يتبين لنا أن الأمر وكأن بنية اليورو مصممة لإحداث القدر الأقصى من التباعد. الواقع أن الأوروبيين أنشأوا بنكا مركزيا يفتقر إلى دولة مشتركة تدعمه، في حين سمحوا في الوقت ذاته لدولنا بالاستمرار على حالها في غياب بنك مركزي يدعمها في أوقات الأزمات المالية، عندما تضطر الدول إلى إنقاذ البنوك العاملة...
بقلم: يانيس فاروفاكيس
أثينا ــ يصادف هذا الشهر مرور عشرين عاما منذ أصبحت العملة الأوروبية الموحدة حقيقة ملموسة مع طرح العملات الورقية والمعدنية من اليورو. احتفالا بهذه المناسبة، أصدر وزراء مالية منطقة اليورو بيانا مشتركا وَصَـفَ عُـملة اليورو على أنها "أحد أعظم الإنجازات الملموسة للتكامل الأوروبي". الواقع أن اليورو لم يفعل أي شيء لتعزيز التكامل الأوروبي. بل العكس تماما هو الصحيح.
كان الغرض الأساسي من اليورو تسهيل التكامل من خلال إزالة تكلفة تحويلات العملة، والأهم من ذلك تجنب المخاطر المترتبة على عمليات خفض القيمة المزعزعة للاستقرار. وُعِـدَ الأوروبيون بأن اليورو سيشجع التجارة عبر الحدود، ويعمل على تقارب مستويات المعيشة، ويجعل دورة الأعمال أكثر سلاسة، ويجلب قدرا أكبر من استقرار الأسعار، وأن الاستثمار البيني داخل منطقة اليورو سيفضي إلى نمو الإنتاجية الأسرع في الإجمال وتقارب النمو بين البلدان الأعضاء. باختصار، كان المفترض أن يشكل اليورو الأساس لإضفاء الطابع الألماني الحميد على أوروبا.
بعد مرور عشرين عاما، لم تتحقق أي من هذه الوعود. فمنذ إنشاء منطقة اليورو، سجلت التجارة داخل منطقة اليورو نموا بلغ 10%، وهذا أقل كثيرا من الزيادة التي سجلتها التجارة العالمية بنسبة 30%، والأهم من ذلك زيادة التجارة بنسبة 63% بين ألمانيا وثلاث دول في الاتحاد الأوروبي لم تعتمد اليورو: بولندا، والمجر، وجمهورية التشيك.
وهذه ذات القصة مع الاستثمارات المنتجة. فقد اجتاحت موجة عارمة من القروض من ألمانيا وفرنسا بلدان منطقة اليورو مثل اليونان، وأيرلندا، وإسبانيا، مما أدى إلى حالات إفلاس متتالية والتي كانت في صميم أزمة اليورو قبل عشر سنوات. لكن معظم الاستثمار المباشر الأجنبي ذهب من بلدان مثل ألمانيا إلى جزء من الاتحاد الأوروبي اختار عدم تبني اليورو. وعلى هذا ففي حين كان الاستثمار والإنتاجية في تباعد داخل منطقة اليورو، تحقق التقارب بين البلدان التي بقيت خارجها.
أما عن الدخل، ففي عام 1995، في مقابل كل 100 يورو (114 دولار أميركي) يكسبها المواطن الألماني العادي، كان المواطن التشيكي العادي يكسب 17 يورو، واليوناني العادي 42 يورو، والبرتغالي العادي 37 يورو. بين الثلاثة، كان التشيكي فقط الذي لم يتمكن من سحب اليورو من أجهزة الصراف الآلي المحلية بعد عام 2001، ومع ذلك كان دخله في عام 2020 أقرب إلى متوسط دخل الألماني البالغ 100 يورو بنحو 24 يورو، مقارنة بنحو 3 يورو فقط في حالة نظيره اليوناني، و9 يورو فقط في حالة نظيره البرتغالي.
السؤال الرئيسي هنا ليس لماذا فشل اليورو في جلب التقارب، بل لماذا تصور أي شخص أنه قد يفعل ذلك. تزودنا نظرة على ثلاثة أزواج من الاقتصادات الجيدة التكامل برؤى مفيدة: السويد والنرويج، وأستراليا ونيوزيلندا، والولايات المتحدة وكندا. سجل التكامل الوثيق في هذه البلدان نموا ملموسا ـ ولم يتعرض للخطر قَـط ــ لأنها تجنبت الاتحاد النقدي.
للتعرف على الدور الذي لعبه الاستقلال في الإبقاء على اقتصادات هذه البلدان متوازنا، لنتأمل معدلات التضخم هناك. منذ عام 1979، كان معدل التضخم متشابها إلى حد كبير في السويد والنرويج، وفي أستراليا ونيوزيلندا، وفي الولايات المتحدة وكندا. ومع ذلك، خلال ذات الفترة، تقلبت أسعار صرف عملاتها الثنائية بشكل كبير، وكان هذا أشبه بعمل ممتص الصدمات خلال فترات الركود غير المتماثلة والأزمات المصرفية، وساعد في الإبقاء على توازن اقتصاداتها المتكاملة.
حدث شيء مشابه في الاتحاد الأوروبي بين ألمانيا، والاقتصاد الرائد في منطقة اليورو، بولندا التي لم تعتمد اليورو: عندما أُنشئ اليورو، انخفضت قيمة الزلوتي البولندي بنحو 27%. ثم بعد عام 2004، ارتفعت قيمته بنحو 50%، قبل أن تنخفض مرة أخرى بنحو 30%، خلال الأزمة المالية في عام 2008. نتيجة لهذا، تجنبت بولندا النمو المدفوع بالديون الأجنبية الذي ميز بعض البلدان الأعضاء في منطقة اليورو مثل اليونان وإسبانيا وأيرلندا وقبرص، كما تفادت الركود الهائل عندما بلغت أزمة اليورو ذروتها. هل من الغريب أن أي اقتصاد في الاتحاد الأوروبي لم يتقارب بشكل أكثر إبهارا مع الاقتصاد الألماني مقارنة باقتصاد بولندا؟
بالنظر إلى أحداث الماضي الآن، يتبين لنا أن الأمر وكأن بنية اليورو مصممة لإحداث القدر الأقصى من التباعد. الواقع أن الأوروبيين أنشأوا بنكا مركزيا يفتقر إلى دولة مشتركة تدعمه، في حين سمحوا في الوقت ذاته لدولنا بالاستمرار على حالها في غياب بنك مركزي يدعمها في أوقات الأزمات المالية، عندما تضطر الدول إلى إنقاذ البنوك العاملة على أراضيها.
في الأوقات الطيبة، كانت القروض عبر الحدود تخلق ديونا غير مستدامة. وبعد ذلك، عند أول بادرة من بوادر الضائقة المالية (سواء أزمة ديون عامة أو خاصة)، أصبحت نُـذُر الشؤم واضحة: أزمة على مستوى منطقة اليورو كانت نتيجتها الحتمية التباعد الحاد واختلالات توازن هائلة جديدة.
من منظور الشخص العادي، كان الأوروبيون أشبه بمالك سيارة بائس قرر، في محاولة لتجنب انزياح جسم السيارة في المنعطفات، إزالة مساعدي امتصاص الصدمات، ثم قاد سيارته مباشرة إلى حفرة عميقة. السبب الذي عمل على تمكين دول مثل بولندا ونيوزيلندا وكندا من تحمل الأزمات العالمية دون أن تتخلف عن ألمانيا وأستراليا والولايات المتحدة (أو تسلم سيادتها لها) هو أنها على وجه التحديد قاومت إنشاء اتحاد نقدي معها. ولو استسلمت لإغراء العملة المشتركة، لكانت أزمات كتلك التي اندلعت في 1991، أو 2001، أو 2008، أو 2020 تسببت في تحويلها إلى مستعمرات للديون.
يزعم بعض المراقبين أن أوروبا تعلمت الدرس الآن. ففي الاستجابة لأزمة اليورو والجائحة، جرى تعزيز منطقة اليورو بمؤسسات جديدة مثل آلية الاستقرار الأوروبي (صندوق إنقاذ مشترك)، ونظام الإشراف المشترك للبنوك الأوروبية، وصندوق التعافي جيل الاتحاد الأوروبي التالي.
لا شك أنها تغيرات كبرى. لكنها تشكل الحد الأدنى اللازم للإبقاء على اليورو طافيا بالكاد دون تغيير طبيعته. من خلال تنفيذها، أكد الاتحاد الأوروبي على استعداده لتغيير كل شيء من أجل الإبقاء على كل شيء على حاله ــ أو بشكل أكثر دقة، لتجنب التغيير الوحيد المهم: إنشاء اتحاد مالي وسياسي لائق، والذي يشكل شرطا أساسيا لإدارة صدمات الاقتصاد الكلي وإزالة الاختلالات الإقليمية.
بعد عشرين عاما من إنشائه، يظل اليورو على بنيته المناسبة للأحوال المعتدلة، وهذا يعمل على تغذية التباعد وليس دفع التقارب. حتى وقت قريب، كانت هذه النتيجة مصدر إلهام لمناقشات محتدمة ــ وبالتالي الأمل في أن تكون أوروبا واعية لقوى الطرد المركزي التي تهدد أسسها.
الآن، لم تعد هذه هي الحال. عندما أصدر وزراء مالية منطقة اليورو أنشودتهم المشتركة في امتداح العملة المشتركة، حدث أمر لافت للنظر: لا شيء. فلم يشارك أحد في الاحتفالات. ولم يكلف أحد نفسه عناء المعارضة. من الواضح أن هذا القدر من عدم الاكتراث لا يبشر بالخير لاتحاد تمزقه فجوات التفاوت المتزايدة الاتساع والشعبوية الكارهة للأجانب والمهاجرين.
اضف تعليق