من شأن الصراع الإقليمي والدولي أن يزيد من تفاقم الأوضاع في العراق. وغياب استقرار البيئة الإقليمية والدولية يعني صعوبة حركة الاستثمار التي تُعد عادة مُفتاح التنمية الاقتصادية؛ إذ إن غياب الاستقرار، قبل أن يخلق توقعات سلبية لدى المستثمرين تجاه المستقبل من شانها أن تخفض استثماراتهم...

من المعروف إن العراق يمتلك الكثير من المقومات، الجغرافية والاقتصادية، التي تسهم في زيادة قوة الاقتصاد إذا ما تم استثمارها وإدارتها بالشكل السليم.

على مستوى المقومات الجغرافية، يقع العراق في قلب العالم ويربط بين قارتي، اسيا واوروبا، ويربط بين الشرق والغرب وملتقى الحضارات العثمانية والفارسية والعربية بالإضافة إلى الحضارات التي نشأت فيه.

وعلى مستوى المقومات الاقتصادية، فالعراق يملك الكثير من الموارد الاقتصادية في باطن الأرض كالنفط والغاز والفوسفات والكبريت وغيرها، وفوقها من مياه وأرض خصبة وجبال وغيرها، كلها تسهم في رفع أداء الاقتصاد إذا ما تم توجيهيها بالاتجاه الصحيح.

ومع كل تلك المقومات التي يمتلكها العراق إلا إنه وللأسف لايزال مجتمعه يعاني الألم والمعاناة نتيجة لضعف وهشاشة اقتصاده وذلك لأسباب داخلية عديدة سياسية واقتصادية وإدارية واجتماعية وثقافية وغيرها -ليست من شأن هذا المقال- وتجدر الإشارة إلى إنه مهما كان للأسباب الخارجية -التي سنشير إليها تباعاً- من دور في هشاشة الاقتصاد العراقي إلا إن الأسباب الداخلية هي العامل الرئيس وراء تلك الهشاشة، استناداً لما قاله المفكر الجزائري مالك بن نبي "ما استعمروك إلا وجدوك قابلاً للاستعمار" بمعنى ما استضعفوك إلا وجدوك قابلاً للاستضعاف.

وأسباب خارجية تتعلق بالعامل الخارجي وبالخصوص الصراع الإقليمي، كالصراع القائم بين جانبي إيران وحلفاؤها والسعودية وحلفاؤها، والصراع الدولي كالصراع القائم بين جانبي الصين وحلفاؤها والولايات المتحدة وحلفاؤها، وبالتأكيد إن الصراع الدولي ينسحب على الصراع الإقليمي فيزيد من تعقيد الأحداث وتصاعدها في المنطقة، مما يتأثر الاقتصاد العالمي والإقليمي بشكل سلبي فيتأثر الاقتصاد العراقي بشكل تلقائي، وكما سيتضح لاحقاً.

من شأن الصراع الإقليمي والدولي أن يزيد من تفاقم الأوضاع في العراق. وغياب استقرار البيئة الإقليمية والدولية يعني صعوبة حركة الاستثمار التي تُعد عادة مُفتاح التنمية الاقتصادية؛ إذ إن غياب الاستقرار، قبل أن يخلق توقعات سلبية لدى المستثمرين تجاه المستقبل من شانها أن تخفض استثماراتهم تجنباً لأي صدمات مُحتملة ممكن أن تحدُث وتؤثر سلباً عليها، إنه يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض الأرباح؛ بسبب تشدد الإجراءات وتعقد الوضع الأمني مما يتطلب تكاليف إضافية ووقت إضافي لممارسة الاستثمار والإنتاج، وهذا ما يقلل من رغبة المستثمر على الاستثمار وانخفاض الاستثمار وحرمان الاقتصاد من النمو، فغياب استقرار البيئة الإقليمية والدولية يؤثر سلباً على تقدم الاقتصاد حتى وإن توفرت المقومات داخلياً، فما بالك إذا كان الاقتصاد هشاً كالاقتصاد العراقي؟!

بالتأكيد، سيكون الوضع أسوء، فكما هو معروف، إن العراق يعتمد على النفط بنسبة كبيرة في اقتصاده، إنتاجاً واستهلاكاً، إنفاقاً وإيراداً، تصديراً واستيراداً، حيث تتجاوز مساهمته 45% في الناتج المحلي، و90% في المالية العامة، و95% في التجارة الخارجية، بمعنى إن الاقتصاد العراقي يعاني انكشافاً صارخاً على العالم الخارجي، بحكم فقدانه للقاعدة الإنتاجية واعتماده على العالم الخارجي في تلبية حاجاته المختلفة الاستهلاكية والرأسمالية.

هذا الاعتماد المُفرط على النفط والعالم الخارجي في تلبية حاجة الاقتصاد كانت السبب وراء رهن الاقتصاد العراقي بالعالم الخارجي وأزماته الإقليمية والدولية؛ حيث لا يُمكن التحكم بأسعار النفط من قبل الدولة المُنتجة له كونه يُعد سلعة دولية تتحدد أسعارها وفقاً للسوق الدولية وحسب العوامل السياسية والمناخية وغيرها.

وبما إن العوامل السياسية والمناخية وغيرها التي تؤثر على الأسواق الدولية، لا تتسم بالثبات والاستقرار في عالم أصبح اليوم أكثر ترابطاً من أي وقتٍ مضى، فأيُ ما يطرأ على الساحة الدولية سيؤثر على الساحة الإقليمية والمحلية، وكذلك العكس، أي ما يطرأ على الساحة المحلية سيؤثر أيضاً على الساحة الإقليمية والدولية، سلباً وإيجاباً، من خلال قنوات عديدة أبرزها القناة النفطية، إذ إن زيادة الإنتاج في بلدٍ ما يؤثر سلباً على أسعار النفط بحكم زيادة المعروض النفطي.

وخير دليل على ذلك، هو تغير أسعار النفط على خلفية التوتر الذي شهدته المنطقة في المدة القريبة الماضية، بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، والتي تسببت بتخطي أسعار النفط حاجز الـ70 دولار للبرميل الواحد بعد إن ظلت تتراوح بين الـ 60 و65 دولار، وبمجرد انخفاض حِدة التوتر عادة أسعار النفط لوضعها الطبيعي.

ونظراً للترابط الوثيق بين البيئة الإقليمية والدولية والأسواق النفطية، فإن الاقتصاد العراقي يتأثر بالعالم الخارجي أكثر مما يؤثر به، وذلك لاعتماده الكبير على النفط والعالم الخارجي كما أشرنا أعلاه، فأي تغير على البيئة الاقليمية والدولية سيؤثر على الأسواق النفطية ومن ثم الأسعار النفطية فيتأثر الاقتصاد العراقي بشكل تلقائي.

وعليه، فعلى الدول -ومنها العراق- التي تعتمد على النفط والعالم الخارجي بشكل كبير جداً أن تعيد النظر بسياساتها وخططها الاقتصادية بشكل عام والنفطية بشكل خاص، حتى تستطيع تلافي أو الحد من التأثر بالأزمات الناشئة في العالم الخارجي، من خلال بناء قاعدة انتاجية متطورة قادرة على امتصاص أزمات العالم الخارجي.

بمعنى آخر، العمل على تحصين الذات من التأثر بالعدوى الخارجية ولو بشكل جزئي، لان ترك الأمور للأحداث ستلقي بنا في مهب الريح، وهذا ما لا يقبله لا ذو عقل راجح ولا ذو منطق سليم.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2020
www.fcdrs.com

اضف تعليق