يتناول أغلب أهل الاقتصاد هذا الاتجاه من منظور إيجابي، فيزعمون أن التكنولوجيا ربما تدمر الوظائف في الأمد القريب، لكنها تخلق وظائف جديدة وأفضل في الأمد الأبعد. الواقع أن تدمير الوظائف واضح ومباشر: إذ تقوم شركة ما بأتمتة سير ناقل، أو عملية الخروج من سوبرماركت أو...
بقلم: روبرت سكيدلسكي
لندن ــ بينما تستحوذ قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على العناوين الرئيسية في المملكة المتحدة وغيرها من الأماكن حول العالم، تستمر مسيرة التشغيل الآلي (الأتمتة) الصامتة. يتناول أغلب أهل الاقتصاد هذا الاتجاه من منظور إيجابي، فيزعمون أن التكنولوجيا ربما تدمر الوظائف في الأمد القريب، لكنها تخلق وظائف جديدة وأفضل في الأمد الأبعد.
الواقع أن تدمير الوظائف واضح ومباشر: إذ تقوم شركة ما بأتمتة سير ناقل، أو عملية الخروج من سوبرماركت، أو نظام للتسليم، ثم تقرر استبقاء 10% فقط من العاملين لديها كمشرفين، وفصل بقيتهم. ولكن ما يحدث بعد ذلك يكون أقل وضوحا بدرجة كبيرة.
تتلخص الحجة الاقتصادية النمطية في أن العمال المتضررين بالأتمتة يفقدون وظائفهم في بداية الأمر، لكن السكان ككل يجري تعويضهم لاحقا. على سبيل المثال، يزعم الخبير الاقتصادي كريستوفر بيساريديس الحائز على جائزة نوبل وجاك بوجين من معهد ماكينزي العالمي أن زيادة الإنتاجية الناجمة عن الأتمتة "تعني ضمنا نموا اقتصاديا أسرع، والمزيد من الإنفاق الاستهلاكي، وزيادة الطلب على العمالة، وبالتالي خلق فرص عمل أكبر".
لكن نظرية التعويض هذه شديدة التجريد. فبادئ ذي بدء، يتعين علينا أن نميز بين الابتكارات "الموفرة للعمالة" والإبداعات التي تعمل على "زيادة العمالة". فالإبداع في المنتجات، مثل اختراع السيارة أو الهاتف المحمول، يعمل على زيادة العمالة. وعلى النقيض من هذا، يعمل الإبداع المرتبط بالعمليات، أو ابتكار طريقة إنتاجية محسنة، على توفير العمالة، لأنه يمكن الشركات من إنتاج نفس الكمية من سلعة أو خدمة قائمة بالاستعانة بعدد أقل من العمال.
صحيح أن الوظائف الجديدة التي يخلقها الإبداع في مجال المنتجات ربما يعوض عنها "تأثير الاستبدال"، حيث يؤدي نجاح المنتج الجديد في جعل العمالة الموظفة في إنتاج المنتج القديم زائدة عن الحاجة. لكن التحدي الأكبر يأتي من الإبداع في عمليات الإنتاج ذاتها، لأنها تعمل فقط على إزاحة الوظائف، ولا تخلق وظائف جديدة. وحيثما كان إبداع العمليات هو المهيمن، فإن آليات التعويض فقط يمكنها المساعدة في منع ارتفاع البطالة، أو ما أسماه الخبير الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو "الفائض" السكاني.
هناك العديد من هذه الآليات. فأولا، تعمل زيادة الأرباح على زيادة الاستثمار في تكنولوجيات جديدة، وبالتالي منتجات جديدة. بالإضافة إلى هذا، تؤدي المنافسة بين الشركات إلى انخفاض عام في الأسعار، مما يزيد الطلب على المنتجات وبالتالي العمالة. وأخيرا، يعمل انخفاض الأجور نتيجة للبطالة التكنولوجية الأولية على زيادة الطلب على العمالة واستحثاث العودة إلى طرق إنتاجية أكثر اعتمادا على العمالة الكثيفة، فيفضي هذا إلى استيعاب العمال الزائدين عن الحاجة.
وتتوقف سرعة عمل آليات التعويض هذه على مدى سهولة انتقال رأس المال والعمالة بين المهن والمناطق المختلفة. وسوف يؤدي إدخال أي تكنولوجيا موفرة للعمالة إلى خفض الأسعار، لكن هذا يعمل أيضا على تقليص الاستهلاك من قِبَل العمال الذين أصبحوا زائدين عن الحاجة. إنها إذا مسألة أي التأثيرين أسرع. يزعم خبراء الاقتصاد من تلامذة جون ماينارد كينز أن انخفاض الطلب على السلع نتيجة للبطالة سيكون هو الأسبق، فيهيمن بالتالي على انخفاض الأسعار الناتج عن الأتمتة. وسوف يؤدي هذا إلى زيادة أخرى في البطالة، في الأمد القريب على الأقل.
علاوة على ذلك، حتى لو كانت هذه الخسائر في الوظائف مجرد ظاهرة قصيرة الأمد، فإن التأثير التراكمي لسلسلة من الإبداعات الموفرة للعمالة بمرور الوقت ربما يفضي إلى بطالة طويلة الأجل. فضلا عن ذلك، تفترض آلية ضبط الأسعار الفعالة الانتشار العام للمنافسة. ولكن في سوق احتكار القِلة، قد تستخدم الشركات ما توفره من التكاليف لتعزيز الأرباح وليس خفض الأسعار.
تدعم مثل هذه الاعتبارات نظرة معاصرة مفادها أن الفوائد المترتبة على الأتمتة طويلة الأجل، في حين من المحتم أن ترتفع "الزيادة عن الحاجة" خلال "فترة انتقالية". ولكن عندما يكون من المحتمل أن تستمر الفترة الانتقالية لعقود من الزمن، كما يعترف تقرير معهد ماكينزي العالمي الصادر مؤخرا، فليس من المستغرب أن يشكك العمال في هذا العدد الكبير من حجج التعويض.
زعم كارل ماركس أن مثل عملية التعويض هذه لا وجود لها، سواء في الأمد القريب أو الأمد البعيد. وعلى هذا فإن القصة التي رواها لا تشتمل على نهاية سعيدة لصالح العمال ــ ليس في ظل الرأسمالية على الأقل.
قال ماركس إن المنافسة تجبر الشركات فرادى على استثمار أكبر قدر ممكن من أرباحها في الآلات الموفرة للعمالة ــ أي تلك التي تعمل على خفض التكاليف. لكن زيادة الميكنة لا تعود بالفائدة على الرأسماليين باعتبارهم طبقة. صحيح أن أول المنتقلين يتمتع بميزة مؤقتة من خلال "التسارع نزولا على منحنيات متوسط التكلفة المنخفضة"، على حد تعبير جوزيف شومبيتر في كتابه "تاريخ التحليل الاقتصادي"، وإبادة الشركات الأضعف في ذات الوقت. لكن المنافسة تعمل عندئذ على نشر تكنولوجيات جديدة وتزيل بسرعة أي ربح ضخم مؤقت.
كما زعم ماركس أن استعادة معدل الربح تتطلب "جيشا احتياطيا متزايد الحجم من العاطلين عن العمل". وعلى هذا فإن الميكنة، وفقا لزعمه، "ألقت بالعمال على الرصيف". من منظور ماركس، تكون البطالة تكنولوجية بطبيعتها. وعلى الرغم من استيعاب الجيش الاحتياطي بشكل مؤقت في قوة العمل خلال فترات الازدهار الشديد، فإن استمرار وجود هذا الجيش يؤدي إلى عملية إفقار متزايدة الحدة في الأمد البعيد.
من منظور ماركس إذا، كانت سلسلة الأحداث الطويلة معاكسة للرأي التقليدي تماما: فالميكنة تخلق ازدهارا محموما في الأمد القريب، ولكن على حساب تدهور شديد في الأمد البعيد.
كانت التأثيرات التوزيعية المترتبة على التغير التكنولوجي بارزة بوضوح لزمن طويل في المناقشات الدائرة بين أهل الاقتصاد. في كتابه الصادر في عام 1932 بعنوان "نظرية الأجور"، عمل جون هيكس على تطوير فكرة الإبداع المستحث. وقد زعم أن الأجور الأعلى، من شأنها أن تدفع الشركات، من خلال تهديد معدل الربح، إلى الاقتصاد في استئجار العمالة لأن عامل الإنتاج هذا أصبح الآن أكثر تكلفة نسبيا. وعلى هذا فإن أتمتة الاقتصاد ليست ببساطة نتيجة لزيادة القدرة الحاسوبية، على غرار قانون مور، بل إنها تعتمد على تغيرات في التكلفة النسبية للعمالة ورأس المال.
هذه حجج معقدة فنيا. ولكن من الواضح أن النظرية الاقتصادية لا تقدم إجابة واضحة في ما يتصل بالتأثير البعيد الأمد على البطالة نتيجة للتقدم التكنولوجي. أفضل استنتاج يمكننا استخلاصه إذا هو أن التأثير سيعتمد على التوازن بين إبداع الـمُنتَج وإبداع العمليات، فضلا عن عوامل أخرى مثل حالة الطلب، ودرجة المنافسة في السوق، وتوازن القوى بين رأس المال والعمالة.
كل هذه مجالات مهمة حيث يمكن للحكومات أن تتدخل. وحتى لو كانت الأتمتة تقليديا مفيدة في الأمد البعيد، فلا ينبغي لصناع السياسيات أن يتجاهلوا تأثيراتها المدمرة القصيرة الأجل. فالأمد القريب هو في نهاية المطاف المكان الذي تقع فيه الأحداث التاريخية المروعة.
اضف تعليق