شيئا ما انحرف عن مساره. فقد استفزت الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية داخل مجتمعاتنا ردود فِعل عكسية واسعة النطاق في مجموعة واسعة من النطاقات في العالَم المتقدم إلى دول نامية. وتشير هذه الاضطرابات السياسية إلى أن أولويات أهل الاقتصاد ربما لم تكن مناسبة تماما. أستشهد هنا بكتابين...
داني رودريك
كمبريدج — تنبئنا علوم الاقتصاد بأن كم السلع التي يستطيع المرء أن يستهلكها ومدى تنوعها يُعَد مقياسا للرفاهة الفردية. وبالتالي فإن احتمالات الاستهلاك تتعاظم بفِعل تزويد الشركات بالحرية التي تحتاج إليها للاستفادة من التكنولوجيات الجديدة، وتقسيم العمل، واقتصاديات الحجم الكبير، والقدرة على التنقل. الاستهلاك هو الغاية إذا؛ والإنتاج هو الوسيلة لتحقيق هذه الغاية. أي أن الأسواق، وليست المجتمعات، هي وحدة وموضوع التحليل.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذه الرؤية التي ترتكز على المستهلك والسوق للاقتصاد أنتجت الكثير من الثمار. فما كان لأحد أن يتخيل حتى هذه المجموعة المبهرة من السلع الاستهلاكية المتاحة في المتاجر الكبرى أو منافذ شركة أبل في أي مدينة كبرى في العالَم قبل جيل واحد مضى.
ولكن من الواضح أن شيئا ما انحرف عن مساره في ذات الوقت. فقد استفزت الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية داخل مجتمعاتنا ردود فِعل عكسية واسعة النطاق في مجموعة واسعة من النطاقات ــ من الولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا في العالَم المتقدم إلى دول نامية مثل الفلبين والبرازيل. وتشير هذه الاضطرابات السياسية إلى أن أولويات أهل الاقتصاد ربما لم تكن مناسبة تماما.
أستشهد هنا بكتابين، الأول كتاب مرتقب من تأليف راغورام راجان والثاني نُشِر هذا الشهر للكاتب أورين كاس، وكل من الكتابين يعيد النظر في رؤيتنا الاقتصادية للعالَم ويزعم أننا ينبغي لنا أن نضع بدلا من ذلك صحة مجتمعاتنا المحلية على رأس أولوياتنا. فالأسر المستقرة، والوظائف المجزية، والمساحات العامة الوفيرة والآمنة، والافتخار بالثقافة المحلية والتاريخ ــ كلها عناصر أساسية للمجتمعات المزدهرة. ولا تستطيع الأسواق العالمية ولا الدولة القومية توفير المدد الكافي من هذه العناصر، بل إن الأسواق والدول تعمل على تقويضها في بعض الأحيان.
يتبنى كل من المؤلفين وجهة نظر مختلفة. فأولا، راجان خبير اقتصادي من جامعة شيكاغو وهو محافظ سابق لبنك الاحتياطي الهندي. أما كاس فهو باحث ينتمي إلى يمين الوسط من معهد مانهاتن للبحوث السياسية، وكان مديرا للسياسة الداخلية لحملة المرشح الرئاسي الجمهوري مِت رومني. لا يتوقع المرء بالضرورة من خبير اقتصادي من شيكاغو أو جمهوري معتدل أن يتعامل مع الأسواق والعولمة المفرطة بأي قدر من التشكك. بيد أن كلا منهما يشعر بالانزعاج الشديد إزاء ما يعتبره تأثيرا ضارا على المجتمعات.
يرى راجان في المجتمع "ركيزة ثالثة" للازدهار، ولا يقل أهمية عن الركيزتين الأخريين ــ الدولة والسوق. يقول راجان إن العولمة غير الخاضعة لأي سيطرة أو ضوابط تنظيمية لا تقل قدرة عن الدولة التي تقوم على المركزية المفرطة على تمزيق نسيج المجتمعات المحلية. وكان كاس صريحا في اعتقاده بأن السياسات التي تتعامل مع التجارة والهجرة في الولايات المتحدة الأميركية لابد أن تركز على العمال الأميركيين أولا وقبل كل شيء. وهذا يعني ضمان صحة أسواق العمل المحلية ووفرة الوظائف الجيدة بأجور لائقة. ويؤكد كل من المؤلفين على المكاسب المترتبة على التجارة ويرفض سياسات الحماية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. لكنهما يزعمان أننا ربما أفرطنا في الاعتماد عل العولمة ولم نهتم بالقدر الكافي بالتكاليف التي قد تتكبدها المجتمعات.
فعندما يغلق مصنع محلي أبوابه لأن إحدى الشركات قررت توكيل موردين خارجيين عبر الحدود، فإن الخسارة تتجاوز مئات (أو آلاف) الوظائف التي تنتقل إلى الخارج. ويتضاعف الأثر بفِعل تقلص الإنفاق على السلع والخدمات المحلية، مما يعني أن العمال وأرباب العمل في مختلف قطاعات الاقتصاد المحلي يستشعرون الصدمة. كما تنخفض عائدات الحكومات المحلية من الضرائب، فتتناقص بالتالي الأموال المتاحة للإنفاق على التعليم والمنافع العامة الأخرى. وغالبا ما يعقب هذا تفكك البنية الاجتماعية، وانهيار الأسر، وإدمان المواد المخدرة، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية.
يتلخص الحل المعتاد الذي يقدمه أهل الاقتصاد في الدعوة إلى "المزيد من مرونة سوق العمل": ينبغي للعمال ببساطة أن يتركوا المناطق الكاسدة وأن يبحثوا عن وظائف جديدة في أماكن أخرى. ولكن كما يذكرنا كاس، لابد أن يقترن التنقل الجغرافي بتوفر "فرصة البقاء". فحتى في أوقات الهجرات الضخمة، كان القسم الأعظم من السكان المحليين يبقون في أماكنهم فيصبحون في احتياج إلى وظائف جيدة ومجتمعات متماسكة.
ربما يوصي أهل الاقتصاد بدلا من ذلك بتعويض الخاسرين نتيجة للتغيرات الاقتصادية، من خلال التحويلات الاجتماعية وغير ذلك من الفوائد. ولكن بصرف النظر عن إمكانية إجراء مثل هذه التحويلات، فمن المشكوك فيه أن تكون هي الحل. فمن شأن البطالة أن تعمل على تقويض رفاهة الأفراد والمجتمعات حتى ولو ارتفعت مستويات الاستهلاك بفِعل المنح النقدية.
في نهاية المطاف، من غير الممكن أن تكتسب المجتمعات القدر اللازم من الحيوية إلا من خلال خلق وتوسيع نطاق الوظائف المجزية. ويقترح كاس تشجيع تشغيل العمالة من خلال إعانات دعم الأجور، في حين يؤكد راجان على دور القادة المحليين الذين يمكنهم تعبئة أصول المجتمع، وتوليد المشاركة الاجتماعية من جانب السكان المحليين، وخلق صورة جديدة ــ وكل هذا في سياق سياسات الدولة الأكثر دعما والعولمة المنضبطة.
ويدعو خبراء اقتصاد آخرون إلى تطبيق برامج تصنيع إضافية موجهة إقليميا، وتعزيز الشراكات بين أرباب العمل المحليين والجامعات. بيد أن آخرين يوصون بالإنفاق العام المحلي على برامج التدريب على الوظائف لصالح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم على سبيل المثال.
ليس لدينا دراسة جيدة لأفضل الحلول، ونحن في احتياج إلى قدر كبير من التجريب على السياسات المختلفة حتى يتسنى لنا تحقيق تقدم ملموس. لكن ضرورة التحرك العاجل تؤكد عليها حقيقة مفادها أن الاتجاهات التكنولوجية الجارية تهدد بزيادة المشاكل التي تواجهها المجتمعات حاليا تعقيدا على تعقيد. فالآن تميل التكنولوجيات الرقمية إلى التأكيد على أهمية الاقتصاديات الكبيرة الحجم وتأثيرات الشبكة، والتي تقود إلى تركيز الإنتاج وليس توطينه. فبدلا من نشر المكاسب على نطاق واسع، تعمل على خلق أسواق يستأثر فيها الفائزون بكل شيء. وتساهم عولمة شبكات الإنتاج في تضخيم هذه التأثيرات.
الواقع أن الكيفية التي نعمل بها على إيجاد التوازن بين هذه القوى واحتياجات المجتمعات لن تشكل ثرواتنا الاقتصادية فحسب، بل وأيضا بيئتنا الاجتماعية والسياسية. وكما يثبت كاس وراجان، فإنها مشكلة لا يجوز لأهل الاقتصاد أن يتجاهلوها بعد الآن.
اضف تعليق