صدمة الحرب الأوكرانية أدت الى ضعف افاق النمو الاقتصادي وكان ذلك مصحوباً بارتفاع أسعار السلع الأساسية واضطراب أسواق الطاقة (هذه عوامل جميعها حدثت في سبعينات القرن الماضي) مما قد يؤدي الى حدوث انتكاسات جديدة في الاقتصاد العالمي ولمواجهة ذلك بدأت الدول بتشديد سياستها النقدية ورفع أسعار الفائدة...
بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها وبدأت الدول الاوربية واليابان بإعادة الاعمار، وفي وقت سادت فيه أفكار المدرسة الكنزية وكانت في أوج تألقها، وكان الاقتصاد الأمريكي يسير على هُدى آراء كينز الذي أنقذها من الانهيار إبان ازمة الكساد العظيم 1929-1933، واستطاع آنذاك من رفع كابوس الكساد والبطالة عن عاتق الرأسمالية، عاش الاقتصاد العالمي عقدين من النمو والتطور والازدهار كانت تمثل الحقبة الذهبية للرأسمالية المعاصرة.
ولم تكن ضوابط الأسعار والأجور جزءً من النظام الكنزي، وعلى الرغم من قيام الرئيس رتشارد نيكسون بأحيائها خلال المدة 1971-1973، الا انها لم تكن لها وجود في الفكر الاقتصادي والسياسة الاقتصادية خلال تلك المدة، وإذا تطلب الأمر وضع قيود على الأجور والأسعار، فإنها لن تسمى ضوابط على الأجور والأسعار، وإنما سياسة للدخول والأسعار(1).
وحتى بداية السبعينات من القرن الماضي، لم تُشير الوقائع الاقتصادية والاحصاء والبيانات عن وجود تصاحب للبطالة مع التضخم، وقد أكد منحنى فيلبس الكنزي إن هناك علاقة عكسية بين البطالة والتضخم، أي عندما ترتفع معدلات البطالة ينخفض التضخم، وعندما يرتفع التضخم تنخفض معدلات البطالة، وهي الحالة التي تستطيع السياسة المالية مواجهتها من خلال اما زيادة الانفاق الحكومي وتخفيض الضرائب لمواجهة البطالة او تخفيض الانفاق وزيادة الضرائب لمواجهة التضخم.
الا ان الضغوط التي فرضتها حرب فيتنام وانهيار نظام برتين وودز وتصاعد مشاكل الدول النامية وارتفاع مستويات ديونها، أدت الى حدوث موجات من ارتفاع الأسعار صاحبها انكماش حاد وقوي.
وتعرض الاقتصاد العالمي لموجات متوالية من ارتفاع الأسعار لم يسبق لها مثيل وأصبحت الازمة الاقتصادية ولأول مرة مصحوبة بالتضخم، إذ ارتفع معدل التضخم خلال المدة 1970-1973 بضعف معدل الزيادة السنوية المسجلة في عقد الستينات بأكمله، ومع حدوث صدمة في أسعار النفط عام 1973-1974 تصاعدت الأسعار بشكل أكثر حدة بينما كانت أوضاع الركود تخيم على الاقتصاد العالمي (2).
وتُشير الإحصاءات الى انه وبعد ما كانت معدلات التضخم قد بلغت نحو 2.8% في المتوسط خلال عقد الستينات، ارتفعت لتصل الى نحو 16.9% في عام 1974، وبلغ متوسط معدلات التضخم ما يقارب 9.5% خلال عقد السبعينات، ليشهد الاقتصاد العالمي موجة تضخمية مصحوبة بارتفاع معدلات البطالة وهكذا شهد الاقتصاد العالمي دخول مصطلح التضخم الركودي Stagflation ومعه أصبحت السياسة الكنزية غير قادرة على مواجهتها ووصل الاقتصاد العالمي الى نهاية حقبة من الازدهار والنمو والتطور.
عموماً، أدت صدمات العرض وتشديد السياسات الاقتصادية لاحتواء الركود التضخمي الى كساد عالمي وإطلاق سلسلة من ازمات الديون في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية.
بعد ذلك، انخفضت معدلات التضخم واصبحت سياسة استهداف التضخم الهدف الرئيس الذي تسعى اليها البنوك المركزية، وشهد العقد الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين انخفاض في معدلات التضخم وبقائها ضمن الحدود المستهدفة باستثناء بعض السنوات القليلة التي ارتفع معها معدل التضخم.
ومع نهاية عام 2019 وما إن تم الإعلان عن تفشي جائحة كورونا وفي سياق إجراءات التباعد الاجتماعي والاغلاق العام الكبير، سارعت الدول الى اتخاذ جملة من الإجراءات على صعيد السياسة المالية، إذ بلغت حزم الإنقاذ المالي ما يقارب 18 تريليون دولار، وعلى صعيد السياسة النقدية التي اصبحت أكثر توسعية من خلال خفض أسعار الفائدة والتوسع في منح القروض وغيرها من الإجراءات.
وهذا الإطار، وفي ظل السياسات المالية والنقدية التوسعية، شهدت معدلات التضخم ارتفاعات ملحوظة خلال عام 2021 لتبلغ نحو 3.7% بالمقارنة مع 2.5% في عام 2020، الا انها لم تكن تشكل خطراً.
وما إن بدأت الحرب الروسية الأوكرانية وما تبعها من توترات جيوسياسية وجغرافية، وبالنظر للمكانة التي يحتلها البلدان في أسواق الطاقة وأسواق السلع الغذائية وأسواق السلع الأساسية والمعادن، شهدت معدلات التضخم ارتفاعات كبيرة خلال النصف الأول من عام 2022، غذتها اختناقات سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف الشحن، الى جانب ارتفاع أسعار النفط والطاقة الى مستويات تاريخية، كما في الشكل الآتي.
شكل (1) نمو أسعار الطاقة وأسعار السلع الاساسية بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية (%)
في ظل هذا الارتفاع في أسعار الطاقة وأسعار السلع الأساسية، تسارع التضخم في كل من الاقتصادات المتقدمة والبلدان النامية والبلدان النامية، وارتفع المتوسط العالمي لمؤشر أسعار المستهلكين إلى 7.8٪ (على أساس سنوي) في نيسان/أبريل 2202 وهو أعلى مستوى له منذ عام 2008، وبلغ معدل التضخم الإجمالي في بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية 9.4٪ وهو أعلى مستوى له منذ عام 2008، في حين أن التضخم في الاقتصادات المتقدمة وصل الى نحو 6.9٪ وهو الأعلى منذ عام 1982.
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى بيانات البنك الدولي
وقد تزامن هذا الارتفاع في معدلات التضخم انخفاض في معدلات النمو الاقتصادي فبعدما كان قد وصل الى 5.7% في عام 2021 فمن المتوقع ان يبلغ معدل النمو نحو 2.9% في عام 2022 ليفقد معدل النمو نحو 3 نقاط مئوية ومن المتوقع ان ايضاً ان يظل معدل النمو عند هذا المستوى خلال عامي 2023 و2024.
هذه التطورات والمتمثلة بالتضخم المصحوب بالركود (تزامن البطالة وضعف النمو مع ارتفاع الأسعار) تشبه الى حد كبيراً ما حدث في سبعينات القرن الماضي، إذ أدت الحرب في أوكرانيا إلى اضطرابات الإمدادات والتي بدورها أثرت على أسعار الطاقة العالمية واحدث صدمة في أسواق النفط (تشبه صدمات النفط في 1973 و 1979-80) وكانت الزيادة في أسعار الطاقة على مدى العامين الماضيين هي الأكبر منذ أزمة النفط عام 1973، وكانت السياسة النقدية تيسيريه للغاية في المدة التي سبقت هذه الصدمات، فضلاً عن ارتفاع ديون بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية إلى مستويات عالية مما قد يؤدي الى سلسلة من أزمات الديون كما حدث في ازمة السبعينات.
ختاماً، ان صدمة الحرب الأوكرانية أدت الى ضعف افاق النمو الاقتصادي وكان ذلك مصحوباً بارتفاع أسعار السلع الأساسية واضطراب أسواق الطاقة (هذه عوامل جميعها حدثت في سبعينات القرن الماضي) مما قد يؤدي الى حدوث انتكاسات جديدة في الاقتصاد العالمي
ولمواجهة ذلك بدأت الدول بتشديد سياستها النقدية ورفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم وللسيطرة على ارتفاع الأسعار وتهدئتها، اذ تُشير التجارب والوقائع التاريخية ان عدم التحرك او التحرك ببطء لكبح التضخم قد يكبد الاقتصاد تكاليف كبيرة جداً.
بالمقابل، فإن رفع اسعار الفائدة قد يؤدي الى تباطؤ النشاط الاقتصادي وقد يؤدي ارتفاع تكاليف الاقتراض الى دخول الكثير من دول في موجه جديدة من أزمات ديون على غرار ما حدث في بداية الثمانينات من القرن الماضي.
فهل يعيد التاريخ نفسه وتدخل الدول النامية في ازمة مديونية جديدة على غرار ازمة المديونية 1982؟ ام تنجح السياسات والإجراءات الاقتصادية في مواجهة هذه الصدمة ومعالجة آثارها السلبية؟
اضف تعليق