إن هدف التنويع الاقتصادي هو تمتين النمو الاقتصادي في البلدان الاحادية حتى يكون نمواً حقيقياً لا وهمياً وعادلاً لا متفاوتاً في توزيعه بين افراد المجتمع حالاً ومستقبلاً.

يعد النمو الاقتصادي أحد الأهداف الرئيسة الذي تسعى جميع الاقتصادات إلى تحقيقه وزيادة معدلاته باستمرار وذلك لما له من أهمية كبيرة تنعكس على الكثير من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وحتى تكون انعكاساته بشكل إيجابي على تلك المتغيرات لا بد أن يكون تحقيق النمو الاقتصادي بشكل حقيقي وعادل وليس وهمي ومتفاوت، ولكن السؤال المطروح كيف نجعل النمو الاقتصادي يزداد بشكل حقيقي وعادل أي غير متفاوت في توزيعه؟

النمو الاقتصادي ومكوناته

قبل جعل النمو الاقتصادي يتسم بزيادة حقيقية وعادلة في توزيعه لا بد من معرفة النمو الاقتصادي ومكوناته، حيث يعرف النمو الاقتصادي بأنه الزيادة في الناتج المحلي الاجمالي الذي يعرف بأنه مجموع السلع والخدمات التي ينتجها مجتمع ما في مدة معينة، وبما أن الناتج المحلي الاجمالي يتكون من ثلاثة قطاعات رئيسية هي القطاعات السلعية التي تتضمن قطاع الزراعة والصيد والغابات، قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية، قطاع الصناعات التحويلية، قطاع الكهرباء والماء والغاز وقطاع التشييد، والقطاعات التوزيعية التي تتضمن قطاع التجارة والمطاعم والفنادق، قطاع النقل والمواصلات والتخزين وقطاع المؤسسات المالية والتخزين، والقطاعات الخدمية التي تتضمن قطاع الاسكان، قطاع الخدمات الحكومية وقطاع الخدمات الاخرى.

فإن مكونات النمو الاقتصادي هي عبارة عن مجموع الزيادات التي تحصل في القطاعات الرئيسة المكونة للناتج المحلي الاجمالي، والتي تعتمد بحد ذاتها على الزيادات التي تحصل في القطاعات الفرعية المذكورة أعلاه، فعندما تحصل زيادة في الناتج المحلي الاجمالي لأحد القطاعات الرئيسية كنتيجة لتفوق أحد القطاعات الفرعية، سيتم تسمية هذا الاقتصاد باسم ذلك القطاع الفرعي الآخذ بالنمو على حساب القطاعات الاخرى، ولهذا السبب هناك اقتصاد يطلق عليه تسمية اقتصاد زراعي وآخر اقتصاد صناعي وثالث اقتصاد خدمي واقتصاد نفطي وهكذا.

المشكلة في التأثير السلبي للقطاع الرئيسي

ليس المشكلة في تسمية وزيادة أهمية هذا القطاع أو ذاك في الاقتصاد بقدر ما تكمُن المُشكلة في تأثير هذا القطاع على بقية القطاعات الاخرى بالشكل السلبي، ويكون هذا القطاع هو المتفوق على حساب القطاعات الأخرى، وتكون النتيجة ان الاقتصاد هو اقتصاد احادي المصدر وغير متنوع وهذا ما يجعل الاقتصاد ضعيف الكفاءة والاداء وغير قادر على مواجهة الازمات بل يكون تابع لهذا القطاع والذي ربما يقود إلى تبعية الاقتصاد بأكمله للعالم الخارجي كما هو حال قطاع النفط، وهذا ما يجعل النمو الاقتصادي ضعيف ومتذبذب وغير عادل، كنتيجة لغياب الادارة الكفوءة والإرادة الحقيقة والرؤيا الستراتيجية المتمثلة في حضور صورة مستقبل الاقتصاد الآن.

التنويع الاقتصادي ومتانة النمو الاقتصادي

إن هدف التنويع الاقتصادي في البلدان الاحادية المصدر هو تمتين النمو الاقتصادي لأنه يعتمد في هذه البلدان وخصوصاً النفطية على إنتاج النفط وزيادته فيكون النمو الاقتصادي ركيك لا يتسم بالمتانة والاستمرار لمدة طويلة كونه يعتمد على مصدر واحد يتعرض لمخاطر التقلبات في أسعاره كونه سلعة عالمية لا يمكن التحكم بها من قبل منتجيه، ولذا يعمل التنويع الاقتصادي على تعدد مصادر النمو الاقتصادي حتى يمكن تلافي وتعويض ما يمكن أن يؤدي إلى انهيار النمو في حال إذا كان المصدر وحيداً، فالتنويع يجعل النمو يتمتع بالمتانة ومقاومة الانهيار.

نعم ممكن أن يكون له (القطاع الفرعي النفطي) دور إيجابي ومهم، عند توفر الادارة الكفوءة والارادة الحقيقة والرؤيا الاستراتيجية، في تحقيق التنويع الاقتصادي الذي ينعكس بدوره على النمو الاقتصادي، إذ إن العمل على تحديث وتنشيط قطاعات الاقتصاد الاخرى وفق علاقاتٍ متناسبة فيما بينهم، من خلال توظيف وزيادة ترابطات ذلك القطاع مع القطاعات الاخرى، سيزيد من إنتاجية هذه القطاعات ونموها بشكل متناسب، وهذا ما ينعكس على متانة النمو الاقتصادي وزيادته بشكل حقيقي وعادل وليس وهمي ومتفاوت. إن هذا النمو تحكمه علاقة متناسبة ما بين القطاعات السلعية من جانب والقطاعات المالية من جانب آخر، يمكن تناولها أدناه

علاقة تناسب القطاعات السلعية

إن خرق علاقة التناسب ما بين القطاعات السلعية في البلدان النفطية على سبيل المثال سيفضي إلى ضعف القطاعات السلعية الاخرى كالزراعة والصناعة التحويلية وغيرها، بحكم ان قطاع النفط المُعتمد عليه بشكل كبير جداً، سيؤدي إلى انتعاش اجور العاملين فيه وانتقال العاملين في القطاعات الاخرى الى هذا القطاع رغبة بالاجور المرتفعة فترتفع تكاليف انتاج القطاعات الاخرى فتنخفض كفاءتها لصالح القطاع النفطي هذا من جانب.

ومن جانب آخر إن زيادة العملة الأجنبية كنتيجة لزيادة الصادرات النفطية، مقارنةً بالعملة المحلية في الاقتصاد المحلي، ستؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية مقارنة بالعملة الاجنبية، وعلى أثر هذا ان أسعار منتجات القطاعات المحلية الاخرى سترتفع مع انخفاض اسعار السلع المستوردة، أي انخفاض كفاءة منتجات القطاعات المحلية الاخرى بفعل ارتفاع سعر صرف العملة المحلية، فتنخفض الصادرات وتزداد الاستيرادات وتكون أكثر تنافسية من المنتجات المحلية فتنخفض أهميتها شيئاً فشيئاً لصالح صادرات القطاع النفطي ولصالح السلع الأجنبية، ويتم تكريس احادية الاقتصاد من جديد بعيداً عن التنوع.

علاقة تناسب القطاعات المالية والحقيقة

كما إن خرق علاقة التناسب ما بين القطاعات المالية والقطاعات الحقيقية، ستفضي إلى خلق الأزمات المالية والاقتصادية من جانب وتعميق احادية الاقتصاد من جانب آخر، فلو كانت الاوراق المالية أكبر من السلع والخدمات المنتجة ستؤدي إلى ظهور الازمة المالية لا محالة كما هو حال الازمة التي ظهرت في 2007/2008 المعروفة بأزمة الرهن العقاري، كما إن زيادة إنتاج السلع والخدمات دون أن يقابلها أموال كافية ستظهر لا محالة أزمة اقتصادية كأزمة الكساد العظيم التي ظهرت في عام 1929/1933، هذا من جانب الازمات المالية والاقتصادية.

أما من جانب تعميق أحادية الاقتصاد فإن استمرارية احادية الاقتصاد تكون مربوطة بغياب علاقة التناسب ما بين القطاعات المالية والحقيقية، فكلما كانت العلاقة التناسبية ما بين القطاعات المالية والحقيقية حاضرة كلما ابتعد الاقتصاد عن الأحادية باتجاه التنويع، وذلك لان المفروض أن تكون القطاعات المالية هي تعبير عن قيمة القطاعات الحقيقية وليس العكس، وبهذا المفهوم نحقق الاستقرار والتنويع الاقتصادي الذي ينعكس على متانة النمو الاقتصادي.

إن ما تم تناوله أعلاه يختص بكيفية جعل النمو الاقتصادي نمو حقيقي من خلال التنويع الاقتصادي والابتعاد عن الاحادية الاقتصادية. أما كيف نجعل النمو الاقتصادي نمو عادل يهتم بجميع طبقات المجتمع وأجياله الحالية واللاحقة، يمكن تناوله ادناه.

كيف نجعل النمو الاقتصادي عادلا يشمل الجميع؟

إن تحقيق التنويع الاقتصادي يسهم بشكل كبير في جعل النمو الاقتصادي نمو عادل، من جانب كونه يفعّل جميع القطاعات الاقتصادية الرئيسية والفرعية، وهذا ما يخلق الكثير من فرص العمل بالنسبة للأجيال الحالية، فتخلق المزيد من الدخول الأولية كنتيجة للمساهمة في العملية الانتاجية فيتحسن متوسط دخل الفرد بشكل تلقائي، لكن في حالة ملاحظة ان النمو الاقتصادي ينمو بشكل كبير مع زيادة حجم الفقر كنتيجة لسوء التوزيع الأولي للدخل، فلا بد أن توضع الآلية المناسبة لتحقيق عدالة التوزيع لجعل النمو الاقتصادي نمواً عادلاً، كأن تتدخل الدولة لفرض ضرائب عادلة على أصحاب الدخول والأرباح المرتفعة لصالح أصحاب الدخول المحدودة والمحرومة من النمو المرتفع او تعمل على تقديم الدعم للفئات المتضررة من النمو المرتفع، سواء بشكل مالي أو عيني أو خدمي او غيرها، وهذا ما يجعل النمو الاقتصادي نموا عادلاً بين أفراد الجيل الحالي.

أما جعله عادلا ما بين الأجيال الحالية واللاحقة وخصوصاً في البلدان النفطية فلا بد من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق العدالة ما بين الاجيال، فمن جانب إن بناء اقتصاد قوي متين متنوع بفعل الايرادات النفطية الحالية سيكون بمثابة نوع من تحقيق العدالة ما بين الاجيال، إذ لو لم يتم بناء اقتصاد قوي متين متنوع من قبل الجيل الحالي، ستعاني الأجيال اللاحقة من إرث اقتصادي متدهور يحتاج المزيد من الوقت والاموال لإعادة بناءه ليلبي طموحهم وتطلعاتهم.

من جانب آخر يمكن تحقيق العدالة بين الاجيال من خلال اللجوء إلى استخدام الصناديق السيادية كآلية للاحتفاظ بحقوق الاجيال اللاحقة من الثروة النفطية التي دائماً ما يُعبر عنها بأنها ثروة وطنية عامة، أي إنها لا تقتصر على فرد معين ولا على جيل معين أي إنها حق للجميع. إن هذه الآلية يمكن أن تحقق العدالة ما بين الاجيال الحالية واللاحقة وذلك من وضع الايرادات النفطية في هذه الصناديق والاحتفاظ بها للأجيال اللاحقة مع حق السحب منها لتغطية نسب العجز في موازنة الدولة، ولابد أن يخضع هذا السحب وفقاً لآلية معينة وليس بشكل عشوائي.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2018
www.fcdrs.com

اضف تعليق