مشكلة مستعصية في السلوك الريعي السائد في بلداننا اليوم والقائم على تجريدات ما يسمى بالفهم السلبي للتصرف بالإيرادات العامة النفطية وعدها غنيمة ابتداء وليس توظيفا منتجا لبناء الانسان والقدرات المادية الاخرى اللازمة لاستدامة الحياة. فمن أخطر المبادئ السائدة في مجتمعاتنا اليوم هي المناداة بتوسيع الوعاء المالي المجاني...

1. تمهيد: ملامح الموازنة العامة الاتحادية ٢٠١٩

بنيت موازنة 2019 على إيرادات نفطية شديدة الواقعية أي 56 دولارا للبرميل، وهو سعر ظل يحمل هامشا ريعيا موجبا لمصلحة الموازنة العامة يتذبذب بالارتفاع أو الزيادة منذ بداية السنة المالية وحتى اليوم بين 8–5 دولار اعلى من سعر الموازنة، ما ساعد على تغطية نسبة مهمة من العجز المخطط.

وبالرغم من ذلك نجد ان هناك فجوتان: الأولى، إن الموازنة التشغيلية ذات الطابع الاستهلاكي الحكومي ظلت بالغالب تمتص ايرادات النفط كافة حتى مع هامش الريع الموجب المذكور آنفا. وإن الموازنة الاستثمارية الحكومية التي هي اساس النمو المباشر ظلت هي الأخرى تعتاش على الإيرادات غير النفطية. إذ تشكل الموازنة الاستثمارية حوالي 30 بالمئة من اجمالي الإنفاق الكلي السنوي في حين لا تشكل الايرادات غير النفطية المقابلة سوى 10 بالمئة في أفضل الاحوال. ما يعني ان مشاريع الاعمار (بالذات غير النفطية) ستنفذ عن طريق الاقتراض الخارجي المتاح في الموازنة وهي مشاريع خدمية مهمة تشكل نسبة 45 بالمئة من اجمالي المشاريع الحكومية الاستثمارية وإن التمويل الخارجي أو القروض الخارجية المتاحة لا تلبي سوى 12-10 بالمئة من التمويل المتاح للاستثمار الحكومي.

لذا فإن خلاصة العجز السنوي ستمتصه مشاريع الدولة غير المنفذة. وهنا يتحول أو يرحل عجز الموازنة من عجز مالي إلى عجز حقيقي سيقع عبئه على موازنة العام 2020. حقا إنها مشكلة مستعصية في السلوك الريعي السائد في بلداننا اليوم والقائم على تجريدات ما يسمى بالفهم السلبي للتصرف بالإيرادات العامة النفطية وعدها غنيمة ابتداء وليس توظيفا منتجا لبناء الانسان والقدرات المادية الاخرى اللازمة لاستدامة الحياة. فمن أخطر المبادئ السائدة في مجتمعاتنا اليوم هي المناداة بتوسيع الوعاء المالي المجاني أو ما يسمى free lunch base في كل مفاصل الحياة اليومية وهذا يفسر إصرار تعاظم الصرف على حساب ضياع الاوعية الإيرادية المهمة (أو ما اسميها بالأوعية الهاربة).

كما ان الاتساع المجاني للتصرف الاستهلاكي بالإيرادات العامة قد أخذ يتعالى بصوته مع تزايد ريوع النفط التي يرافقها تعطل طيف من برامج التنمية والتوزيع غير العادل للثروات وظهور استدامة للبطالة لم تقل عن مرتبتين عشريتين على الرغم من تحقق نمو في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بنحو ٨،٤٪ ؜بفعل نشاطي الزراعة والطاقة الكهربائية مقارنة بالعام الذي سبقه. إنها معادلة صعبة إذا ما استمرت بهذا الشكل الخاطئ لأنها ستعطل حاضر التنمية البشرية وتصادر مستقبلها لا محال.

2. الاقتصاد الكلي للعراق: القوة الواعدة

ثمة تفاؤل بتصاعد معدل النمو الاقتصادي الحقيقي في الناتج المحلي الاجمالي في العام 2020 الذي تقدره الاوساط الاقتصادية ولاسيما البنك الدولي بانه سيبلغ قرابة 5,1%منطلقا من انتعاش الاقتصاد العراقي في العام الراهن 2019 الذي قدر النمو فيه بنحو 4,8% فضلا عن تعاظم النشاط الحكومي دون تراجع إذ سيرافق ذلك ارتفاع في نسبة الايرادات الحكومية إلى الناتج المحلي الاجمالي ايضا لتكون في العام 2020 بنحو 3,7% ونيف مقارنة بالعام 2019 التي تقدر بنحو 36%. وبشكل عام سيتحسن متوسط نصيب المواطن العراقي في الناتج المحلي الاجمالي ليبلغ في العام 2020 بنحو 6,200 دولار سنويا مقارنة بالعام 2019 بنحو 5,700 دولار سنويا.

علما ان الناتج المحلي الاجمالي الذي يقدر بحوالي 235 مليار دولار في العام 2019 سيرتفع هو الاخر إلى 254 مليار دولار في العام.2020 إضافة إلى ما تقدم فثمة عاملين اقتصاديين مساعدين مهمين سيرفعان من النمو الاقتصادي ويشكلان الرؤية المتفائلة في النمو الحاصل في الاقتصاد الحقيقي. أولهما، انتعاش القطاع الزراعي وارتفاع مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي من 4% إلى قرابة 7,5% هذا العام لتوافر المياه مسنودا بسياسات زراعية وتجارية داعمة للنشاط الزراعي كما يحصل اليوم من تطور في قطاع إنتاج وتسويق الحبوب ومختلف المحاصيل الحقلية. والثاني، التحسن النوعي في قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية وازدياد ساعات التجهيز بتوافر 19 ألف ميغاواط من أصل 23 ميغاواط بحاجة إلى تحسين الضياعات الفنية والتي آزرها النشاط الاقتصادي الاهلي وأثر ذلك على تطور نشاط السوق وتفعيل تنفيذ السلوك الاستثماري بشكل أكثر ايجابية. فضلا عن الاستقرار السعري الذي تشهد فيه البالد حالة من اللاتضخم، إذا لم ينمو المستوى العام للأسعار أكثر من 1% في الاحوال كافة وهو الاقل في التاريخ الاقتصادي الحديث في العراق ذلك بفضل استقرار ادوات السياسة النقدية.

كما ستساعد حركة التشغيل ببرامجها التعاقدية أو الاقراضية على خفض معدلات البطالة وتوليد استدامة من النمو الاقتصادي الحقيقي تؤازره مؤشرات استقرار اسواق الطاقة العالمية وعوائد النفط بعد ظهور ملامح الاتفاق الصيني الامريكي وعلى وفق المعطيات الدولية الراهنة لمواجهة مشكلات محتملة بحصول كساد عالمي مرتقب.

ختاما، ستشكل المعطيات آنفا موجة تفاؤل امام الشعب العراقي للتلاحم والسير باتجاه بناء الازدهار والتنمية والحفاظ على متلازمة قوامها الاستقرار الاقتصادي والمجتمعي والتشغيل للارتقاء بسعادة الانسان العراقي، يؤازره عقد اجتماعي مالي جديد يعزز من كفاءة الاقتصاد الوطني ويوفر العدالة في توزيع الدخل والثروة.

3. مستقبل الموازنة العامة الاتحادية 2020

أثارت الكتابات هنا وهناك وهي تتناول وبحذر شديد موضوع الموازنة العامة الاتحادية للعام 2020 ووجهت لي شخصيا نصوص تحذر من عجز كبير قادم في موازنة البلاد وبالنص القائل:

(عجز الموازنة المقبلة لعام 2020 سيدمر الاقتصاد العراقي إن لم تتخذ التدابير الوقائية لضغط النفقات وترشيد غير الضرورية منها وتعظيم الايرادات من خلال دعم المنتج المحلي، الحفاظ على العملة الصعبة قدر الامكان، واستيفاء الضرائب والكمارك وعدم التلاعب بها عجز الموازنة سيبلغ 40 مليار دولار يعني 3,5 مليار شهريا تقريبا نصف الايراد الشهري، كيف سيتم تدبيرها؟!).

امام هذا التساؤل الكبير فلابد لي من استشراف المستقبل الاقتصادي والمالي للعراق وعلى النحو الآتي:

ستظل الموازنة العامة الاتحادية للعام 2020 بحاجة إلى عملية جراحية تمويلية جريئة ليس التقشف ديدنها بل السعي إلى تحقق الاستدامة المالية ذات الاداء العالي للمالية العامة، أي توافر سبل ومبادئ الانضباط المالي للعراق من دون تقشف أو حرمان.

إن من يفكر بالاقتراض الخارجي لسد عجز الموازنة التشغيلية القادم ودوام تسيير مفاصل إدارة الدولة بإنتاجية هابطة فهو واهم! فالقرار المالي القادم ينبغي ان يكون من أصعب القرارات وأشدها وقعا. فهو بحاجة ماسة إلى قوة نفاذ قانونية وإجرائية من جهة اتخاذ القرار ولاسيما من نخبة متخذي القرار ممن يعول عليها الشعب على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولاسيما النخبة التي لا تملك ذلك التراكم التاريخي السالب للثروة المالية. وهو التراكم الذي قام على مزايا التخدير الامتيازي (طوال العقد ونصف الماضي) ظلت رافعته المالية انفلات الموازنة التشغيلية لمصلحة تجمعات امتيازية آكلة دون عطاء.

لقد تطور مفهوم استلابي، يرى في التمتع بالإنفاق العام لموارد الدولة على انه فرصة للتعويض والاستلاب بعد اشاعة فكرة الدولة-الغنيمة وفلسفتها القائمة على الاخذ دون العطاء. فلا يمكن للقناعات التضامنية بين الدولة والشعب ان تلاقي القبول إطلاقا في شن الجراحة المالية التصحيحية مالم يتوافر للشعب ثمة (شخصية معنوية) تبرهن قوتها الإصلاحية الخالصة الصادقة ونكران ذاتها لمصلحة ضمان استعادة ملامح مستقبل اقتصادي واعد يعزز النمو ويعظم الازدهار والرفاهية للبلاد ضمن عقد اجتماعي مالي جديد قادر على ان يستثمر قوة الاقتصاد الكلي الكامنة الشديدة التفاؤل التي أظهرها الاقتصاد الوطني طوال العام 2019 وما نتوقعه في العام 2020.

* باحث وكاتب اقتصادي أكاديمي عراقي، نائب محافظ البنك المركزي السابق
شبكة الاقتصاديين العراقيين
http://iraqieconomists.net

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق