يقوم النظام الدنماركي على ركيزتين. إنه يجعل سوق العمل أكثر مرونة من خلال تبسيط إجراءات فصل الموظفين بالنسبة للشركات. ومع ذلك، ومن أجل حماية العمال المُسرحين، توفر الحكومة إعانات بطالة سخية، فضلاً عن تنفيذ استثمارات كبيرة في التدريب المهني لمنح الأشخاص المهارات التي يحتاجون إليها ليتمكنوا...
بقلم: فيليب أغيون، أيمن محمدي

باريس - سلطت جائحة فيروس كوفيد 19 الضوء على نقاط الضعف الرئيسية للنماذج الرأسمالية الأمريكية والأوروبية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أظهرت الأزمة حدود الأنظمة الاقتصادية التي فشلت في حماية الأفراد من آثار التدمير الخلاق والعواقب الاجتماعية المُترتبة على صدمة الاقتصاد الكلي. وفي أوروبا، كشفت الأزمة عن عدم كفاية ديناميكية النظام البيئي الإبداعي في المنطقة - لاسيما في قطاع التكنولوجيا الحيوية، الذي يحمل المفتاح الرئيسي لإنهاء الجائحة. وبالتالي، على الرغم من جميع الأضرار التي تسببت بها، تُعد أزمة فيروس كوفيد 19 أيضًا بمثابة إنذار لإعادة النظر في الرأسمالية.

نحن لا نعتبر افتقار النموذج الاقتصادي الأمريكي إلى الحماية والشمولية ثمنًا ضروريًا يجب دفعه لتحقيق المزيد من الابتكار. كما أننا لا نعتقد أن افتقار أوروبا للابتكار هو نتيجة طبيعية لزيادة الإدماج وتحسين الحماية الاجتماعية. لذلك، إلى جانب الدعوة إلى زيادة الاستثمار في التعليم، فإننا ندعو إلى اعتماد سياسات لتحفيز النمو القائم على الإبداع وجعله أكثر شمولاً: تعزيز سياسة المنافسة، وتبني نظام "الأمن المرن" على النمط الدنماركي في أسواق العمل.

ينبغي أن تبدأ المناقشات حول سياسة المنافسة بالتساؤل عن سبب معاناة الاقتصاد الأمريكي المبتكر، الذي قاد ثورة تكنولوجيا المعلومات، من تراجع نمو الإنتاجية على مدى العقدين الماضيين. ومن بين مختلف التفسيرات المُحتملة لهذا الاتجاه، أكد تفسيران على مشكلة المنافسة.

ففي كتابه بعنوان "الانعكاس العظيم" الذي صدر في عام 2019، جادل الخبير الاقتصادي الفرنسي توماس فيليبون بأن السبب الرئيسي وراء تباطؤ نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة كان ضعف سياسات مكافحة الاحتكار. ووفقًا لفيليبون، أدى هذا التحول التدريجي إلى تركيز أكبر في العديد من القطاعات الاقتصادية وتآكل ديناميكية الأعمال التجارية، وخاصة إنشاء شركات جديدة.

هناك تفسير بديل، وهو تفسير طوره أحدنا (أغيون) مع أنتونين بيرجو وتيمو بوبارت وبيتر جي كلينوف وهويو لي، والذي يتسم أيضًا بعدم كفاية المنافسة، ولكنه يُركز على ثورة تكنولوجيا المعلومات. باختصار، مكّن التقدم التكنولوجي السريع الشركات الكبرى - تلك التي جمعت رؤوس الأموال الاجتماعية والمعرفة اللازمة التي يصعب تقليدها، و / أو طورت شبكات قوية - من السيطرة على حصة أكبر من القطاعات الاقتصادية. وهذا ما يُفسر تسارع نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة خلال الفترة ما بين عامي 1995 و2005، ولاسيما في القطاعات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات.

ولكن على المدى الطويل، ستعمل الشركات الكبرى على تثبيط الابتكار من قبل الشركات المحلية في جميع خطوط الإنتاج التي تتحكم فيها، ويرجع ذلك إلى أن المنافسين الذين يحاولون التفوق على شركة عملاقة يضطرون إلى خفض أسعارهم إلى حد كبير وبالتالي عائدات المنتجات المُبتكرة. لذلك، ومن خلال تمكين الشركات الكبرى من النمو السريع والتحكم في المزيد من القطاعات، ينتهي الأمر بثورة تكنولوجيا المعلومات إلى الحد من دخول السوق والابتكار والنمو في الاقتصاد الكلي.

يُشير هذا التفسير إلى أن تعظيم إمكانيات نمو ثورة تكنولوجيا المعلومات يتطلب إصلاح سياسة المنافسة لمراعاة تأثير عمليات الاندماج والشراء على الابتكار ودخول السوق في المستقبل. وينبغي لمثل هذا النهج أن يُعزز النمو القائم على الابتكار وجعله أكثر شمولاً من خلال السماح للجهات الفاعلة المُبتكرة الجديدة بدخول السوق. كما ينبغي لهذا الابتكار أن يُشجع على المزيد من الحراك الاجتماعي، ولاسيما من قبل الوافدين الجدد.

ومن ناحية أخرى، قد تساعد مُخططات "الأمن المرن" في معالجة مشاكل سوق العمل الراسخة، بما في ذلك في الولايات المتحدة. وفي مقال صدر في عام 2017، أظهرت آن كيس وزوجها أنجوس ديتون أنه بعد فترة طويلة من تسجيل تراجع كبير، بدأ معدل الوفيات بين متوسطي العمر (45-54) من السكان البيض غير اللاتينيين في الولايات المتحدة في الارتفاع في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم تسارع هذا المعدل بشكل حاد بعد الفترة ما بين عامي 2011 و2012. وقد كانت أبرز النتائج التي توصل إليها الكاتبين هي الزيادة السريعة فيما أسموه بـ "وفيات اليأس" الناتجة عن الانتحار أو تعاطي جرعات زائدة من المخدرات، وخاصة بين العمال ذوي المهارات المتدنية. لا يوجد نظير مُعاصر لهذه الظاهرة في البلدان المتقدمة الأخرى.

وقد عزا الكاتبان ديتون وكيس انعكاس اتجاه معدل الوفيات بين السكان البيض الأمريكيين غير اللاتينيين إلى تزايد انعدام الأمن الوظيفي المرتبط بالتدمير الإبداعي/الخلاق، والذي غالبًا ما يؤدي إلى زيادة عدم استقرار الأسر المعيشية. وبشكل عام، انتقلنا من عالم يتوقع فيه كثير من الناس أن يقضوا حياتهم المهنية بأكملها في نفس الشركة، مع احتمالية الارتقاء إلى مستوى أعلى، إلى عالم أصبح فيه الانقطاع المتكرر عن العمل أمرًا مُعتادًا.

هل من الممكن تصميم نظام يجعل التدمير الخلاق أكثر قبولاً من خلال السماح للأفراد بتجاوز فترات البطالة بهدوء أكبر وبطريقة تعود بالنفع على الاقتصاد ككل؟ وتُشير دراسة مهمة أجرتها ألكسندرا رولي في عام 2017 إلى أن الدنمرك، التي أدخلت نظام الأمن المرن في عام 1993، ربما وجدت الصيغة الصحيحة.

يقوم النظام الدنماركي على ركيزتين. إنه يجعل سوق العمل أكثر مرونة من خلال تبسيط إجراءات فصل الموظفين بالنسبة للشركات. ومع ذلك، ومن أجل حماية العمال المُسرحين، توفر الحكومة إعانات بطالة سخية، فضلاً عن تنفيذ استثمارات كبيرة في التدريب المهني لمنح الأشخاص المهارات التي يحتاجون إليها ليتمكنوا من العودة إلى سوق العمل مرة أخرى.

قارنت رولي صحة العمال الدنماركيين الذين أغلقت أماكن عملهم وفقدوا وظائفهم بين عامي 2001 و2006 بصحة العمال الذين لديهم نفس المواصفات (بما في ذلك العمر والخبرة والمهارات) الذين لم يُغلق صاحب عملهم. وكانت النتائج التي تَوصلت إليها مذهلة: لم تؤثر عمليات إغلاق الشركات على بعض المؤشرات الصحية الفردية المهمة، ولاسيما استهلاك مضادات الاكتئاب أو احتمالية استشارة طبيب عام. كما لم يؤثر إغلاق شركة ما على معدل الوفيات بين العاملين فيها.

ومن خلال إنشاء نظام الأمن المرن، حققت الدنمرك هدفين في وقت واحد. أولاً، عملت على تعزيز النمو القائم على الابتكار من خلال تسهيل تنفيذ عملية التدمير الإبداعي وزيادة فعاليتها (نظرًا للاستثمارات العامة المُصاحبة في التدريب المهني). ثانيًا، جعلت الخطة النمو القائم على الابتكار أكثر حماية وشمولية من خلال توفير الدعم للدخل لتسهيل عودة العمال المُسرحين إلى سوق العمل.

تتمثل إحدى الدروس الاقتصادية العديدة المُستفادة من جائحة فيروس كوفيد 19 في أن الابتكار والاندماج لا يجب أن يكونا منفصلين. ومن خلال انتهاج السياسات السليمة، يمكن للحكومات الغربية العمل على تعزيز كلا الأمرين وبالتالي المساعدة في تحقيق انتعاش ديناميكي ومُنصف.

* فيليب أغيون، أستاذ في كوليج دو فرانس وكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وزميل في جمعية الاقتصاد القياسي والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.
** أيمن محمدي، مساعد باحث في كوليج دو فرانس.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق