q
فتشاركية العولمة وشيوع الحريات الاقتصادية كأيديولوجية ليبرالية وبثقافة شبه واحدة هي ثقافة السوق، امست تُحمّل الدول الكبرى صانعة العولمة تكاليف ادارية عالية افقدت الرأسمالية القديمة مواقع تاريخية مهمة كانت مصدراً للتراكم الرأسمالي التاريخي لها ولوحدها، من دون شركاء منافسين في بناء معدلات النمو والتفرد الاقتصادي...

في استدراك مهم تلقيته اليوم من الاستاذ هيثم الحسني الصديق المتخصص (وهو من الشخصيات العاملة في حقل الادارة المالية والاقتصاد في العراق) منوهًا بأن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد هدد بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية WTO، مدعيا أنها تعامل بلاده بطريقة غير عادلة. على غرار الانسحاب الامريكي من منظمة الصحة العالمية WHO كما هدد الرئيس البرازيلي بانسحاب البرازيل من منظمة الصحة العالمية ويقابلها تذمر وعدم رضا من قبل الدول الأوربية!

وواصل الصديق المتخصص الحسني كذلك: اعتقد ان العالم متجه نحو سياسة جديدة في مجال القطاعات الصحية والاقتصادية والتنمية الشاملة خارج هذه المنظمات.

ان استدراكاً كبيرا بهذه السعة واللمحات الشديدة هو بحاجة إلى رؤية تفسيرية تتحرى عن مصير الاقتصاد العالمي ومستقبل مؤسساته المعولمة.

قلت في سرّي متسائلاً، ان العولمة ومؤسساتها التي تطورت منذ نهايات الحرب الباردة بلوغاً إلى تحقق القطبية الاحادية هي إلى أين تسير اليوم وماهي اتجاهات بوصلتها في تحديد مساراتها؟ ولاسيما بعد ان طوقتها الحرب التجارية بين اميركا والصين ولحقها تفكك الاقتصاد العالمي وانعزاله في ظل جائحة كورونا؟

فتشاركية العولمة وشيوع الحريات الاقتصادية كأيديولوجية ليبرالية وبثقافة شبه واحدة هي ثقافة السوق، امست تُحمّل الدول الكبرى صانعة العولمة تكاليف ادارية عالية افقدت الرأسمالية القديمة مواقع تاريخية مهمة كانت مصدراً للتراكم الرأسمالي التاريخي لها ولوحدها، من دون شركاء منافسين في بناء معدلات النمو والتفرد الاقتصادي فيها. مقابل اتساع مناطق جغرافية واقتصادية دولية زاحفة امست اليوم شديدة التنوع (التكنولوجي والاقتصادي) وتفرض في الوقت نفسه إرادات عالية التوازن والتقاسم العادل لثروات الأمم. فلا مناص للأقوياء من الدول الرأسمالية المركزية الا العودة إلى السياسات المتروبولية metropolitan القومية القديمة وهي الأكثر قوة وسيطرة على محيط العالم او مراكزه الصناعية الناشئة.

وهي سياسة في العلاقات الاقتصادية الدولية بدأت قاسية التوجهات يرافقها نكوص اقتصادي يتمثل بالكساد العالمي الراهن وجائحة كورونا التي أصبحت العربة التفكيكية للاقتصاد العالمي. ازاء استمرار ايديولوجيا الشراكات العادلة او المستقرة التوازن والتي مازالت قائمة وتمارس فعلها العملي مؤسسات العولمة (مثل منظمة التجارة العالمية والكثير من الفعاليات الأممية الشديدة التأثير.

وقد أصبحت هذه التنافسية المؤسسية موضع نزاع حاد بين الشركاء الدوليين من الأقوياء المشاركين في اللعبة التعاونية في ادارة الاقتصاد العالمي (كالصين وروسيا وغيرها من اقتصادات آسيا على وجه التحديد). فسياسة تفكيك المؤسسة التعاونية الاقتصادية الدولية (المعولمة) والعودة بها الى مراحل مماثلة لأزمنة الحرب الباردة ستكون الموديل الاقتصادي الجيو-اديولوجي للرأسمالية اللاتشاركية الجديدة والممارسات الانعزالية التي اخذت تولد من رحم العولمة بكونها الموديل الأفضل في سرعة امتصاص الفائض الاقتصادي العالمي الكامن.

ذلك لما ستوفره العزلة الحالية بين دول العالم من قوة في التفرد وسرعة ومتانة في السيطرة والهيمنة بأشكالها وتطبيقاتها المختلفة ذات الإرث الاستعماري التاريخي (كالهيمنة العسكرية والتكنولوجية والمالية والتجارية والاستثمارية) ومن ثم تحقيق مكاسب احادية من دون السماح بشيوع تقاسم المنافع الدولية والتي توفرها الشراكات المعولمة لليبرالية الجديدة تلقائيا.

فاللعبة التعاونية المعولمة التي مارستها الدول ومنظماتها ومؤسساتها الساندة والمؤازرة خلال العقود الاربعة الاخيرة كأيديولوجية (ترضية) للقطب الواحد قد انتهت بأعباء ظلت تكاليفها الادارية كبيرة وتحملتها الدول الكبرى اميركا بالذات وأوروبا وبقت منافعها النسبية تدر مكاسب على الشركاء الاخرين من دول العالم الصغار والكبار والراكبين الاقتصاديين المجانيين وعلى نطاق واسع، ما جعل الصين على سبيل المثال تتفوق بالرقم واحد في الاقتصاد العالمي في عدد الشركات الكبرى الخمسمائة عالميًا وتحظى بأكبر تمثيل دبلوماسي في العالم، وأمست اكبر دولة تمتلك القدرة على تصنيع براءات الاختراع، فضلا عن تقارب حصتها في التجارة العالمية من حصة الولايات المتحدة لتبلغ حافات الاقتصاد الأول في العالم. وان جميع هذه التسارعات قد جاءت بفضل العولمة التشاركية.

ومن قبيل الصدفة أطلقت مؤسسة Brookings Institution الامريكية في إيجازها اليومي في ٩ تموز ٢٠٢٠ تعقيباً اوروبيا خطيرا لاحد كبار زملاء المركز الأوروبي المعني بالمشاريع الاستراتيجية والعلاقات الدولية والسياسة العامة بين أوروبا والولايات المتحدة وهو (توماس رايت) والذي جاء تحت عنوان: أوروبا تغير افكارها ونظرتها صوب الصين! اذ يرى الكاتب توماس رايت ان القوة التي تشجع أوروبا حاليا في تغيير سياستها صوب الصين هو رفض الأخيرة بإنهاء ما اسماه بسرقة الصين لحقوق الملكية الفكرية فضلا عن تضييق فرص الاتحاد الأوروبي بالدخول إلى أسواق الصين. وقد استعمل توماس رايت عبارة: ان الصين استخدمت أدوات اقتصادية تصحيحية وعلى وفق رغباتها وتأثيراتها السياسية في أوروبا وممارسة تطبيقات ضيقة عديمة الليبرالية illiberal على المسرح العالمي.

ختاماً، فالاقتصاد العالمي وأقويائه من الكبار لا يسمحون ان يتحول العالم الى ادارة مشتركة اشبه بمنظمة مجتمع مدني تحت ظلال أيديولوجيا العولمة وذوبان الفروق التاريخية في تحصيل التراكم الرأسمالي global capital accumulation على الصعيد العالمي او التشارك به بين الامم وبعدالة طوعا او كرهاً! وان العالم الرأسمالي الصناعي بإرثه التاريخي قد أخذ يعيد ترتيب مراكز القوة فيه بعد الانعزال الإجباري العظيم great lockdown لجائحة كورونا لمصلحة بناء القوة الرأسمالية المتروبولية القديمة بلباس رقمي آخر يؤسس لاقتصاد القرن الحادي والعشرين وبلوغ قرن اقتصادي أمريكي بقطبية احادية تؤازرها كتلة دولية انكلو سكسونية بالغالب معولمة مصغرة micro globalization لا محالة.

* باحث وكاتب اقتصادي ومستشار مالي لرئاسة الوزراء
شبكة الاقتصاديين العراقيين

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق