تشكل صدمة العرض السلبية المصحوبة بركود تضخمي معضلة للقائمين على البنوك المركزية. لأنهم يهتمون بتثبيت توقعات التضخم، فإنهم يحتاجون إلى تطبيع السياسة النقدية بسرعة، حتى برغم أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من التباطؤ بل وربما الركود. ولكن لأنهم يهتمون بالنمو أيضا، فإنهم في احتياج...
بقلم: نورييل روبيني، برونيلو روزا
نيويورك ــ عانى الاقتصاد العالمي من صدمتين سلبيتين كبيرتين على جانب العرض، أولا من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) والآن بسبب غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لأوكرانيا. تسببت الحرب في المزيد من الإرباك للنشاط الاقتصادي وأدت إلى ارتفاع معدلات التضخم، لأن التأثيرات التي تخلفها على العرض وأسعار السلع الأساسية في الأمد القريب اقترنت بالعواقب المترتبة على التحفيز النقدي والمالي المفرط في مختلف الاقتصادات المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة ولكن أيضا في اقتصادات متقدمة أخرى.
إذا نحينا جانبا التداعيات الجيوسياسية العميقة البعيدة الأمد المترتبة على الحرب، فإن التأثير الاقتصادي الفوري يتمثل في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمعادن الصناعية. وأدى هذا، إلى جانب الارتباكات الإضافية التي طرأت على سلاسل التوريد العالمية، إلى تفاقم ظروف الركود التضخمي التي نشأت أثناء الجائحة.
تشكل صدمة العرض السلبية المصحوبة بركود تضخمي معضلة للقائمين على البنوك المركزية. لأنهم يهتمون بتثبيت توقعات التضخم، فإنهم يحتاجون إلى تطبيع السياسة النقدية بسرعة، حتى برغم أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من التباطؤ بل وربما الركود. ولكن لأنهم يهتمون بالنمو أيضا، فإنهم في احتياج إلى التقدم ببطء في تطبيع السياسة، حتى برغم أن هذا يهدد بإفلات توقعات التضخم من مرساها وإحداث دوامة من الأسعار والأجور.
يواجه صناع السياسات المالية أيضا اختيارا صعبا. في ظل استمرار صدمة العرض السلبية، لن تكون زيادة التحويلات أو تخفيض الضرائب التصرف الأمثل، لأن هذا من شأنه أن يمنع الطلب الخاص من الانخفاض في الاستجابة لانخفاض العرض.
ما يدعو إلى التفاؤل أن الحكومات الأوروبية التي تسعى الآن إلى زيادة الإنفاق على الدفاع وإزالة الكربون بوسعها أن تعتبر هذه الأشكال من التحفيز استثمارات ــ وليس إنفاقا حاليا ــ كفيلة بالتخفيف من اختناقات العرض بمرور الوقت. مع ذلك، أي إنفاق إضافي سيزيد من حجم الديون ويأتي زيادة على الاستجابة المفرطة للجائحة، التي صاحبت التوسع المالي الهائل مع التقاء التسهيلات النقدية وتطبيع الديون فعليا.
لا شك أن الحكومات، مع انحسار الجائحة (في الاقتصادات المتقدمة على الأقل)، شرعت في عملية تدريجية للغاية لضبط الأوضاع المالية من خلال خفض العجز والديون، كما بدأت البنوك المركزية برامج تطبيع السياسات لكبح جماح تضخم الأسعار ومنع جنوح توقعات التضخم. لكن الحرب في أوكرانيا أضافت تعقيدا جديدا بعد أن أصبحت ضغوط الركود التضخمي أعلى كثيرا الآن.
كان التنسيق المالي والنقدي السمة المميزة للاستجابة للجائحة. ولكن الآن، في حين تمسكت البنوك المركزية بموقفها المتشدد الجديد، استنت السلطات المالية سياسات مُـسَـكِّـنة (مثل الإعفاءات الضريبة وخفض الضرائب المفروضة على الوقود) للتخفيف من حِدة الضرر الناجم عن أسعار الطاقة المتزايدة الارتفاع. وبالتالي، يبدو أن التنسيق أفسح المجال ليحل محله تقسيم العمل، حيث تتعامل البنوك المركزية مع التضخم في حين تتصدى الهيئات التشريعية لقضايا النمو والعرض.
من حيث المبدأ، تضع أغلب الحكومات ثلاثة أهداف اقتصادية نصب أعينها: دعم النشاط الاقتصادي، وضمان استقرار الأسعار، والإبقاء على أسعار الفائدة الطولية الأجل أو الفوارق السيادية تحت السيطرة من خلال التسييل المستمر للدين العام. ويضاف إلى هذا هدف جيوسياسي: إذ يجب أن يُـقابَل غزو بوتن برد يعاقب روسيا ويردع آخرين عن التفكير في أعمال عدوانية مماثلة.
تتمثل أدوات ملاحقة هذه الأهداف في السياسة النقدية، والسياسة المالية، والأطر التنظيمية. وكل منها يُـسـتَـخـدَم، على التوالي، لمعالجة التضخم، ودعم النشاط الاقتصادي، وفرض العقوبات. علاوة على ذلك، حتى وقت قريب، كانت سياسات إعادة الاستثمار وفرار تدفقات رأس المال إلى الأمان تعمل على الإبقاء على أسعار الفائدة الطويلة الأجل عند مستوى منخفض من خلال إدامة الضغوط التي تدفع عائدات سندات الخزانة والسندات الألمانية ذات العشر سنوات إلى الانخفاض.
بسبب التقاء العوامل على هذا النحو، وصل النظام إلى توازن مؤقت، مع التعامل مع كل من الأهداف الثلاثة جزئيا. لكن الدلائل الأخيرة في السوق ــ الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة الطويلة الأجل والفوارق داخل منطقة اليورو ــ تشير إلى أن هذا المزيج من السياسات سيصبح غير كاف، وهذا من شأنه أن يُـنـتِـج اختلالات توازن جديدة.
قد يُـفـضي التحفيز المالي والعقوبات المفروضة على روسيا إلى تغذية التضخم، وبالتالي إلحاق هزيمة جزئية بالجهود التي يبذلها صناع السياسات النقدية. علاوة على ذلك، سوف تصبح الحملة التي تنظمها البنوك المركزية لترويض التضخم من خلال زيادة أسعار الفائدة الرسمية متعارضة مع سياسات الميزانية العمومية التيسيرية، وقد يؤدي هذا إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأطول أجلا والفوارق السيادية، التي تنجرف بالفعل بشكل حاد نحو الصعود.
وسوف تضطر البنوك المركزية إلى مواصلة محاولات التوفيق بين هدفين غير متوافقين، ترويض التضخم والإبقاء في ذات الوقت على أسعار الفائدة الطويلة الأجل (أو الفوارق داخل منطقة اليورو) منخفضة من خلال سياسات الحفاظ على الميزانية العمومية. وفي الوقت ذاته، ستستمر الحكومات في تغذية الضغوط التضخمية من خلال الحوافز المالية والعقوبات المستمرة.
بمرور الوقت، قد تتسبب السياسات النقدية الأكثر إحكاما في تباطؤ النمو أو الركود الصريح. لكن خطرا آخر يتمثل في تقييد السياسة النقدية بفعل تهديد الانزلاق إلى فخ الديون. ومع ارتفاع الديون العامة والخاصة إلى مستويات تاريخية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، لا يستطيع القائمون على البنوك المركزية دفع تطبيع السياسة إلى مسافة أبعد دون أن يجازفوا بإحداث انهيار مالي في أسواق الديون والأسهم.
عند هذه المرحلة، ربما تستسلم الحكومات تحت الضغط من قِـبَـل المواطنين الساخطين إلى إغراء المسارعة إلى الإنقاذ من خلال تحديد سقف للأسعار والأجور وفرض الضوابط الإدارية لترويض التضخم. الواقع أن هذه التدابير أثبتت فشلها في الماضي (حيث تسببت في التقنين، على سبيل المثال) ــ وخاصة في سبعينيات القرن العشرين التي شهدت حالة من الركود التضخمي ــ ولا يوجد سبب يحملنا على الاعتقاد بأن هذه المرة ستكون مختلفة. بل إن بعض الحكومات قد تتسبب في زيادة الأمور سوءا على سوء، ولنقل من خلال إعادة إدخال آليات الجدولة التلقائية للرواتب ومعاشات التقاعد.
في مثل هذا السيناريو، سيدرك جميع صناع السياسات حدود الأدوات المتاحة لهم. وسوف تدرك البنوك المركزية أن قدرتها على السيطرة على التضخم محدودة بالحاجة إلى الاستمرار في تحويل الديون العامة والخاصة إلى نقود. وسوف ترى الحكومات أن قدرتها على الإبقاء على العقوبات المفروضة على روسيا مقيدة بالتأثيرات السلبية التي تخلفها على اقتصاداتها (من حيث النشاط الكلي والتضخم).
ينطوي الأمر على نهايتين محتملتين. فقد يتخلى صناع السياسات عن أحد أهدافهم، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، أو انخفاض النمو، أو ارتفاع أسعار الفائدة الطويلة الأجل، أو تخفيف العقوبات ــ وربما يأتي هذا مصحوبا بانخفاض مؤشرات الأسهم. بدلا من ذلك، قد يكتفي صناع السياسات بتحقيق كل هدف بشكل جزئي فقط، وهو ما قد يُـفـضي إلى نتيجة كلية دون المستوى الأمثل من ارتفاع التضخم، وانخفاض النمو، وارتفاع أسعار الفائدة الطويلة الأجل، وتخفيف العقوبات ــ مع ظهور مؤشرات أسهم أكثر انخفاضا وعملات ورقية مخفضة القيمة. في كلتا الحالتين، سوف تستشعر الأسر والمستهلكون الضغوط الموجعة، ولن يخلو هذا من عواقب سياسية محتملة على طول الطريق.
اضف تعليق