أدت النزعات والصراعات الى انهيار المؤسسات النظامية الأمر الذي أدى الى نمو الاقتصاد غير النظامي، مما انعكس بشكل سلبي على الأنشطة الاقتصادية النظامية، فغالباً ما تتعطل الشركات والمؤسسات العامة، ويتحول العمال الى القطاع غير النظامي للحفاظ على سبل العيش، العنف والصراع والنزاعات المستمرة أدت الى زيادة النزوح...
صدر في عام 2020 تقرير تشاركي بين جامعة الدول العربية والمنظمة الدولية للهجرة ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) وهو جزء من برنامج تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول المتأثرة بالنزاعات في المنطقة العربية وبتمويل من صندوق الأمم المتحدة الاستنمائي للأمن البشري.
أشار التقرير الى إن العقد الماضي شهد تصاعداً حاداً للنزاعات في جميع انحاء المنطقة العربية، وقد تبين إن هذه النزاعات أكثر حدةً وطولاً وتعقيداً، مما ألحق ضرراً فادحاً بالأمن البشري وفرص التنمية المستدامة، وقد أدى الأثر التراكمي للنزاع الى خسارة مئات الالاف من الأرواح وتدمير الممتلكات والبنى التحتية ونزوح الملايين وتزايد أوجه عدم المساواة، الأمر الذي أدى الى تفاقم مواطن الضعف والهشاشة بمختلف أبعادها، وأدى الى تآكل قدرة الدولة والافراد على مواجهتها والتكيف معها، وهو ما أدى الى تقويض استحقاقات مكاسب التنمية واستدامتها، واستحاله تحقيق اهداف التنمية المستدامة 2030 كما مقرر لها.
من جانب آخر، أشار التقرير الى إن المنطقة العربية تضررت في عام 2020 جراء تفشي جائحة كوفيد-19، اذ تركت الجائحة ضغوطاً هائلة على النظم الصحية الضعيفة والمثقلة بالأعباء، وأدى الى نشوء تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة أدت الى تفاقم مواطن الضعف القائمة أصلاً وانخفاض الموارد وزيادة القيود المفروضة، وقد طرح التقرير جملة من التحديات التي تواجه النهوض لتحقيق أهداف التنمية 2030، كما طرح نتائج عديدة لدعم الجهود الرامية للنهوض بالأهداف.
العراق والصراعات وأهداف التنمية المستدامة
تتباين كلفة النزاع من حيث التنمية المستدامة وإن كانت مترابطة في كثير من الأحيان فيمكن أن يؤدي النزاع الى شح الموارد الطبيعية وندرة رأس المال البشري وارتفاع البطالة، وخفض الانفاق الاجتماعي في وقت يكون السكان بأمس الحاجة اليه.
وقد شهد العراق صراعات ونزاعات وحروب مدمرة انعكست على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتكبد البلد خسائر فادحة، ويُشير التقرير الإقليمي الى إن الكلفة الاقتصادية للعنف والصراعات شهدت مستوى عالي جداَ، كما موضحة في الشكل الآتي.
شكل (1): الكلف الاقتصادية للعنف (%) من الناتج المحلي الإجمالي
من جانب آخر، أدت النزعات والصراعات الى انهيار المؤسسات النظامية الأمر الذي أدى الى نمو الاقتصاد غير النظامي، مما انعكس بشكل سلبي على الأنشطة الاقتصادية النظامية، فغالباً ما تتعطل الشركات والمؤسسات العامة، ويتحول العمال الى القطاع غير النظامي للحفاظ على سبل العيش، ويوضح الجدول الآتي الرصيد الضريبي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
جدول (1) الرصيد الضريبي (%) من الناتج المحلي الإجمالي في العراق
وأشار التقرير الى إن العنف والصراع والنزاعات المستمرة أدت الى زيادة النزوح القسري للسكان وأدت الى تفاقم الخلل في العوامل البنيوية المحددة للفقر واعاق الحصول على الاحتياجات والخدمات الأساسية، بما في ذلك العمل والصحة والتعليم والأمن، ويوضح الشكل الآتي اللاجئون والنازحون كنسب مئوية من السكان لبعض الدول العربية ووضع العراق فيه.
شكل (2): اللاجئون والنازحون داخلياً (%) من مجموع السكان ووضع العراق فيه
وعلى الرغم من انتهاء حالة الصراع في العراق إلا إن 3.5% من سكان العراق هم نازحون، ويقيمون على مقربة من النزاعات العنيفة ويعيشون في مخيمات، الأمر الذي يولد حالة من انعدام الأمن الإنساني ويفاقم الفقر ويعيق الوصول الى الخدمات الأساسية ويزيد الضغط على الموارد المحلية ومن ثم تزداد التحديات أمام تحقيق التنمية المستدامة.
وفي سياق متصل، أشار التقرير الى إن نمو الشبكات الاجرامية عبر الوطنية أيضاً ظاهرة مثيرة للقلق وقوضت سيادة القانون وظروف الأمن والاستقرار الاقتصادي اللازمة للتنمية المستدامة، فتدهور قدرة الدول على فرض رقابة فعالة على حدودها خلقت حوافز مريحة للأنشطة الاقتصادية غير المشروعة ومثلت بيئة خصبة للأنشطة الاجرامية.
وقد باتت الشبكات الاجرامية والجريمة المنظمة والتدفقات المالية غير المشروعة من الهواجس العالمية التي تتحدى سيادة القانون وتُهدد التنمية المستدامة على جبهات منها، تقويض سيادة القانون وحرمان الحكومات من الإيرادات وتيسير الفساد ومزاحمة النشاط الاقتصادي.
وفي هذا الإطار، شدد مجلس الأمن مراراً وتكراراً على هذه الروابط المتبادلة بين الجريمة المنظمة والتنمية المستدامة، وقد تناول هذه الظاهرة وأصدر العديد من القرارات، ويوضح الشكل الاتي القرارات المتعلقة بالجريمة المنظمة في العراق للمدة 2010-2019:
شكل (3) قرارات مجلس الامن المتعلقة بالجريمة المنظمة بحسب نوع الجريمة خلال المدة 2010-2019 الخاصة بالعراق (%)
أما فيما يتعلق بالفقر وانعدام الأمن الغذائي فقد أشار التقرير الى إن هاتان الظاهرتان متفشيتان بالمنطقة العربية وتُشيران وبوضوح الى الآثار الواسعة النطاق للنزاع الواسع النطاق على مدى العقد الماضي. ويوضح الجدول الآتي عدد الأشخاص الذين يحتاجون الى المساعدة الإنسانية في العراق.
جدول (2) عدد الأشخاص الذين يحتاجون الى المساعدة الإنسانية ونوع المساعدة 2020 في العراق (بالمليون)
من خلال الجدول نلاحظ إن عدد السكان الذين يحتاجون الى المساعدة (بمختلف اشكالها) قد بلغ نحو 16.4 مليون شخص (نحو 50% من السكان) وهي نسبة كبيرة جداً، وسيتوجب إنهاء الفقر وتحقيق الامن الغذائي معالجة القضايا الأساسية المتمثلة في الهشاشة والظلم والاستبداد والنزاع والنزوح.
وفيما يتعلق بالتعليم والذي يُعد عنصر حاسم للنمو الاقتصادي والتخفيف من حدة الفقر، أشار التقرير الى إن عدم حصول الأطفال على التعليم يعرضهم للاستغلال الجسدي والنزاع ويعيق حصول الأطفال على التعليم عن طريق تقويض نظم التعليم وخلق حواجز أمام وصول السكان المتأثرين بالنزاع، وفي الدول التي تشهد نزاعات أدى دمار المدارس ومحدودية عدد المدرسين الى تآكل نظم التعليم واعاقة القدرات على توفير فرص الحصول على تعليم، ويشكل تدهور البنية التحتية تحدياً لآفاق النمو الاقتصادي والتنمية على المدى الطويل.
وبحسب دراسات اليونيسف والبنك الدولي ووفقاً للمعدلات الحالية للالتحاق بالمدارس من المتوقع أن يتمكن الطفل العراقي من إكمال 6.9 سنوات فقط من التعليم المدرسي مقارنةً بـــ 11.3 سنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وإذا ما تم الأخذ بنظر الاعتبار مقدار التعلم الذي يحصل عليه التلميذ فعلياً مُقاساً من خلال الاختبارات المعيارية فإنه يحصل على ما يعادل 4 سنوات دراسية فقط بالمقارنة مع 7.6 سنة لدول المنطقة، ونتيجة لذلك فإن 2.9 من مجموع 6.9 سنة يمضيها الطفل العراقي في المدرسة (أي 40%) تُعد ضائعة ولا تُترجم الى مهارات إنتاجية يحتاجها عندما يلتحق بصفوف القوى العاملة، وتخفي هذه المعدلات تفاوتات كبيرة ترتبط بالموقع الجغرافي والحالة الاجتماعية والاقتصادية.
شكل (4): الأشخاص الذين يحتاجون الى الخدمات التعليمية 2020 (مليون شخص)
وبالنسبة لخدمات الحصول على الماء الصالح للشرب وخدمات الصرف الصحي، فقد أشار التقرير الى إن سنوات الصراع والحروب الطويلة في العراق قد عرقلت حصول الجميع على هذه الخدمات، وتفاقمت هذه التحديات وتجلت في فجوات كبيرة انعكست على مسار التنمية من خلال العدد الهائل من سكان البلد الذين يحتاجون الى المساعدة في توفير المياه وخدمات الصرف الصحي والنظم الصحية، وقد أظهر العراق تقدماً غير كافٍ نحو تحقيق الأهداف المنشودة (هناك فجوة تُقدر-35%).
من جانب آخر، عرج التقرير على مشكلة التغير المناخي والذي أصبحت تمثل تحدياً خطيراً وكبيراً بوصفه أحد العوامل المسببة للاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فمن المتوقع أن يشهد العراق خلال القرن الحادي والعشرون حالات متطرفة وغير مسبوقة وتزايد درجات الحرارة الى مستويات تاريخية غير مسبوقة يصاحبها انخفاض في هطول الامطار وارتفاع في وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة في ظل الوضع الراهن لانبعاثات الغازات، مما يؤدي الى ندرة الموارد المائية وارتفاع نسب الاجهاد المائي، كل ذلك يؤدي الى خسائر كبيرة في الإنتاجية وانخفاض الإنتاج الزراعي وفقدان الأراضي الصالحة للزراعة، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية الأخرى والمخاطر على السياحة والهجرة والنزوح من الريف الى المدينة مما يسبب ضغوطاً كبيرة ويفاقم اتجاهات التعثر في مسار التنمية المستدامة.
إجمالاً، لقد خلفت سنوات الصراع والنزاعات في العراق صدمة سلبية ذات آثار طويلة الأمد في مختلف جوانب التنمية، فإلى جانب ارتفاع نسب الوفيات وتدمير البنية التحتية، أثر النزاع ويؤثر في تعطل سبل العيش وزيادة الفقر وفقدان الأمن الإنساني (النزوح والهجرة) والجوع وسوء التغذية وزيادة حدة الفقر، وحَد من فرص الحصول على الخدمات الأساسية (مثل الصحة والتعليم والماء الصالح للشرب والصرف الصحي. الخ)، وأدى الى تآكل قدرة الدولة على تنفيذ السياسات اللازمة لتعزيز تقديم الخدمات وتحسين البنية التحتية والفوقية (جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها)، الى جانب تقويض سلطة الدولة وسيادة القانون.
وبدون السلام والاستقرار لا يمكن تحقيق اهداف التنمية المستدامة، وتؤكد خطة أهداف عام 2030 على إنه "لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة بدون سلام ولا يمكن تحقيق السلام بدون تنمية مستدامة".
اضف تعليق