إيجاد التوازن الصحيح بين التوسع الاقتصادي واستقرار الأسعار فن أكثر من كونه عِـلما، ولكن يتعين على البنوك المركزية ذات الأهمية الجهازية أن تسعى جاهدة لإيجاد هذا التوازن من أجل الحفاظ على النمو العالمي. في الآونة الأخيرة، كان السعي إلى تحقيق هذه الغاية أشد صعوبة بسبب تزايد وتيرة الأزمات الاقتصادية...
بقلم: هيبوليت فوفاك
القاهرة ــ في الرابع من مايو/أيار، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة سعر الفائدة القياسي بمقدار نصف نقطة مئوية في محاولة جريئة للحد من ارتفاع التضخم السنوي في الولايات المتحدة، والذي بلغ حاليا أعلى مستوى له في أربعة عقود من الزمن (8.3%). وفي إبريل/نيسان، وصل التضخم في منطقة اليورو إلى مستوى غير مسبوق بلغ 7.5% على أساس سنوي مقارن، وفقا لتقديرات أولية.
الواقع أن هذه الزيادات الحادة الكبيرة ــ والتي تسارعت بفعل الحرب في أوكرانيا ــ تستحضر شبح الركود التضخمي، وقد تتسبب في تآكل القوة الشرائية بين الأسر بشكل كبير. وسوف تكون الفئات المستضعفة ذات الدخل المنخفض هي الأكثر تضررا في الأرجح بسبب قدرتها المحدودة على الوصول إلى الأسواق المالية، مما يجعل من الصعب عليها تنظيم استهلاكها. علاوة على ذلك، نظرا للزيادة الأكبر في أسعار السلع الأساسية التي تهيمن على سلة استهلاك الأسر المنخفضة الدخل، فإن فجوة التضخم بين الأغنياء والفقراء ــ أو الظاهرة التي يسميها أهل الاقتصاد "تفاوت التضخم" ــ قد تزداد اتساعا.
قبل بضعة أشهر فقط، كان هدف تثبيت استقرار الأسعار منخفضا بشكل استثنائي في المقايضة بين النمو والتضخم. وقيل إن البنوك المركزية ينبغي لها أن تستمر في التركيز على دعم التعافي الاقتصادي بعد الجائحة. ولكن السؤال الحاسم الآن هو ما إذا كان صناع السياسات النقدية يبذلون القدر الكافي من الجهد في مكافحة التضخم. في حالة البنوك المركزية ذات الأهمية الجهازية، من الصعب أن نزعم بشكل مقنع أنها تدرس المخاطر التي نشأت.
بادئ ذي بدء، تسببت إخفاقات التوقعات من جانب البنوك المركزية الكبرى في تمكين التضخم من تجاوز الأهداف التي حددتها بنحو 2% بل وربما يصبح التضخم راسخا. كان التضخم يتجه نحو الصعود وقد تجاوز الأهداف الرسمية على ضفتي الأطلسي في النصف الأول من عام 2021، لكن المسؤولين في الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي أصروا بعناد على أن النمو السريع الذي شهدته الأسعار كان مؤقتا.
كان ذلك الرأي متناقضا حتى مع القواعد التي تحكم السياسات النقدية التي تنتهجها البنوك المركزية، ولم يكن متسقا مع معدلات تعادل التضخم ــ في الولايات المتحدة، يعني هذا الفارق في العائد بين سند الخزانة الاسمي وسند الخزانة المحمي من التضخم اللذين يحملان ذات تاريخ الاستحقاق ــ من توقعات السوق الضمنية. يبلغ معدل تعادل التضخم في الولايات المتحدة لخمس سنوات حاليا نحو 3% (انخفاضا من المستوى القياسي، 3.59%، الذي بلغه في مارس/آذار 2022)، ويبلغ معدل حياد الاحتياطي الفيدرالي البعيد الأمد نحو 2.4%.
غالبا ما تكون الضربات الاستباقية الجيدة المعايرة مرغوبة في إدارة التضخم. إن خطر قبول فرضية التضخم المنخفض عن طريق الخطأ وبذل أقل قدر من الجهد لمنع التهديد من الانتقال إلى قطاعات أخرى يفوق إلى حد كبير مخاطر رفض الفرضية الباطلة بشأن التضخم المنخفض. يصدق هذا بشكل خاص عندما يكون الاقتصاد محموما بسبب فرط النشاط، لأن عكس الاتجاهات التضخمية يصبح أشد صعوبة بمجرد إفلات توقعات التضخم من مرساها.
لكن هذه هي الحال التي أصبح عليها العالم الآن. فقد قرر القائمون على بعض البنوك المركزية الكبرى ــ كجزء من محاولاتهم حسنة النية لدعم التعافي الهش بعد الجائحة ــ عدم استباق التضخم، أو حتى الاستجابة لضغوط الأسعار الحالية إلى أن يَـثـبُـت أنها مستمرة.
كانت سلسلة متوالية من الصدمات على مدار الأشهر القليلة الأخيرة سببا في إدامة صعود أسعار المستهلك. تشمل هذه الصدمات الارتباكات والاختناقات في سلاسل التوريد، واختلالات العرض والطلب، ونقص أشباه الموصلات، وارتفاع أسعار السلع الأساسية. كما لعبت الضغوط التي تدفع الأجور إلى الارتفاع دورا ملموسا، حيث أدى إحكام الظروف في سوق العمل إلى ارتفاع الأسعار، وخاصة في الولايات المتحدة.
رغم أن بعض هذه الصدمات قد تكون عواقب مؤقتة زائلة للانكماش الناجم عن الجائحة، فإن معظمها كان مدفوعا بتغيرات بنيوية، بما في ذلك عملية انحسار العولمة التي أشعلت شرارتها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. على نحو مماثل ــ تفاقمت ارتباكات سلاسل التوريد ــ التي تشير التقديرات إلى أنها أضافت نقطة مئوية كاملة للتضخم الأساسي في عام 2021 ــ بفعل الجائحة، لكنها سبقتها في حقيقة الأمر.
علاوة على ذلك، عملت الفترة المطولة المبكرة من التضخم المنخفض على تغذية اعتقاد خاطئ مفاده أن طباعة النقود لم تعد تؤدي إلى التضخم. في عام 1993، زعم رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك ألان جرينسبان أن العلاقات التاريخية بين النقود والدخل، وبين النقود ومستويات الأسعار، "انهارت إلى حد كبير، مما حَـرَمَ مجمعاتها من قدر كبير من فائدتها كدليل للسياسيات".
لكن تجاوز معدل التضخم الحالي ربما أَكَّـد صحة مقولة ميلتون فريدمان الشهيرة: "التضخم يشكل دائما وفي كل مكان ظاهرة نقدية". لقد دفع التوسع المستمر للمعروض من النقود ميزانيات البنك المركزي الأوروبي وبنك الاحتياطي الفيدرالي إل مستويات غير مسبوقة في عام 2021، مع ازدياد المعروض الكلي من النقود (M2) في الولايات المتحدة بنحو 2.5 تريليون دولار في العام الماضي. كانت هذه الزيادة تضخمية بكل تأكيد.
يقول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الحالي جيروم باول إن البنك المركزي الأميركي يمتلك الأدوات اللازمة لكبح جماح التضخم. بدأ الاحتياطي الفيدرالي نشر بعض ترسانته، بما في ذلك تقليص مشترياته من الأصول ورفع أسعار الفائدة، وربما يلجأ إلى أدوات أخرى أقل شيوعا لتقليص المعروض النقدي بشكل أكبر.
لكن من المؤسف أن الاحتياطي الفيدرالي يتعين عليه أن يتخذ هذه التدابير في وقت يتسم بتزايد مخاطر الركود التضخمي. إذ يشهد النمو العالمي حالة من التباطؤ السريع، وتزداد حدة الضغوط التضخمية بسبب صدمة أسعار السلع الأساسية التي تفاقمت بفعل الأزمة في أوكرانيا.
من المؤكد أن الأدوات التي تستخدمها البنوك المركزية الكبرى الآن ستساعد في احتواء التضخم. لكنها ستفرض تكلفة اقتصادية عالية وقد تدفع الاقتصادات الأكثر عُـرضة للخطر إلى الركود. الواقع أن استهداف سعر الفائدة المحايد، الذي لا تكون السياسة النقدية عنده انكماشية أو توسعية، أمر صعب حتى في أفضل الأحوال. بل ويصبح أشد صعوبة وتعقيدا في بيئة عالية التضخم عندما يكون من الواجب إجراء مقايضات. وأي تحرك خاطئ الآن قد يفسد بسهولة التعافي الأولي بعد الجائحة.
إذا حدث ذلك، فمن المرجح أن تقع التكاليف على نحو غير متناسب على عاتق اقتصادات الأسواق الناشئة، وخاصة البلدان المنخفضة الدخل المستوردة الصافية للنفط. كانت معظم هذه البلدان مثقلة بالديون عندما خرجت من الانكماش الناجم عن الجائحة، والآن تواجه تكاليف خدمة أعلى لديونها المقومة بالدولار الأميركي. كما تشهد قيمة عملاتها انخفاضا حادا في وقت حيث تضطر بعض البلدان بالفعل، بسبب تزايد عجز الحساب الجاري وارتفاع التضخم المستورد، إلى إجراء مقايضات صعبة في السياسة النقدية والمالية.
الواقع أن إيجاد التوازن الصحيح بين التوسع الاقتصادي واستقرار الأسعار فن أكثر من كونه عِـلما، ولكن يتعين على البنوك المركزية ذات الأهمية الجهازية أن تسعى جاهدة لإيجاد هذا التوازن من أجل الحفاظ على النمو العالمي. في الآونة الأخيرة، كان السعي إلى تحقيق هذه الغاية أشد صعوبة بسبب تزايد وتيرة الأزمات الاقتصادية الناجمة عن السياسات الاختيارية، من الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى عولمة الصراع الدائر في أوكرانيا.
قالت أليس ريفلين، نائبة رئيس الاحتياطي الفيدرالي في أواخر تسعينيات القرن العشرين: "إن مهمة البنك المركزي هي القلق"، والحق أن القائمين على البنوك المركزية مكلفين بمهام كثيرة في أيامنا هذه، مع تسبب العولمة في التعجيل بانتقال الصدمات الاقتصادية التي تتسبب في إحداثها توترات جيوسياسية متزايدة الحدة. وهذا سبب أقوى يدفعهم إلى تجنب الاختيارات السياسية دون المستوى الأمثل والتي لا تستعيد استقرار الأسعار ولا تعزز النمو الاقتصادي.
اضف تعليق