمال نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين في إجبار البلدان الأصغر حجما على الانحياز إلى جانب أو آخر في معركة لا تعزز مصالحها الخاصة. لدينا الآن فرصة فريدة سانحة لتصحيح أخطاء العولمة المفرطة وإنشاء نظام دولي أفضل يقوم على رؤية الرخاء المشترك. ولا يجوز لنا أن نسمح للقوى العظمى بإهدار هذه الفرصة.
اضف تعليق