نظرا للتعافي البطيء وغير المتكافئ خلال السنوات العشر التي تلت الأزمة المالية العالمية، أصبح جزء كبيرا من المجتمع ساخطا، ليس فقط في ما يتصل بالسياسة والساسة، بل وأيضا إزاء العولمة والنظام الاقتصادي الذي تدعمه بالكامل. وفي عصر يتسم بانعدام الأمان والإحباط ، أصبحت الشعبوية جذابة...
كلاوس شواب

 

جنيف ــ بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمع المجتمع الدولي لبناء مستقبل مشترك. والآن، يتعين عليه أن يعيد الكَرَّة. فنظرا للتعافي البطيء وغير المتكافئ خلال السنوات العشر التي تلت الأزمة المالية العالمية، أصبح جزء كبيرا من المجتمع ساخطا وحانقا، ليس فقط في ما يتصل بالسياسة والساسة، بل وأيضا إزاء العولمة والنظام الاقتصادي الذي تدعمه بالكامل. وفي عصر يتسم بانعدام الأمان والإحباط على نطاق واسع، أصبحت الشعبوية جذابة على نحو متزايد كبديل للوضع الراهن.

لكن الخطاب الشعبوي يتجاهل الفوارق الجوهرية ــ ويخلط غالبا ــ بين مفهومين: العولمة والعالمية. فالعولمة ظاهرة تدفعها التكنولوجيا وحركة الأفكار، والأشخاص، والسلع. أما العالمية فهي إيديولوجية تعطي الأولوية للنظام العالمي النيوليبرالي على المصالح الوطنية. لا أحد يستطيع أن ينكر أننا نعيش في عالم خاضع للعولمة. ولكن من المثير للجدال إلى حد بعيد ما إذا كان من الواجب أن تكون سياستنا "عالمية".

على أية حال، أثارت لحظة الأزمة هذه تساؤلات مهمة حول بنية الحكم العالمي. فمع مطالبة المزيد والمزيد من الناخبين "باستعادة السيطرة" من "القوى العالمية"، أصبح التحدي متمثلا في استعادة السيادة في عالَم يستلزم التعاون. وبدلا من عزل الاقتصادات من خلال تدابير الحماية والسياسات القومية، يتعين علينا أن نعمل على صياغة ميثاق اجتماعي جديد بين المواطنين وقادتهم، حتى يشعر الجميع بالقدر الكافي من الأمان في وطنه لكي يظل منفتحا على العالم ككل. وإذا لم نفعل هذا، فقد يقودنا تفكك النسيج الاجتماعي الجاري إلى انهيار الديمقراطية في نهاية المطاف.

علاوة على ذلك، تتزامن التحديات المرتبطة بما يسمى الثورة الصناعية الرابعة مع الظهور السريع للقيود البيئية الإيكولوجية، وقدوم نظام دولي متعدد الأقطاب بشكل متزايد، واتساع فجوات التفاوت. وتبشر هذه التطورات المتكاملة بعصر جديد من العولمة. وتتوقف احتمالات تحسن أوضاع البشر بفِعل هذا العصر الجديد على مدى قدرة الحوكمة على مستوى الشركات والحوكمة المحلية والوطنية والدولية على التكيف في الوقت المناسب.

من ناحية أخرى، بدأ يتشكل إطار جديد للتعاون بين القطاعين العام والخاص على مستوى العالم. ويهدف التعاون بين القطاعين العام والخاص إلى تسخير القطاع الخاص والأسواق المفتوحة لدفع النمو الاقتصادي من أجل الصالح العام. ولكن لتحديد الصالح العام، يتعين علينا أن نحدد أولا الأسباب الأساسية وراء التفاوت بين الناس.

على سبيل المثال، برغم أن الأسواق المفتوحة والمنافسة المتزايدة من الأسباب التي تنتج بكل تأكيد فائزين وخاسرين على الساحة الدولية، فربما تخلف تأثيرا أكثر وضوحا على فجوة التفاوت على المستوى الوطني. علاوة على ذلك، تتعزز حالة الانقسام المتزايدة الحدة بين من يفتقرون إلى الأمان والاستقرار وبين المتميزين بفِعل نماذج العمل التي تتبناها الثورة الصناعية الرابعة، والتي تستمد الريع غالبا من امتلاك رأس المال أو الملكية الفكرية.

يتطلب إغلاق هذه الفجوة إدراك حقيقة مفادها أننا نعايش نمطا جديدا من الاقتصاد المدفوع بالإبداع والابتكار، وأننا في احتياج إلى قواعد ومعايير وسياسات واتفاقيات عالمية جديدة لحماية ثقة الجماهير. وقد تسبب الاقتصاد الجديد بالفعل في تعطيل وإعادة توحيد صناعات لا حصر لها، وإزاحة الملايين من العمال. وهو يعمل على خفض الطلب على الإنتاج، من خلال زيادة كثافة المعرفة في عملية خلق القيمة. كما يتسبب الاقتصاد الجديد في تعظيم حدة المنافسة داخل أسواق المنتجات المحلية وأسواق رأس المال والعمل، وكذا بين الدول التي تتبنى استراتيجيات تجارية واستثمارية مختلفة. كما يعمل على تغذية حالة انعدام الثقة، وخاصة في شركات التكنولوجيا واستخداماتها لبياناتنا.

الواقع أن سرعة التغير التكنولوجي غير المسبوقة هذه تعني أن أنظمة الصحة والنقل والاتصالات والإنتاج والتوزيع والطاقة ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ التي نتبناها سوف تتحول بشكل كامل. وتتطلب إدارة هذا التغيير ليس فقط الاستعانة بأطر جديدة للتعاون الوطني والدولي، بل وأيضا ابتكار نموذج جديد للتعليم إلى جانب برامج مستهدفة لتعليم العمال مهارات جديدة. ومع تقدم الروبوتات والذكاء الاصطناعي في سياق مجتمعات تعاني من الشيخوخة السكانية، فيتعين علينا أن ننتقل من سرد الإنتاج والاستهلاك إلى سرد المشاركة والاهتمام.

لقد بدأت النسخة الرابعة من العولمة للتو، لكننا بالفعل غير مستعدين لاستقبالها إلى حد كبير. ومن الواضح أن التشبث بعقلية عفا عليها الزمن وترقيع عملياتنا ومؤسساتنا القائمة لن يجدينا نفعا. بل يتعين علينا بدلا من ذلك أن نعكف على إعادة تصميمها من الألف إلى الياء، حتى نتمكن من الاستفادة من الفرص الجديدة التي تنتظرنا، في حين نتجنب ذلك النوع من الاضطرابات التي نشهدها اليوم.

بينما نعمل على تطوير نهج جديد في التعامل مع الاقتصاد الجديد، ينبغي لنا أن نتذكر أننا لا نخوض مباراة محصلتها صِفر. وهذه ليست مسألة مراجحة بين التجارة الحرة وتدابير الحماية، أو التكنولوجيا والوظائف، أو الهجرة وتمكين المواطنين، أو النمو والمساواة. فكل هذه انقسامات زائفة، ويمكننا تجنبها من خلال تطوير سياسات تحابي كل مجموعات المصالح بالتوازي.

من المؤكد أن المتشائمين سيزعمون أن الظروف السياسية تحول دون إقامة حوار عالمي مثمر حول النسخة الرابعة من العولمة والاقتصاد الجديد. لكن الواقعيين سوف يستخدمون اللحظة الحالية لاستكشاف الفجوات في النظام القائم، وتحديد متطلبات أي نهج مستقبلي. وسوف يتمسك المتفائلون بالأمل في أن يعمل أصحاب المصلحة في المستقبل على تكوين مجتمع من المصالح المشتركة، وفي نهاية المطاف الغرض المشترك.

لا تقتصر التغيرات الجارية حاليا على بلد بعينه أو صناعة أو قضية بعينها. فهي تغيرات عالمية، وتتطلب بالتالي استجابة عالمية. ومن الواضح أن التقاعس عن تبني نهج تعاوني جديد ينذر بمأساة تهدد البشرية بالكامل. ولرسم مسودة لبنية مشتركة للحوكمة العالمية، يتعين علينا أن نتجنب الانغماس في اللحظة الحالية من إدارة الأزمة.

يتطلب تنفيذ هذه المهمة على وجه التحديد توفير المجتمع الدولي لأمرين: المشاركة الأوسع والخيال المضاعف. وسوف يكون إشراك أصحاب المصلحة كافة في حوار متواصل أمرا بالغ الأهمية، شأنه في ذلك شأن الخيال اللازم للتفكير بشكل منهجي، وبعيدا عن الاعتبارات المؤسسة والوطنية القصيرة الأمد.

سوف يؤسس هذان المبدآن للاجتماع السنوي القادم للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، والذي سينعقد تحت عنوان "العولمة النسخة 4.0: صياغة بنية جديدة في عالَم الثورة الصناعية الرابعة". وسواء كنا مستعدين أو لم نكن، فإننا نوشك على دخول عالَم جديد.

* كلاوس شواب، المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق