البيان الذي يؤيد رأسمالية أصحاب المصلحة، والذي وَقَّع عليه في وقت سابق من هذا الشهر كل أعضاء مائدة الأعمال المستديرة تقريبا في الولايات المتحدة، أحدث ضجة كبرى. فهم في نهاية المطاف الرؤساء التنفيذيون للشركات الأكثر قوة في أميركا. فهؤلاء الذين يقولون للأميركيين إن غاية الأعمال...
بقلم: جوزيف ستيغليتز
نيويورك ــ على مدار أربعة عقود من الزمن، كان المبدأ السائد في الولايات المتحدة هو أن الشركات يجب أن تعمل على تعظيم القيمة لصالح المساهمين ــ بمعنى الأرباح وأسعار الأسهم ــ في التو والحال، ومهما كلف الأمر، بصرف النظر عن العواقب التي قد يخلفها ذلك على العمال، والعملاء، والموردين، والمجتمعات.
وعلى هذا فإن البيان الذي يؤيد رأسمالية أصحاب المصلحة، والذي وَقَّع عليه في وقت سابق من هذا الشهر كل أعضاء مائدة الأعمال المستديرة تقريبا في الولايات المتحدة، أحدث ضجة كبرى. فهم في نهاية المطاف الرؤساء التنفيذيون للشركات الأكثر قوة في أميركا. فهؤلاء الذين يقولون للأميركيين إن غاية الأعمال ليست مجرد تحقيق صافي الأرباح فحسب هم في نهاية المطاف الرؤساء التنفيذيين للشركات الأكثر قوة في أميركا. وهو انقلاب تام ومفاجئ. تُرى أهو كذلك حقا؟
كان الـمُنَظِّر الإيديولوجي للسوق الحرة الحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد ميلتون فريدمان شخصية نافذة ومؤثرة ليس فقط في نشر مبدأ أولوية المساهمين، بل وأيضا في تحويله إلى تشريع مكتوب في الولايات المتحدة. وقد ذهب إلى حد القول: "هناك مسؤولية اجتماعية واحدة فقط واجبة على شركات الأعمال ــ استخدام مواردها والمشاركة في الأنشطة المصممة لزيادة أرباحها".
من عجيب المفارقات هنا أنه بعد فترة وجيزة من نشر فريدمان لهذه الأفكار، وأثناء الترويج لها شعبيا ثم تكريسها في قوانين حوكمة الشركات ــ كما لو كانت تستند إلى نظرية اقتصادية سليمة ــ قمت أنا وساندي جروسمان، في سلسلة من الأبحاث في أواخر سبعينيات القرن العشرين، بإثبات أن "رأسمالية المساهمين لم تعمل على تعظيم الرفاهة المجتمعية".
تصدق هذه العبارة بوضوح شديد عندما تتدخل عوامل خارجية مهمة مثل تغير المناخ، أو عندما تسمم الشركات الهواء الذي نتنفسه أو الماء الذي نشربه. وتصدق بوضوح أيضا عندما تدفع الشركات بمنتجات غير صحية مثل المشروبات السكرية التي تساهم في السمنة بين الأطفال، أو مسكنات الألم التي تطلق العنان لأزمة المواد الأفيونية، أو عندما تستغل الساهين والضعفاء، مثل جامعة ترمب أو غير ذلك الكثير من مؤسسات التعليم العالي الأميركية الهادفة لتحقيق الربح. كما تصدق عندما تربح الشركات من خلال ممارسة قوة السوق، كما تفعل العديد من البنوك وشركات التكنولوجيا.
بيد أن هذه العبارة صادقة بشكل أكثر عموما: ذلك أن السوق من الممكن أن تدفع الشركات إلى تبني استراتيجيات قصيرة النظر وعدم الاستثمار بالقدر الكافي في عمالها ومجتمعاتها. وعلى هذا فمن المريح أن نرى قادة الشركات، الذين يفترض أنهم يتمتعون برؤية ثاقبة لأداء الاقتصاد، وقد استفاقوا أخيرا وانخرطوا في الاقتصاد الحديث، حتى وإن كان ذلك استغرق نحو أربعين عاما.
ولكن هل يعني قادة الشركات ما يقولون حقا، أو أن بيانهم كان مجرد لفتة خطابية في مواجهة ردة فعل شعبية سلبية ضد سلوكيات رديئة واسعة الانتشار؟ هناك من الأسباب ما يجعلني أعتقد أنهم أكثر من مجرد مخادعين.
تتمثل المسؤولية الأولى للشركات في سداد الضرائب المستحقة عليها، ومع ذلك نجد بين الموقعين على الرؤية الجديدة شركات رائدة في التهرب الضريبي، بما في ذلك شركة أبل، التي تواصل وفقا لكل الحسابات استخدام الملاذات الضريبية مثل جيرسي. وشركات أخرى أيدت مشروع قانون الضريبة الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب في عام 2017، والذي يقضي بخفض الضرائب على الشركات وأصحاب المليارات، لكنه كفيل عند تنفيذه بالكامل بزيادة الضرائب على أغلب أسر الطبقة المتوسطة والتسبب في خسارة ملايين آخرين تأمينهم الصحي. (وهذا في بلد يضم أعلى مستوى من التفاوت بين الناس، فضلا عن أسوأ نتائج الرعاية الصحية، وأدنى متوسط للعمر المتوقع بين الاقتصادات المتقدمة الكبرى).
وفي حين دافع قادة الأعمال هؤلاء عن الادعاء بأن التخفيضات الضريبية من شأنها أن تقود إلى زيادة الاستثمارات والأجور فلم يتلق العمال سوى أقل القليل. وقد استُخدِمت أغلب الأموال ليس للاستثمار بل لإعادة شراء الأسهم، ولم يخدم هذا إلا لتبطين جيوب المساهمين والرؤساء التنفيذيين بخطط حوافز الأسهم.
إن الحِس الأصيل بالمسؤولية الأوسع من شأنه أن يدفع قادة الشركات إلى الترحيب بضوابط تنظيمية أقوى لحماية البيئة وتعزيز صحة وسلامة موظفيهم. وقد قامت قِلة من شركات السيارات (هوندا، وفورد، وبي إم دبليو، وفولكس واجن) بذلك بالفعل، فأقرت ضوابط تنظيمية أقوى من تلك التي تريدها إدارة ترمب، حيث يعمل الرئيس على تبديد الإرث البيئي الذي خلفه الرئيس السابق باراك أوباما. وهناك حتى بعض المسؤولين التنفيذيين في شركات المشروبات الغازية الذين يبدو أنهم يشعرون بتأنيب الضمير حيال دورهم في زيادة معدلات السمنة بين الأطفال، والتي يعرفون أنها تؤدي غالبا إلى الإصابة بمرض السكري.
ولكن في حين قد يرغب العديد من كبار المسؤولين التنفيذيين في فِعل الصواب (أو حمل أفراد أسرهم وأصدقائهم على ذلك)، فإنهم يعلمون أن بعض منافسيهم لا يرغبون في ذلك. ولابد من وجود ساحة ممهدة متكافئة تضمن عدم تقويض الشركات ذات الضمير من قِبَل تلك التي لا ضمير لها. ولهذا السبب تريد العديد من الشركات فرض ضوابط تنظيمية ضد الرشوة، فضلا عن قواعد لحماية البيئة وصحة وسلامة مكان العمل.
من المؤسف أن العديد من البنوك الضخمة، التي تسبب سلوكها غير المسؤول في جلب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ليست بين هذه الشركات. فبمجرد جفاف الحبر الذي كُتِب به تشريع الإصلاح المالي دود-فرانك لعام 2010، الذي عمل على إحكام الضوابط التنظيمية لجعل تكرار الأزمة أقل ترجيحا، شرعت البنوك في العمل على إلغاء فقرات رئيسية من التشريع. وبينها كان بنك جيه بي مورجان تشيس، ورئيسه التنفيذي جيمي ديمون، الرئيس الحالي لمائدة الأعمال المستديرة. وليس من المستغرب، نظرا للسياسة الأميركية التي يحركها المال، أن تصادف البنوك نجاحا كبيرا. بعد مرور عشر سنوات بعد الأزمة، لا تزال بعض البنوك تكافح الدعاوى القضائية المرفوعة من قِبَل أولئك الذين تضرروا بسبب سلوكها الاحتيالي غير المسؤول. وتأمل هذه البنوك أن تمكنها جيوبها العميقة من التغلب على المطالبين.
لا شك أن الموقف الجديد الذي يتخذه أقوى الرؤساء التنفيذيين في أميركا يستحق الترحيب. ولكن سيكون لزاما علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة دعائية أخرى، أو إذا كانوا يعنون حقا ما يقولون. من ناحية أخرى، نحن في احتياج إلى إصلاح تشريعي. الواقع أن فِكر فريدمان لم يمنح المسؤولين التنفيذيين الجشعين الذريعة المثالية للتصرف كما يحلو لهم فحسب، بل أدى أيضا إلى ظهور قوانين حوكمة الشركات التي رسخت رأسمالية المساهمين في الإطار القانوني في أميركا ودول أخرى كثيرة. ويجب أن يتغير هذا، بحيث لا يتوقف الأمر عند السماح للشركات بالنظر في التأثيرات التي تخلفها سلوكياتها على أصحاب المصلحة الآخرين فحسب، بل يستمر إلى إلزامها فعليا بالقيام بذلك.
اضف تعليق