نتيجة للتطور الهائل في الوقت الحاضر ظهر مع الألفية الجديدة ما يعرف باقتصاد المعرفة القائم على اكتساب المعلومات وتطويرها واستثمارها في التكنولوجيا لتعزيز التنمية الاقتصادية، مما نجم عنه وفرة هائلة في الإنتاج تقابل الندرة في الاقتصاد التقليدي. ومن المعروف لدى الاقتصاديين، إن الاقتصاد ظهر للوجود...

نتيجة للتطور الهائل في الوقت الحاضر ظهر مع الألفية الجديدة ما يعرف باقتصاد المعرفة القائم على اكتساب المعلومات وتطويرها واستثمارها في التكنولوجيا لتعزيز التنمية الاقتصادية، مما نجم عنه وفرة هائلة في الإنتاج تقابل الندرة في الاقتصاد التقليدي.

ومن المعروف لدى الاقتصاديين، إن الاقتصاد ظهر للوجود لأسباب تتعلق بالمشكلة الاقتصادية المتمثلة بمحدودية الموارد الاقتصادية مقابل تعدد الحاجات البشرية المتزايدة، فظهر علم الاقتصاد لمعالجة هذه المشكلة. ويمكن القول إن الوفرة التي رافقت التطور الهائل في عالم اليوم كانت سببا وراء ظهور اقتصاد المعرفة.

الندرة سبب وجود الاقتصاد

بمعنى آخر هناك ندرة في الموارد الاقتصادية لا تلبي الحاجات البشرية المتزايدة مما تطلب الأمر إلى ظهور علم الاقتصاد لمعالجة مسألة الندرة، من خلال اختيار التوليفة المثلى لعناصر الإنتاج من أجل استثمار تلك الموارد أفضل استثمار وتعظيم الإنتاج للحد الأقصى مقابل تدنية التكاليف للحد الأدنى، مما يؤدي إلى كفاية الموارد النادرة للحاجات المتزايدة.

وتجدر الإشارة إلى إن أصحاب النظرة المذهبية لا يعتقدون بوجود ندرة في الموارد الاقتصادية على اعتبار إن خالق هذا الكون هو خالق قدير وحكيم ومن غير المنطق أن يخلق هذا الكون بموارد لا تكفي الحاجات البشرية، فيعتقدون إن سبب الندرة هو سوء إدارة الإنسان لهذه الموارد وليس إنها غير كافية بالأساس، والباحث يتفق مع هذه النظرة.

الوفرة مقابل الندرة

ومع تطور مجالات الحياة وبالخصوص مجال ثورة المعلومات والاتصالات، بالتزامن مع سيادة المبادئ الليبرالية السياسية والاقتصادية في أغلب دول العالم خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في الربع الأخير من القرن المنصرم، حتى عُدّ هذا القرن قرن انتصار الديمقراطيات والأسواق في العالم، أخذت مسألة الوفرة تطغى شيئاً فشيئاً وفقاً لاقتصاد المعرفة مقابل مسألة الندرة في الاقتصاد التقليدي.

ففي إطار الديمقراطية السياسية والحرية الاقتصادية التي سادت الكثير من دول العالم، تم تشييد صرح الاقتصادات المتقدمة والتي أصبحت حجر الأساس فيما بعد لاقتصاد المعرفة الذي أخذ ينتشر منذ بداية الألفية الجديدة، والذي على أثره أصبحت مسألة الوفرة تطغى شيئاً فشيئاً، على اعتبار إن الديمقراطية السياسية والحرية الاقتصادية يسهمان في بناء بيئة مناسبة تشجع القطاع الخاص على التقدم والتطور والابتكار الذي يعد صُلب اقتصاد المعرفة والعكس صحيح.

العولمة طريق لشيوع الوفرة

أصبح الاقتصاد في الوقت المعاصر، عصر المعلومات والاتصالات، يهتم بإدارة الوفرة وكيفية تسويقها وتصريفها، وذلك من خلال العولمة التي تتسم بإزالة الحدود وحرية التجارة التي تكفل حرية انتقال السلع والخدمات والأموال والأيدي العاملة والمعلومات، بمعنى آخر إن العولمة فتحت الأسواق على مصراعيها -وإن كانت (العولمة) في المدة الأخيرة تتقزم بفعل سياسات ترامب-وأصبحت جميعها في المنزل وبمتناول اليد بمجرد الدخول لعالم الانترنيت (السوق العالمي).

إن دخول المستهلك لعالم الانترنيت سيجد ما يشاء من السلع والخدمات بمختلف الأنواع والكميات وبمختلف الأسعار والأحجام، حتى أصبح محتاراً في خيارات استهلاكه نتيجة لوفرة المعروض، دون الحاجة لعناء السفر والوصول للسوق المكاني المتعارف عليه في السوق التقليدي، إذ يستطيع بكبسة زر الحصول على ما يريد وهو في منزله، وهذا ما يدلل على وفرة المعروض في هذا السوق.

المنافسة والانترنت

إن حرية دخول وخروج المنتجين والمستهلكين من وإلى عالم الانترنت (السوق العالمي) وبأعداد هائلة من مختلف دول العالم مع إتاحة المعلومات بشكل كبير، هذه السمات دفعت إلى زيادة حِدة المنافسة بين المنتجين والتي انعكست على الأسعار مما حتم على المنتجين زيادة الإنتاج والعرض ليجنوا على أكبر قدر من الأرباح وبنفس الوقت تنعكس المنافسة على جودة المُنتجات في هذه السوق العالمية فتتحسن جودتها.

وهناك الكثير من الخدمات أصبحت مجانية كانت في وقت سابق لا تجدها بسهولة فضلاً عن ارتفاع أسعارها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، اليوم تجد الكثير من الكتب تنشر بشكل مجاني على الانترنيت، يمكنك الإطلاع عليها الكترونياً أو تستمع إليها أو تشتريها من أبعد دولة وخلال مدة وجيزة. كما ويمكنك اليوم إجراء اتصال هاتفي مع شخص ما في أبعد دولة في العالم وبشكل شبه مجاني، وغيرها من الأمثلة التي تدلل على وفرة المعروض.

فبدلاً من قيام الإنسان بإتمام الفعالية الاقتصادية (إنتاج، توزيع، استهلاك...) في وقت سابق ببذل الكثير من الجهد والوقت والمال لشراء وبيع واستهلاك شيئاً ما سواء كان هذا الشيء خدمة أو سلعة أو معلومة، اليوم أصبح هذا الشيء وبفضل ثورة المعلومات والاتصالات متاح وبشكل هائل في السوق العالمي (انترنيت الأشياء) وبأسعار منافسة وبجودة عالية.

العولمة والتطور التكنولوجي

هذا الكم الهائل من السلع والخدمات المتاحة على السوق العالمي نجم عن مسألتين تمت الإشارة إليهما آنفاً، هما العولمة التي عملت من خلال أدواتها المتمثلة بالمؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، على إزالة الحدود أمام تحركات عناصر الإنتاج من جانب، والتطور الكبير في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والنقل بمختلف أنواعه، الذي أسهم في سرعة التواصل بين أطراف العلاقة وسرعة إيصال وانجاز ما تم الاتفاق عليه بين أطراف العلاقة وإيصال المنتجات لمستهلكيها.

فالتكامل ما بين العولمة التي أزالت الحدود والتطور في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والنقل، الذي اخترق جدران البيوت ليصل إلى الفرد، هذا التكامل هو الذي أسهم في تحقيق السرعة واختصار المسافات وتقليل الكلف وزيادة الجودة وانخفاض الأسعار وزيادة الوفرة.

خلاصة القول، إن الديمقراطية السياسية والحرية الاقتصادية أسهما في خلق الاقتصادات المتقدمة التي كانت حجر الأساس لاقتصاد المعرفة، وإن العولمة والتطور التكنولوجي هما الذين أسهما في شيوع الوفرة وانتشارها، فاقتصاد المعرفة هو نقله من الندرة إلى الوفرة.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2019
www.fcdrs.com

اضف تعليق