نمط الاستثمار لمثل هذه الأموال، تبقى عوائده محدودة، ادنى من العائد الإقتصادي الكلي لإستثمار الموارد في الداخل. الاستثمار في الخارج يحقق عوائد مالية، بينما الاستثمار في الداخل يوسع طاقات الإنتاج ويدفع النمو والتنمية الإقتصادية، ويولد فرص عمل. ولذا لا تقارن من زاوية الإقتصاد الكلي عوائد إستثمار الأموال العامة...
في سبعينات القرن العشرين بدأ إنتاج النفط في النرويج، وتعاملت الحكومة مع مورده المالي بحذر، لتجنب مخاطره من جهة الاضطراب الذي يمكن أن يصيب الإقتصاد نتيجة عدم إستقرار المورد لتقلب الأسعار، ولكونه ناضب نهاية المطاف، ولذا أرادت تحويله إلى أصول دائمة تبقى بعد نضوب الثروة.
ولكي لا يستعجل القارئ إسقاط التجربة النرويجية على العراق، نُذكّر أن النرويج دولة متقدمة، متوسط الدخل للفرد فيها عام 2020 بتعادل القوة الشرائية 62.8 ألف دولار، ونسبة الإنفاق الحكومي 58.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من دول الرفاه في النموذج الأول. سكانها 5.4 مليون نسمة، 16.1% منهم مهاجرون، ومع الهجرة بقي النمو السنوي للسكان واطئا 0.7%. وكانت في الأساس مكتفية بمواردها لتمويل التكوين الرأسمالي والإنفاق الحكومي، ولو ارادت إنفاق موارد النفط لا يستوعبها الاقتصاد، إضافة على الإنفاق من الناتج المحلي غير النفطي، ولرصانة نظامها الضريبي والإيرادات التي يحققها، ولوجود صادرات من غير النفط والغاز، يصبح الفائض تلقائيا مثلما هو في الكويت والإمارات وقطر. اما في العراق فالفائض التلقائي محدود بالكاد يكفي لتغطية العجز عند هبوط أسعار النفط.
العراق لديه أموال للقطاع العام يستثمرها في الخارج هي الإحتياطيات الدولية للبنك المركزي ومستوياتها في الأشهر الأخيرة عالية وكافية لتمويل العجز المحتمل في ميزان المدفوعات. ولدى البنك المركزي النرويجي إحتياطيات دولية كافية، أيضا. لكن دولة النرويج لديها، دون إحتياطيات البنك المركزي، أموال أخرى تستثمرها في الخارج بحجم كبير هي أموال صندوق الثروة السيادية. بينما أموال الحكومة العراقية المستثمرة في الخارج من غير إحتياطيات البنك المركزي قليلة أعلى ما وصلت إليه 19 مليار دولار بعد عام 2003 وانخفضت إلى حد المقدار الضروري لإجراء المدفوعات الإعتيادية.
فائض العملة الأجنبية يستثمر في الخارج حتما وتوجد في العراق إدارة له لا تختلف عن مثيلتها في النرويج سوى بالتسمية. ومحدودية الفائض في العراق من غير إحتياطيات البنك المركزي لا علاقة لها بإدارة الاستثمار في الخارج أو تسمية الجهة التي تتولى الإدارة، مثل شركة أو هيئة أو صندوق أو دائرة. وقد تداولت الصحف تصريحات في الآونة الأخيرة تُصوّر" الصندوق" كما لو أنه مؤسسة مالية متعارف عليها بنظام معين، وهذه المؤسسة ليست موجودة في العراق ولا بد من إستحداثها، هذا الإلتباس الأول، والثاني أن عدم وجود هذه المؤسسة الاسطورية هو سبب إختلاف العراق عن النرويج والكويت وقطر والإمارات!!. ولو وجد هذا " الصندوق" على حد زعمهم لأرغمت الحكومة والمجلس النيابي على انتزاع حصة من العملة الأجنبية لمورد النفط توضع فيه، وهكذا بمرور الزمن تصبح لدى العراق ثروة طائلة في الخارج.
الصندوق مفردة عامة Generic Term لا تشير إلى مضمون بعينه، والذي يقترح إضافة مؤسسة إلى النظام المالي في العراق عليه أولا أن يفحص النظام بأدوات المعرفة المتخصصة والخبرة، ويثبت أن ثمة وظيفة لا توجد مؤسسة توديها بالكفاءة المطلوبة ثم ينتهي إلى تطوير نظام العمل القائم أو إستحداث. بعد هذا المستهل أعرض نظام صندوق الثروة السيادية في النرويج، وأحاول شرح بعض المفردات في سياق العرض لأجل الوضوح.
تأسيس آلية لاستثمار فوائض النفط
في عام 1990 أقامت الحكومة صندوق الثروة السيادية، سمي في البداية صندوق النفط، وشرع له في عام 1990 بإسم صندوق التقاعد الحكومي وتغير إسمه عام 2006 إلى صندوق التقاعد الحكومي العولمي Government Pension Fund Global ويرمز له GPFG وهو الأكبر في العالم. وهذه الآلية تحول الثروة النفطية إلى محفظة إستثمار، وتسمح بإدارة منهجية ومنتظمة للأموال، وتنتفع الحكومة من عوائد الاستثمار دون قيمة الأصول المستثمرة ذاتها.
يعرّف صندوق النقد الدولي صندوق الثروة السيادية (Sovereign Wealth Fund (SWF "أموال للإستثمار تملكها الحكومة لمختلف الأهداف الإقتصادية الكلية، وتمول، عادة، بتحويل أرصدة عملة أجنبية كي تستثمر لآماد بعيدة في الخارج". إذن، لاحظ التعريف، هي اموال تستثمر في الخارج وليست دوائر، هيئات، شركات، وبهذا يعني إستحداث الصندوق مباشرة تخصيص اموال كي تستثمر في الخارج، وليس تأسيس هيأة يرأسها موظف بدرجة وزير أو مديرية عامة، او ما إلى ذلك.
ولهذا كان على من يعتقد بجدوى تخصيص مقدار من مورد النفط سنويا يستثمر في الخارج، عدا احتياطيات البنك المركزي، أن يشرح كيفية إنتزاع تلك المقادير من مورد النفط. تؤخذ حصة من مورد النفط، تصدر الموازنة بعجز ثم يطلب من البنك المركزي تمويلها، ما الذي جرى: تخفيض مبيعات وزارة المالية من العملة الأجنبية إلى البنك المركزي بمقدار الجزء المنتزع من مورد النفط ومحول للخارج، يعني خفض إحتياطيات البنك المركزي لتكوين رصيد للحكومة في الخارج، وتراكم الديون على الحكومة في الميزانية العمومية للبنك المركزي... وماذا بعد. فالمسألة ليست متوقفة على تسمية الدائرة التي تقوم بهذه المهمة وهي موجودة في العراق فعلا في البنك المركزي، المديرية العامة للاستثمارات، في النرويج صندوق الثروة السيادي أيضا يدار هناك من المديرية العامة للإستثمارات في البنك المركزي النرويجي. ما الفرق، في النرويج لا توجد دائرة لصندوق الثروة السيادية ولا موظفين إنما هي دائرة الاستثمارات التي تدير إحتياطيات البنك المركزي تدير هذه الأموال التي تسمى صندوق الثروة السيادي، مثلما في العراق دائرة الاستثمارات تدير إحتياطيات البنك المركزي وأموال وزارة المالية. فإن كان من الضروري إخراج هذه المهمة من البنك المركزي لماذا لا تقترح إخراجها أيضا من البنك المركزي النرويجي، لماذا نفس النظام يُمجّد هناك ونبحث عن بديل له في العراق.
ألم تقرأ أن حكومة النرويج تقول "أموال صندوق الثروة السيادية وديعة لدى البنك المركزي النرويجي" وقبل الانتقال لتناول مسألة أخرى أرجو الإطلاع على الميزانية العمومية للبنك المركزي النرويجي، معروضة صورتها هنا، لشهر أيلول من هذا العام 2022. لترى أن أموال صندوق الثروة السيادية تدار من الميزانية العمومية للبنك المركزي النرويجي. وأدعو أساتذة المحاسبة ليبينوا لزملائنا ما معنى الإدارة من الميزانية عن الادارة من خارجها.
فصندوق الثروة السيادية النرويجية، أكبر صندوق سيادي في العالم، لا يدار من البنك المركزي وحسب بل من ميزانية البنك المركزي. وهذا ما قصدته في الدراسة التي نشرتها عن الإحتياطيات وسعر الصرف في شبكة الإقتصاديين العراقيين "إن الصندوق الذي تتصورون موجود في العراق" ولو أعلم أن مؤسسة بديلة أحفظ للعملة الأجنبية الحكومية من دائرة الاستثمارات في البنك المركزي ما تحملت مشقة مخالفتكم فيما ذهبتم إليه.
صندوق الثروة السيادية النرويجي أقيم عام 1990 لكن مقترح تأسيسه يعود إلى عام 1983 عندما عينت الحكومة لجنة للنظر في مستقبل المورد النفطي. اللجنة اقترحت الاحتفاظ بالإيراد النفطي جانبا ـ ويستثمر في الأسواق الدولية، كي لا يولد ضغوطا في الداخل عندما يتجاوز الإنفاق حد الإستيعاب. وأيضا لعزل الموازنة عن تقلبات المورد النفطي، التي يستوعبها الصندوق، في هذه الحالة وتخصص فقط عوائد الاستثمار للموازنة. وان اللجنة ليست متأكدة من إستعداد الحكومة للإلتزام أوصت بتنظيم الإنفاق العام لضمان سريان هذه الترتيبات. والصندوق ليس كيانا منفصلا بل تأسس بصفة وديعة في البنك المركزي النرويجي، ولم يزل، نؤكد مرة أخرى المقصود بالصندوق Fund المعنى الإصطلاحي المالي، وليس المعنى اللغوي العامي، الذي يرتبط في الذهن بدائرة أو هيأة.
والتعامل بالدلالة الإصطلاحية للمفردات غريب في كثير من الأوساط. فلا يخطر في بال موظف البنك المركزي أو وزارة المالية أن الصندوق هو المحفظة الاستثمارية لوزارة المالية في دائرة الاستثمارات للبنك المركزي، بينما هذا في النرويج هو القاعدة، لماذا... تأمل. لا يوجد أحد ممن أعرف مصرّ على إخراج العملة الأجنبية للحكومة من البنك المركزي إلى دائرة تستحدث، لكن المضمون العملي للمقترح هو هذا.
المالك الرسمي للصندوق وزارة المالية النرويجية نيابة عن البرلمان لأجل الشعب النرويجي، هكذا يقال هناك. الوزارة تحدد إستراتيجية الاستثمار والدليل الأخلاقي، وترصد إدارة عمليات الاستثمار المفوضة إلى البنك المركزي النرويجي. لاحظ، لم يصلهم وباء الهيئات المستقلة. البنك المركزي النرويجي يعين فريق عمل لتغطية المهام اليومية لمحفظة صندوق التقاعد الحكومي المعولم. تستثمر الأموال في السندات والأسهم، ومنذ عام 2011 الاستثمار في العقارات.
وتلخص أهداف الاستثمار في: إدارة بعيدة الأمد لإنفاق إيرادات الحكومة من الاحتياطيات النفطية؛ ولوقاية الإقتصاد من المرض الهولندي؛ وحماية الاقتصاد النرويجي؛ والحفاظ على قيم الأصول النفطية للأجيال القادمة. تسهيل الإدخارات لتمويل مدفوعات التقاعد تحت مظلة نظام التأمين الإجتماعي. وبهذا يساعد النظام على إستخدام اموال النفط دون التأثير في المجرى العام لتدفق الدخل. تقييد أضرار تقلبات الفائض على الإنفاق الحكومي. والعدالة ما بين الأجيال. وفي منهج الاستثمار استعداد لتحمل مخاطر عالية لأنه متحرر من قيود متطلبات السيولة في الأمد القصير.
نعود إلى النقطة التي اثرناها في البداية وهي أن المسألة متوقفةـ في النهاية، على مدى إمكانية تحقيق فائض من مورد النفط، والذي يكافئ عمليا فائض الموازنة. بدليل أن النرويج عندما اقامت هذه الترتيبات، بموجب النظام تضع كل المورد النفطي في الصندوق، والحكومة تأخذ العائد وتترك الباقي يتراكم، لكن الواقع أملى عليهم إعادة المبالغ من الصندوق إلى الموازنة حتى عام 1996 لأول مرة تحققت إضافة صافية للصندوق. أي أن معيار النجاح إمكانية الفائض التلقائي، أما القسري فينقل العبء إلى إحتياطيات البنك المركزي، وأخيرا تفشل العملية.
إستراتيجية الاستثمار التي تضعها وزارة المالية النرويجية يصادق عليها البرلمان وينفذها البنك المركزي النرويجي. لا يوجد داخل البنك المركزي مجلس إدارة خاص بالصندوق بل هو مجلس إدارة البنك المركزي ودائرة الاستثمارات مثل بقية دوائره. عندما تقرر في عام 2001 تخصيص 4% من رصيد أموال الصندوق للموازنة، لتحاشي الإسراف في الإنفاق، هذه النسبة يقدر أنها كانت آنذاك قريبة من معدل العائد. لكن خسائر الصندوق كبيرة في السنوات الأخيرة لنفس الأسباب المعروفة في الاستثمار المالي مثل إنخفاض أسعار الأسهم والسندات والفشل الإئتماني... وسواها.
نمط الاستثمار لمثل هذه الأموال، عادة، تبقى عوائده محدودة، ادنى من العائد الإقتصادي الكلي لإستثمار الموارد في الداخل. وهذا معروف، ثم إن الاستثمار في الخارج يحقق عوائد مالية، بينما الاستثمار في الداخل يوسع طاقات الإنتاج ويدفع النمو والتنمية الإقتصادية، ويولد فرص عمل. ولذا لا تقارن من زاوية الإقتصاد الكلي عوائد إستثمار الأموال العامة في الخارج مع إستثمارها في الداخل. بيد أن فوائض العملة الأجنبية عن حدود إستيعاب الإقتصاد الوطني لا بد من استثمارها في الخارج، ولا سبيل آخر أمام الحكومات.
الميزانية العمومية للبنك المركزي النرويجي واموال صندوق الثروة السيادية
ننظر في بنود الميزانية العمومية، صورتها في المتن عن شهر تشرين الأول، أكتوبر، عام 2022. القصد من هذا العرض تقديم الدليل على ما بيناه آنفا. نذكر بنودها على التوالي للأصول والخصوم:
الأصول؛ الأصول المالية؛ الودائع في المصارف؛ القروض المؤمنة؛ الضمانات النقدية؛ المتاجرة دون التسوية؛ الأسهم؛ الأسهم المقرضة؛ السندات؛ المشتقات المالية؛ المطلوبات على صندوق النقد الدولي؛ الإقراض للمصارف؛ الأصول المالية الأخرى؛ مجموع الأصول المالية؛ صافي قيمة صندوق التقاعد الحكومي المعولم GPFG؛ الموجودات غير المالية؛ مجموع الأصول. نسبة أصول صندوق الثروة السيادية إلى مجموع الأصول في الميزانية العمومية للبنك المركزي 92.4%.
المطلوبات وحقوق الملكية؛ المطلوبات المالية؛ الاقتراض قصير الأجل؛ الاقتراض المؤمن؛ المتاجرة دون التسوية؛ المشتقات المالية؛ المطلوبات المالية الأخرى؛ المطلوبات إلى صندوق النقد الدولي؛ ودائع المصارف؛ ودائع الخزانة؛ الأوراق والمسكوكات في التداول؛ مجموع المطلوبات المالية، الودائع بالعملة النرويجية، صندوق التقاعد الحكومي المعولم GPFG؛ المطلوبات الأخرى؛ مجموع المطلوبات؛ حقوق الملكية؛ أرباح السنة؛ مجموع حقوق الملكية والمطلوبات. نلاحظ مطلوبات صندوق الثروة السيادية على البنك المركزي بالعملة الوطنية. وهذا النظام هو المعتمد عندما تدار أموال الحكومة من داخل الميزانية العمومية للبنك المركزي. وهو النظام الذي كان عليه العراق قبل عام 2003. وبعدها صارت أموال الحكومة يديرها البنك المركزي خارج الميزانية العمومية. على وفق هذا النظام النرويجي الحكومة لا تستحق البنك المركزي النرويجي أموال صندوق الثروة السيادي بالعملة الأجنبية بل قيمتها بالعملة الوطنية.
ونستكمل دلالات هذه الميزانية بنص مقتبس من دراسة Gordon L Clark and Ashby H B Monk من جامعة Oxford والدراسة عنوانها: The legitimacy and governance of Norway’s sovereign wealth fund: the ethics of global investment
ويمكن إستدعائها مباشرة من الشبكة بمجرد كتابة العنوان هذا، ويؤكد النص ما بينته سابقا بالضبط، وأطلب من الذوات منتسبي البنك المركزي قراءة هذا النص ليتأكدوا أن هذه الدعوة لاستحداث صندوق ثروة سيادية بهيئة أو دائرة مستقلة خارج البنك المركزي أو داخلة على أساس محاكاة التجربة النرويجية، دعوة لا أساس لها، وأن هذه الأموال التي تسمى صندوق الثروة السيادية في النرويج من مسؤولية دائرة مماثلة لدائرة الاستثمارات في البنك المركزي العراقي مثلما تدار أموال وزارة المالية لديكم لا فرق إنما هي تسمية لا غير. GPF-G مختصر لصندوق الثروة السيادية في النرويج والاقتباس من الصفحة (1).
“In fact, the GPF-G is a deposit account with the Norwegian Central Bank: its assets are managed by Norges Bank Investment Management (NBIM) which is, in the first instance, responsible to the Bank’s Governor and Board and ultimately to the Minister of Finance. It has neither an independent board of trustees nor does it hire its CEO and CIO; those employed in the NBIM are employees of the Bank and are subject to the Bank’s employment policies and practices. “
وهي بنفس المضمون الذي تكررت الإشارة إليه. ذكر وزير المالية، هنا، بصفته صاحب المال، والذي يخول البنك المركزي إدارة الاستثمار. وهي القاعدة. ولا أفهم لماذا الإصرار على إخراج العملة الأجنبية للحكومة من البنك المركزي، ووضعها في دائرة أخرى، ويراد لها أيضا أن تكون مستقلة. بينما كان المنتظر من الزملاء الدعوة إلى حصر إدارة العملة الأجنبية للحكومة وكل القطاع العام في البنك المركزي العراقي، فما الذي كسبه العراق من التشتت الذي تعرفون أضراره لأنها لا تخفى على أحد.
لمحة عن تطور صندوق الثروة السيادية
تعود البدايات إلى ستينات القرن العشرين عندما أعلنت النرويج سيادتها على الجرف القاري في بحر الشمال، ورخّصت شركات أجنبية عدة للبحث عن النفط والغاز وإستخراجهما. وبعد أربع سنوات من الجهد الإستكشافي غير المجدي نجحت في أول إكتشاف وتبعه العديد. في العشرين سنة الأولى أعيد إستثمار إيرادات النفط في الصناعة النفطية ذاتها، وفي تطوير النرويج. نهاية العقدين، صار واضحا أن مورد النفط أكبر من القدرة على إستيعابه بكفاءة في الداخل، فبرزت الحاجة لترتيبات أخرى سميت صندوق الثروة السيادية لاحقا. أن إستثمار فوائض العملة الأجنبية الحكومية في الخارج، وخاصة في الأسواق المالية لم يبدأ في النرويج بل جاءت إليه متأخرة. جاءت البدايات لهذا الاستثمار من الكويت عام 1953 ولم تكن تسمية صندوق او ثروة سيادية تستخدم آنذاك، بل "سلطة الاستثمار الكويتية". ثم "سلطة إستثمار أبو ظبي" عام 1976؛ ثم "شركة إستثمار حكومة سنغافورة" عام 1981. لاحظ هذه كلها صناديق ثروة سيادية بالمعنى الإصطلاحي، وتوجد غيرها بلا إسم، لأنه لا توجد حكومة بلا عملة أجنبية موجودة في الخارج مودعة بفائدة أو على هيئة حوالات خزانة أو سندات وسواها، هذه إستثمارات لأموال سيادية حسب القوانين الأمريكية والأوربية. قد إستعمل هذا التعبير صندوق الثروة السيادية لأول مرة Andrew Rozanov عام 2005 في مقال بعنوان " Who holds the wealth of nations" منشور في مجلة البنوك المركزية، فالتسمية حديثة أي أضفيت لاحقا، ويقال لا مُشاحّة في الاصطلاح.
إضافة على ما ورد في الفقرات السابقة يشار في الأدبيات إلى عام 2001 حين إعتمدت النرويج قاعدة مالية Fiscal Rule. وخلاصتها يحول للموازنة العائد الحقيقي المتوقع من الصندوق والذي قُدّر 3% حينها، وهذه تُعَد انعطافة في المسار بمضمون تقنين العلاقة بين الموازنة ورصيد اموال النفط المستثمرة.
وقد استقرت السيطرة على هذه الأموال بين ثلاث جهات: البرلمان النرويجي، وزارة المالية، والبنك المركزي ودائرة الاستثمارات فيه. المهم ليس كما يريد البعض هيئة مستقلة تنفرد بالأموال وتبتز المجلس النيابي والحكومة والشعب، بحجة حمايتها من التدخل السياسي، لاحظ كيف تساق التبريرات لتحويل الدولة إلى إقطاعيات نزقة، فاسدة. هذا الهرج والاعتباط أساء كثيرا للعراق.
يصدر عن برلمان النرويج الإطار التنظيمي كي يعمل الصندوق ضمن حدود القانون ويحافظ على الشرعية. الإطار التنظيمي يتألف من 12 قسم تتضمن مبادئ أقرب إلى لغة الدستور وأخرى عملية. مثل إن أموال الصندوق للدولة توظف لصالح هذه الأجيال والتي تأتي...وهكذا. أن تستثمر الأموال لتحقيق أقصى عائد بمستويات معقولة من المخاطر. وفي هذا الإطار، القسم الثالث، يخول البرلمان وزارة المالية ودائرة الاستثمارات في البنك المركزي صلاحية إدارة اموال الصندوق، والأخيرة تستلم توجيهات من وزارة المالية التي خولها البرلمان لإصدار ما يماثل التعليمات ـ ولها، أي وزارة المالية، تقييم أداء دائرة الاستثمارات في البنك المركزي.
وزارة المالية تتحمل المسؤولية الإدارية الشاملة عن الإدارة وإصدار قواعدrules تضمن تنفيذ قانون الصندوق بكفاءة. وتحضير دليل يعمل بموجبه البنك المركزي، وترسل الوزارة تقارير عن عمليات الاستثمار والنتائج إلى البرلمان. ومهام أخرى تتعلق بالمخاطر والسيطرة الداخلية Internal Control لدى البنك المركزي النرويجي، وتقاريره المالية. وتفوض الوزارة البنك المركزي حسب قانونه وبذلك تكون من الناحية العملية قد اختصت الوزارة بالمستوى الاستراتيجي والباقي للبنك المركزي ودائرة الاستثمارات فيه، ومتابعة ادارة العمليات. نلاحظ إدارة هذا الحجم الاستثماري كأنه مهمة الدولة بأكملها وليس دائرة، تسمى مستقلة.
والبنك المركزي ودائرة الاستثمارات فيه والتي تزاول مهمات إدارة الصندوق المفوضة لها من وزارة المالية، كما تقدم، هذا إضافة إلى مهام أخرى للبنك المركزي والدائرة في الحفاظ على استقرار الاقتصاد النرويجي وإدارة الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي. إيداع أموال الصندوق في البنك المركزي، وبالعملة الوطنية، يعبر، بل يجسد، هذا التفويض. والبنك المركزي حسب الاطار التنظيمي الصادر عن البرلمان يزاول مسؤولياته في إدارة أموال الصندوق من خلال: دائرة الاستثمارات وهي التي تباشر الاستثمار: والمجلس الاستشاري للبنك المركزي؛ ولجنة السياسة النقدية والاستقرار المالي؛ والمجلس التنفيذي، وهو مجلس إدارة البنك المركزي. ويفهم من ذلك أن دائرة الاستثمار تعمل وهيئات السلطة الثلاث في البنك المركزي تشرف وتوجه.
الصندوق يستثمر في الخارج فقط وبالعملة الأجنبية، وهذه مشتركات بين الصناديق السيادية، وإضافة العولمة إلى عنوان الصندوق للإشارة إلى الانتشار العالمي في فعالياته الاستثمارية. المكونات الرئيسة للاستثمار: الأسهم؛ السندات؛ العقارات؛ الطاقة المتجددة؛ البنى التحتية؛ والودائع المصرفية، وللصندوق حيازة المشتقات. وايضا، هناك قيود على الاستثمار وممنوعات، فمثلا يقتصر على أسهم الشركات المسجلة في البورصات النظامية والمعترف بها، وفي السنوات الأخيرة يسمح بحيازة أسهم الشركات التي من المحتمل تسجيلها في البورصات النظامية، التي باشرت مجالس إدارتها في التهيئة للتسجيل في الأسواق النظامية. ونذكّر، أن الصندوق لا يجوز له الاستثمار في أصول نرويجية ولا بالعملة الوطنية، ولا بالشركات النفطية. وثمة مؤشرات مرجعية تؤلف ما يماثل دليل الاستثمار، ومنها توزيع الثروة على مختلف أدوات الاستثمار، وهذه الأدوات كذلك تصنف إلى مستويات من الجدارة، والآماد الزمنية، وسواها.
وتهتم المؤشرات بتوزيع الاستثمارات حسب المناطق، ومن المتوقع إجراء تحليل لمعرفة التشكيلة المناسبة لتعظيم العوائد وخفض المخاطر. ولاستراتيجية أصلا حذرة من شبهات الأبعاد السياسية، إضافة على تفضيل الاستثمارات الصديقة للبيئة ومثالها الاستثمار في الطاقة المتجددة. وتوزع استثمارات الأسهم على البلدان بموجب أوزان. لكل دول معامل يضرب في الرسملة ثم تجمع، هذا المقام، والبسط الرسملة للدولة المعينة مضروبة بمعاملها. وتوزع الاستثمارات بالأسهم على الدول تبعا لتلك النسب.
اضف تعليق