تتساوى التقديرات الصادرة مؤخراً حول اللامساواة في الثروات والدخل في لبنان مع بعض أكثر الاقتصاديات اللامتساوية في العالم. فبعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990، باشر لبنان موجة اقتراض سرعان ما زادت الدين العام، ممّا فاقم هذا الدين فعزّز عدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية، وأسفر عن وضع يهدّد...
بقلم: نسرين سلطي
بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان في العام 1990، بدأ الدين العام يزداد بسرعة، وأدّى إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية، الأمر الذي بات الآن يهدّد استقرار البلاد.
تتساوى التقديرات الصادرة مؤخراً حول اللامساواة في الثروات والدخل في لبنان مع بعض أكثر الاقتصاديات اللامتساوية في العالم. فبعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990، باشر لبنان موجة اقتراض سرعان ما زادت الدين العام، ممّا فاقم هذا الدين فعزّز عدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية، وأسفر عن وضع يهدّد الآن استقرار البلاد.
حتى فترة ليست ببعيدة، ساد إدراك مخطئ شائع بأن المشهد الاجتماعي-الاقتصادي في لبنان متساوٍ نسبياً. غير أن البيانات تشير إلى عكس ذلك: فاستناداً إلى أرقام ضريبة الدخل، سيطرت نسبة 1 في المئة الأغنى بين سكان لبنان على 25 في المئة من إجمالي الدخل الوطني بين 2005 و2014. وعكست الودائع المصرفية هذا التوزيع غير المتكافئ، حيث أظهرت بيانات من العام 2017 أن 20 في المئة من إجمالي الودائع تركّزت في 1600 حساب مصرفي فحسب – ما يساوي 0.1 في المئة فقط من كلّ حسابات الودائع.
كيف أثّر الاقتراض العام في تسعينيات القرن الماضي على توزيع الدخل في لبنان وفاقم عدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية؟
فرضت شروط الإقراض عبء خدمة دين ثقيلاً على الدولة، فلم يبق لديها سوى مبالغ ضئيلة نسبياً لصرفها على مساعي إعادة توزيع أكثر إنصافاً. اجتمعت ثلاثة عوامل بعد الحرب الأهلية لتأثّر سلباً على توزيع الدخل:
أولاً، خلال الفترة بين نهاية الحرب ومنتصف العقد الفائت، ازداد الدين العام بنسبة 2120 في المئة، فيما نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد الواحد لم يتخطَ الأربعة أضعاف تقريباً.
ثانياً، عوّل الاقتراض العام بعد الحرب بشكل شبه حصري على السوق المحلي من خلال سندات حكومية صادرة بالليرة اللبنانية. وثالثاً، كان معدل الفائدة على الدين بالليرة مرتفعاً بشكل مقلق.
في حين أن أياً من هذه العوامل على حدة لم يحرّف توزيع الدخل عن مساره، إلا أن تأثيراتها مجتمعةً أسفرت عن أرباح ثابتة لقطاع اقتصادي محدّد: الصيرفة التجارية. وهكذا تمتّعت بضعة مصارف فقط بمدخول ريعي سريع ومستدام، على حساب القطاعات الأخرى. استمرار نهج الاقتراض العام هذا في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي يرجّح أن تداعيات إعادة التوزيع السلبية التي نتجت عن هذا الأسلوب كانت معروفة وواضحة ولم تكن تطوّراً مفاجئاً أو غير متوقّع. بيد أن شيئاً لم يتغيّر الكثير اليوم، حتى في ظل محاولة لبنان معالجة مشكلة الدين التي يعاني منها.
كيف ساهم الدين العام في عدم المساواة
ازدياد الدين العام وحده لا يشير إلى أن الثروات موزّعة بشكل غير متساوٍ. حتى معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (المقدّر حالياً عند 150 في المئة في لبنان) لا يُعتبر سبباً كافياً لدقّ ناقوس الخطر. ففي النهاية، بلغ دين اليابان 234 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي في العام 2017، لكن البلاد ليست على شفير أزمة دين أو حتى تعاني عدم مساواة اجتماعية-اقتصادية حادة مقارنة بدول صناعية أخرى.
يميّز الوضع اللبناني عنصرين خاصين بالدين العام المتنامي ألحقا سويةً الضرر بالمساواة: أولاً، لم تكن شروط الاقتراض مناسبة للخزينة قطّ، إذ سرعان ما غرقت الحكومة اللبنانية في دوامة مديونية أعمق من أجل تلبية موجبات خدمة الدين. ثانياً، اعتمد الاقتراض العام على قاعدة إقراض محلية ضيّقة للغاية.
اليوم، بالكاد تتكافأ سندات الخزينة التي تسجّل أعلى معدلات فائدة عالمياً مع معدلات السندات اللبنانية المطروحة في تسعينيات القرن الماضي. ففي تركيا والأرجنتين، جاورت الفوائد على السندات الحكومية الـ20 في المئة في العام 2018، غير أن معدلات الفائدة التي تعرضها الأسواق على حسابات الادخار الفردية في هذين البلدين تبقى أعلى من العائدات على السندات الحكومية. ولهذه الفجوة بين الفائدة التي تدفعها المصارف للمودعين والعائدات من حمل سندات حكومية، تداعيات كبيرة على سوق الاقتراض لاقتصاد ما.
فلا مجال أمام المصارف لتحقيق أرباح من خلال إقراض الحكومة الأموال التي جمعتها من الودائع الفردية بكل بساطة، لأن العائد من السندات الحكومية أدنى من الفائدة المستحقة على حسابات الادخار الخاصة. بل من أجل استقطاب الودائع وتحقيق الأرباح، على المصارف المجازفة والبحث عن فرص للإقراض بمعدلات أعلى مما تدفعه هي لقاء الودائع. ففي الأسواق حيث العائدات على حسابات الادخار تتجاوز الفائدة على السندات الحكومية، لا يزاحم وجود حكومة مُقترضة فرص وحظوظ مُقترضي القطاع الخاص.
يُذكر أنه في لبنان خلال تسعينيات القرن الماضي، تمّ تداول سندات الخزينة بحسم كبير، حيث بلغت نسبة الفائدة 36 في المئة في مناسبات عدّة. كما قدّمت هذه السندات عائداً أعلى بكثير من معدلات الفائدة التي كانت المصارف تمنحها لقاء حسابات الودائع لأجل، وسجّل الفرق حوالى 6.6 نقطة مئوية في المعدل خلال النصف الأول من العقد. وبذلك، قدم السوق للمصارف فارقاً ملائماً في أسعار الفائدة، حيث منحت سندات الخزينة المصارف عائداً تجاوز إلى حدّ كبير موجبات المصارف المتواضعة نسبياً المقدمة إلى المودعين لقاء حسابات الادخار. في النتيجة، لم تحتج المصارف إلى الانخراط في أعمال المالية وإدارة المخاطر من أجل تحديد فرص الاستثمار التي تنطوي على عائدات مرتفعة في القطاع الخاص. ولم يكن من المفاجئ، بالتالي، تهميش سوق الاقتراض الخاص إلى حدّ خانق.
تتجلى تداعيات كل ذلك بوضوح في إحصاءات القطاع المصرفي وبياناته المالية. فقد ازدادت حصة سندات الخزينة من إجمالي أصول القطاع المصرفي بشكل مطّرد خلال تسعينيات القرن الماضي. فضلاً عن ذلك، كلما زاد الفارق بين معدلات الفائدة على سندات الخزينة المستحقة للمصارف ومعدلات الفائدة على حسابات الادخار المستحقة للمودعين، كلما زاد إجمالي أرصدة أصول القطاع المصرفي وكلما زادت أهمية سندات الخزينة في ميزانيات المصارف. فقد علا إجمالي الأصول في ميزانيات القطاع الموحّدة بمعدل مركب بلغ 25 في المئة بين العاميْن 1993 و2000 وبنحو ثماني مرات خلال العقدين منذ 1993. وفي الأعوام بين 1993 و2000، شكّلت سندات الخزينة المقوّمة بالليرة معدل 27 في المئة من قاعدة الأصول المصرفية المتنامية هذه. غير أن القروض بالليرة إلى القطاع التجاري شكّلت نسبة بسيطة بلغت 5.4 في المئة من إجمالي الأصول المصرفية.
في المبدأ، لم تقتصر خطة الأرباح هذه على المصارف التجارية. فأي فرد لديه مال يرغب في توفيره كان ليستفيد من العائدات المرتفعة على سندات الحكومة مقارنةً بالودائع المصرفية. غير أنه في المشهد الاقتصادي لحقبة ما بعد الحرب، كانت قاعدة المدخرات المتوافرة ضئيلة وشحيحة. فبعد سنوات من العنف وانعدام الاستقرار، استُنزفت الاحتياطات الفردية وشحت الموارد. وبات حجم الوديعة المتوسطة ضئيلاً نسبياً، كما أن حسابات الادخار المرنة نسبياً في المصارف كانت أنسب لتلبية حاجات السيولة لعامة المودعين من سندات الخزينة الأقل سيولة نظراً إلى استحقاقاتها الأطول أمداً. وبالتالي، استفادت المصارف من دمج الأموال المتأتية من ودائع صغيرة وسائلة واستخدمتها لشراء أدوات دين حكومية أقل سيولة. لهذا السبب، تحمّلت المصارف خلال تسعينيات القرن الماضي ثلثيْ الدين العام، في حين تحمّل المصرف المركزي في لبنان وغيره من المؤسسات العامة النسبة المتبقية.
اليوم، تتّضّح أسبقية القطاع المصرفي في أدائه. فقد بلغ صافي أرباح بنك لبنان والمهجر 731 مليون دولار في العام 2017، وهو رقم يقرب الأرباح التي صرح بها شرودرز في العام 2016، سادس أكبر مصرف في المملكة المتحدة من حيث الأرباح. من جهته، بلغ صافي ربح بنك عودة 559 مليون دولار في العام 2017، ما يجعله يتجاوز ستاندرد تشارترد، سابع أكبر مصرف من حيث الأرباح في المملكة المتحدة. بينما لم تتجاوز، قبل عشرين سنة بالتمام، أرباح القطاع المصرفي اللبناني برمته 436 مليون دولار.
لم يكن للأرباح الهائلة التي حققتها المصارف مثيل في القطاعات الاقتصادية الأخرى. فقد كان النمو في القطاع المصرفي يُعزى إلى ريع استثنائي أكثر منه نتيجة المجازفة المالية أو الوساطة الضرورية أو التبصّر في تحديد فرص استثمارية قد تدفع بقطاعات أخرى صعوداً. وقد ناهز إجمالي أرباح أكبر 14 مصرفاً في لبنان 4.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي منذ العام 2015. بينما شكلّت أرباح أكبر أربعة عشر مصرفاً أقل من 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة في العام 2016؛ ولم تتعدّ هذه النسبة 0.2 في المئة في ألمانيا و0.9 في المئة في الولايات المتحدة في السنة نفسها.
قدم سوق سندات الخزينة فرصة لتحقيق عائدات هائلة وحدها المصارف مهيأة للاستفادة منها. إن هذا الربح المستدام الذي حققه قطاع اقتصادي واحد على حساب غيره يُظهر تفاقم عدم المساواة من خلال تراكم سريع للريع في متناول مصارف قليلة. لكن وصف المشهد التوزيعي هذا يبقى غير كامل. فالمُقرضون ليسوا الوكلاء الوحيدين في هذه اللعبة. مبدئياً، كان يمكن للحكومة اللبنانية، باعتبارها جهة مُقترضة، استخدام الأموال التي جمعتها للحدّ من اللامساواة من خلال مساندة الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية الأفقر. وبالتالي، وبغية الوصف الشامل لمفاعيل إعادة التوزيع الناتج عن الدين العام، علينا التدقيق أيضاً في المُقترض.
هامش مناورة محدود للغاية للإنفاق التصاعدي
قد تنفق الحكومة الأموال التي تقترضها بطريقة تشجّع إعادة التوزيع المتكافئ. لذلك، لا بدّ من التحقق من نفقات الحكومة لتوضيح صورة مضاعفات إعادة التوزيع الناتج عن الدين العام. في حالة لبنان، يُظهر هذا التفصيل أن مجال الإنفاق التصاعدي كان ضيّقاً، إذ إن شروط الاقتراض حدّدت شطراً كبيراً من النفقات الحكومية أيضاً.
تتخذ النفقات الحكومية أشكالاً متعدّدة، أحدها دفعات خدمة الدين التي تنتقل من الخزينة وتعود إلى المُقرضين. هذا النوع تحديداً من الإنفاق تنازلياً في حالة لبنان، حيث كان القطاع المصرفي من أكبر المستفيدين. لكن خدمة الدين مجرّد جزء من النفقات الحكومية؛ إذ هناك نفقات أخرى لها أثرها التوزيعي الخاص.
إذاً، ما كان مصير النفقات المتبقية بعد مراعاة موجبات خدمة الدين في لبنان؟ الإجابة المختصرة هي أن البحث في مصير النفقات لا جدوى له. فمعدلات الفائدة على سندات الخزينة كانت مرتفعة إلى درجة أنه ما إن أُخِذت خدمة الدين في الاعتبار، حتى تقلّص الفائض لإنفاق الدولة في أي مجال آخر. فشروط الاقتراض في مطلع تسعينيات القرن الماضي أسفرت عن ارتفاع نسبة الدفعات على الفائدة على الدين المقوّم بالليرة 45 في المئة من إجمالي إنفاق الحكومة. فاقتصر تمويل كل حاجات الإنفاق العام الأخرى على ما لا يتجاوز نصف إجمالي النفقات الحكومية إلا بقليل. إذا أضفنا إلى المعادلة حجم إيرادات الحكومة أيضاً، بحلول العام 1996، بدأت دفعات الفائدة تمثّل نحو 68 في المئة من عجز الموازنة. بذلك، وابتداءً من العام 1996، بات ثلثا أي دين جديد يُكتتبان فقط لتمويل دفعات الفائدة المستحقة على الدين القائم.
بدءًا من العام 1998، تجاوز الإنفاق السنوي على خدمة الدين بالليرة اللبنانية عجز موازنة الدولة. أي أنه بعد خمس سنوات على موجة إسراف لبنان في الاقتراض العام، لم تعد السندات الجديدة التي كانت الحكومة تصدرها سنوياً كافية لتغطية موجبات دفع الفائدة المستحقة على الدين القائم. فبات الآن يتعيّن تمويل جزء من خدمة الدين عبر إيرادات حكومية أخرى، تحديداً الإيرادات الضريبية. في حين أن قاعدة إقراض الحكومة اللبنانية كانت ضيّقة، الأساس الضريبي، في المقابل، لم يستثنِ أحداً. فبينما تزايدت باطّراد ثروات مجموعة صغيرة من اللاعبين الاقتصاديين من خلال مردود الفوائد المفرط الذي يحصل عليه حاملو سندات الخزينة، أصبحت فاتورة الدين هذه تقع على عاتق اللبنانيين كافة.
كانت ولاتزال لهذه اللعبة تداعيات مروّعة من حيث إعادة التوزيع. فالأساس الضريبي في لبنان يشمل الجميع من دون استثناء، وهو في هذا الانضواء غير عادل. يُضاف إلى ذلك أن توزيع العبء الضريبي على هذا الأساس نفسه غير متساوٍ. فالنظام الضريبي في لبنان قائم أولاً على الضرائب غير المباشرة – وبخاصةٍ الضرائب الاستهلاكية – المفروضة على السلع والخدمات وليس على المداخيل الفردية أو المكاسب الرأسمالية أو الثروات. إدارة الضرائب الاستهلاكية تُعتبر أسهل من الضرائب على الدخل الفردي، وهي عادةً ما تكون على شكل ضريبة ثابتة تطبّق على البيع، بغضّ النظر عن حجم المبيعات أو صفات المستهلك. وحين يتمّ فرض ضرائب على السلع والخدمات، بدلاً من الإيرادات أو الأصول على سبيل المثال، تكون قيمة الضريبة المدفوعة على الوحدة المباعة هي نفسها من قِبل المشترين كافة، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، ما يجعل الضريبة تنازلية. تشكَّل الإيرادات الضريبية من ثلاث ضرائب غير مباشرة هي الضريبة على القيمة المضافة ورسوم الاستيراد والضريبة على الاتصالات، نحو 60 في المئة من إجمالي الإيرادات الضريبية في لبنان.
النتيجة هي أن في لبنان، 3 دولارات على الأقل لكل من كل 5 دولارات من الإيرادات الضريبية يتمّ جمعها بشكل تنازلي، وتُستخدم لتمويل تسعة دولارات، تقبضها مباشرةً المصارف التجارية من أصل كل 20 دولاراً تنفقها الحكومة. وعلى الرغم من أن هذا الواقع التنازلي جزئي، بحيث أنه ينطبق على نسب فقط من الإيرادات الضريبية وإنفاقها، إلا أن هذه النسب مرتفعة إلى حدّ أن الدرجة التصاعدية الـ40 في المئة المتبقية من الإيرادات الضريبية تغدو من دون أهمية، وكذلك درجة الـ55 في المئة المتبقية من النفقات الحكومية. إذ أن هامش المناورة المتوافر بعد خدمة الدين ضيّق للغاية، والهزيمة محسومة في الحرب على عدم المساواة حتى قبل أن تبدأ المعركة.
مقاربة بديلة كانت ممكنة
بغض النظر عن كيفية إنفاق الأموال المخصصة لإعادة الإعمار في نهاية المطاف، هل من وسيلة أخرى كان يمكن للحكومة اللجوء إليها من أجل جمع الأموال لإعادة الإعمار وإعادة التأهيل ما بعد الحرب؟ في المبدأ، إن أي خصم على سعر سندات الخزينة يعكس تقييم السوق لمخاطر إقراض القطاع العام. وبالتالي، قد يقول البعض إن معدّلات الفائدة الباهظة المستحقة على السندات الحكومية اللبنانية خلال تسعينيات القرن الماضي عكست تقييم سوق الاقتراض لخطر تخلّف الدولة اللبنانية عن سدّ متوجّباتها.
في الواقع، كان ثمّة العديد من المؤشرات على أن شروط الاقتراض التي عزّزت إلى حدّ كبير المُقرضين، لم تعكس بشكل عادل أسس السوق. فقد كانت فوارق معدل الفائدة مرتفعة بشكل غير معقول مطلع فترة الاقتراض العام. وبعد مضي بضع سنوات، كانت المصارف نفسها تُقرض المال بمعدلات أدنى بكثير، مع فوارق أقل بكثير على الرغم من أن الحكومة كانت آنذاك قد بدأت تغرق في عجزها وتتراجع في سيولتها إلى حدّ كبير.
في العام 1988، أتى مؤشّر آخر على اتساع فارق نسبة الفوائد بشكل غير مبرّر، حين بات لبنان على شفير أزمة مالية بسبب متطلبات خدمة دينه. وما أن اتّضح أمام المصارف أن الحكومة قد تواجه خطر التأخر عن سداد دينها، كان الحل في أن تقترض الدولة على المستوى الدولي. وهكذا، بدأت الحكومة إصدار سندات بالعملات الأجنبية تمّ تداولها في السوق الدولي. قيّم السوق خطر إقراض الحكومة اللبنانية بمعدل فائدة بجوار 8 في المئة. وعليه، أقرض السوق الدولي لبنان المال عند معدل أدنى بكثير مما كان يُدفع إلى المقرضين المحليين، على الرغم من أن عبء الدين على البلاد كان حينها أكبر مما كان عليه في السابق.
لطالما كان عجز النظام الضريبي في لبنان عاجزاً عن تعويض تفاوت الدخل. لكن عندما تعتاد الدولة، كلما واجهت أزمة مالية، على اللجوء إلى إيرادات من الضرائب التنازلية لتلبية موجبات خدمة الدين التنازلية إلى حدّ أكبر، يصبح إجراء إصلاح ضريبي ضرورة قصوى. مع ذلك، كانت التغييرات الوحيدة التي أُدخلت على قانون الضرائب خلال سنوات تضخم الدين هي اعتماد الضريبة على القيمة المضافة، ويُذكر أنها ضريبة غير مباشرة وتنازلية، وتخفيض الضريبة على أرباح الشركات، وهي تصاعدية. أما التدبير الذي اتُّخذ مؤخراً، في زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10 إلى 11 في المئة، فالعبء منه أيضاً أقسى على كاهل الفقراء.
كان يمكن للحكومة الحدّ من بعض الآثار التنازلية لكل من هذه التطورات المالية، لكنها لم تفعل. لا بدّ من إصلاح ضريبي شامل بغية تقليص الاعتماد على الضرائب الاستهلاكية، في حين أن استخدام مثل هذه الضرائب يجب أن يُخصَّص للسلع الفاخرة وتلك التي تضرّ بصحة الإنسان، والمسمّاة "ضرائب الخطيئة". بدلاً من ذلك، ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، اعتادت الحكومة اللبنانية أن تلجأ إلى تعديلات تدريجية، تسفر عن إيرادات فورية، بينما تُرغم في الوقت نفسه الطبقتيْن المتوسطة والفقيرة على التقشّف. يبدو أن النهج السياس الذي ساد خلال العقد الأول بعد انتهاء الحرب الأهلية تجاهل إعادة التوزيع التنازلي المهمة التي تسبّب بها، لا بل سعى عمداً إلى أخذ أموال الفقراء وإعطائها للأغنياء.
خاتمة
في ربيع العام 2019، عقدت الحكومة اللبنانية 20 جلسة قبل أن تتمكّن من الاتفاق على موازنة العام. كان التحدّي الأبرز أمام وزارة المالية هو تخفيض عجز الموازنة لتلبية شروط التقشّف التي فُرضت في المؤتمر الدولي للمانحين الذي عُقد في نيسان/أبريل 2018 في باريس. غير أن الحكومة عجزت عن تغيير موجبات خدمة دينها. لايزال هذا الإرث الذي خلّفته قرارات الاقتراض السابقة عائقاً هائلًا أمام إقرار أي موازنة.
اقتصرت الإجراءات في موازنة العام 2019 على تعديلات في الإيرادات والإنفاق الحكومي، وليس في تسديد الفائدة. وكما كانت عليه الحال في الماضي، لم يكن في الخطط المقترحة أي اعتبار لأثرها التوزيعي. فعلى صعيد الإيرادات، اعتمدت الحكومة، كما فعلت في السابق، على الضرائب غير المباشرة، على غرار الرسوم الجمركية والرسوم الحكومية. أما على صعيد الإنفاق، فجاء مُجمل التخفيضات المقترحة من رواتب وتعويضات موظفي القطاع العام، أي من أحد أركان الطبقة الوسطى.
أما الاقتراح بأن يمنح القطاع المصرفي قروضاً متدنية أو منعدمة الفائدة إلى الحكومة، فمرّ مرور الكرام. وأول من أعدم الاقتراح كان كبار كوادر القطاع المصرفي والمسؤولون في المصرف المركزي، حيث أنذر بعضهم من أن منح الحكومة خشبة الخلاص هذه قد يخفّض الحافز لتطبيق تدابير إصلاحية جذرية. نحن اليوم في دوّامة نتيجةً لاختلال موازين القوى: القطاع الذي يمثّل الآن نحو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي أكثر اندفاعاً في ترسيخ صلاحياته، وهو في الوقت نفسه أكثر قدرة على المحافظة على صلاحياته بفضل الموارد الهائلة التي راكمها.
لكن إعادة هيكلة الدين هذه كانت وسيلة مُتاحة أمام الحكومة لتحقّق هدفها في تخفيض نسبة العجز إلى إجمالي الناتج المحلي، من دون اتّخاذ تدابير التقشّف الأقل صرامة التي أُقرّت. ولو باشرت الحكومة إعادة هيكلة الدين، لكانت صحّحت أيضاً إرثاً استنزف خلال عقود الأساس الضريبي في لبنان لصالح بضعة مصارف. بغضّ النظر عن المحفّزات المتبقية للإصلاح، وما إذا كانت الحكومة مستعدة أو قادرة على المضي في هكذا مسار، لربما كانت مبادلة الدين ساهمت في تجنّب تفاقم عدم المساواة أكثر فأكثر. إلا أن الطبقة الحاكمة قرّرت مجدّداً إخراج نفسها من المأزق المالي من خلال اتخاذ تدابير تنازلية. وبذلك، تكون بدلاً من احتواء الاستياء العام، قد سرّعت توقيت انفجار الوضع.
اضف تعليق