نلاحظ، هذه الأيام، تجدد وتصاعد الشكوى من عدم كفاية موارد المياه في العراق، وخاصة تناقص الكميات الداخلة للعراق من خارج الحدود سنة بعد اخرى. وهذه المشكلة نأمل الاّ تبقى دائمة لتعيشها الأجيال القادمة وتتألم وتشعر بالحيف، وما يتولد ويتراكم في النفوس مما ينافي حرص العراقيين على علاقات طيبة ومثمرة مع دول الجوار وعموم المنطقة والعالم.
وليس امامنا الا مواصلة الضغط بالوسائل الدبلوماسية، وتوظيف الأدوات المشروعة في القوانين والأعراف الدولية، والاحتجاج بحالات مماثلة بين دول تشترك في الانهار، وكيفية تقاسمها للمياه، ومبدأ التكامل الطبيعي بين الدول المتجاورة، والمراعاة المتبادلة للمصالح الحيوية وهي من شروط الاستقرار ودوام السلام وتوسيع التعاون من اجل الازدهار.
تلك الحقائق الواضحة تقتضي المزيد من الجهد المنظم والمتواصل من وزارتي الخارجية والموارد المائية، وكل الحكومة، وعلى اساس منهجي قويم لتصل الى ترتيبات معقولة ومنصفة بين العراق وجيرانه في المناسيب السنوية والموسمية للمياه.
والى جانب ما تقدم لا يمكن اغفال واقع الانخفاض المحزن لكفاءة ادارة موارد المياه في العراق، وذلك رغم المؤهلات العالية وثراء الخبرة للكوادر المسؤولة واحاطتهم بعمق الأزمة ومعرفتهم بواقع التصرف بالمياه ومشاكل الإرواء. وقد مرت مدة طويلة دون انجازات واضحة في هذا المجال. ولا بد من الاقرار بالقيود التي يمليها الوضع الاستثنائي والذي تجاوز ثلاثة عقود، ومنها محدودية التخصيصات المالية للبناء التحتي الزراعي وموارد المياه. لكن هناك عوامل اخرى منها قلة ما يخصص للقطاع. وليس من المبالغة القول ان مفاهيم الادارة والكفاءة مهملة ولا يلتفت اليها، سياسيا واجتماعيا، عندما يتعلق الأمر بالمنظومة الاروائية.
لنتصور مقادير المياه المستخدمة فعلا في الزراعة، والاستخدامات الضرورية الأخرى، ونقارنها بالكميات التي تدخل قنوات الإرواء من نهري دجلة والفرات، كم هي النسبة. تتسرب الكثير من المياه الى الاراضي المجاورة من تلك القنوات الرئيسية، واخرى كثيرة من فروعها، ثم من السواقي وذلك قبل الاستخدام الفعلي للمياه. اين تذهب تلك الكميات المتسربة وهي كبيرة وماذا تفعل سوى رفع مستوى المياه الجوفية واتلاف اراضي واسعة واخراجها من الصلاحية الزراعية، فضلا عن اضرار اخرى يعيشها الكثير من سكان مدن واحياء سكنية حيث تزدحم الارض بالمياه وتطفح الى السطح مع غياب شبكات الصرف الصحي.
وايضا، ورغم ما يعانيه الناس من شح المياه في مناطق كثيرة من الجنوب، هل يمكن غض النظر عن كميات المياه العذبة التي تتجه الى المبازل بسبب عدم التزام الضوابط، والتي ربما اصبحت لا تخطر على بال الكثيرين من المزارعين وفي الدوائر المعنية. نعم تهدر الكثير من المياه، ومن المعلوم ان اضرار هذا الهدر لا تقتصر على تقلص الرقعة الزراعية القابلة للإرواء، بل اتلاف اراضي صالحة للزراعة في مناطق لا تعاني من شح المياه بل الإفراط في تجهيز المياه، ومشاكل اخرى تمثل خسائر اقتصادية وانسانية.
لا شك ان الارتقاء بكفاءة ادارة الموارد المائية يتطلب التزام برنامج استثماري مكلف لتطوير جذري في شبكة الإرواء، وربما استحداث قنوات جديدة رئيسية وفرعية، وتغيير في طرق الإرواء الحقلي نحو وسائل جديدة تناسب ارض العراق ومناخه. او الانتقال الى القنوات المبطنة بالكونكريت والإكثار من نقاط تنظيم المياه لضبط توزيعها الى القنوات الفرعية والسواقي وغيرها.
وقد لا تسمح موارد العراق تنفيذ برنامج استثماري بهذا الحجم مالم تتجه الدولة نحو بناء قدرات وطنية، لتغطية احتياجات الري والبزل، من التصميم الى الاعمال الإنشائية وادارة التنفيذ والرقابة لخفض التكاليف وضمان الجودة والإتقان. أي تعبئة الموارد البشرية المتخصصة والفنية والعمال المهرة، ومن خلال تدريب عالي النوعية، لتكوين شركات متطورة تنظيميا وتقنيا تتولى تلك المهمات الضرورية ليس للزراعة وحسب بل لعموم الحياة في العراق.
واضافة على شبكات الري والمبازل لا زال العراق بحاجة الى سدود وخزانات ليست بالضرورة كبيرة، بل للاحتفاظ بمياه الأمطار الغزيرة التي تحصل بين آونة واخرى، وربما ينفع الاكثار من بوابات التنظيم في نهري دجلة والفرات لترشيد استخدام المياه. ولأن العراق بلد وفير الطاقة لا بد من انعكاس هذه الوفرة ايضا على تنظيم استخدام المياه، فلا بأس من اعتماد الضخ في التصميم الجديد لشبكات الارواء بدلا من الاستسلام كليا للتضاريس الموضعية في رسم مسارات المجاري الاروائية.
ولكن هناك فرص لرفع الكفاءة حتى مع الوضع الحالي، وذلك على الأقل بالعودة الى تقاليد ادارة المياه في الخمسينات والستينات. لماذا تبقى القنوات مفتوحة على مصراعيها، في بعض المناطق وهي معلومة، على مدار السنة وعلى اختلاف فصول مواسم الزراعة. الا توجد بوابات عند صدور تلك القنوات والقنوات الفرعية، اين ذهبت "المراشنة"، وأقفال الأنهار التي يحملها عمال الري (الكُّراخ) على دراجاتهم الهوائية لضبط المياه. هل تتمكن وزارة الموارد المائية بتقنين تصريف المياه من دجلة والفرات الى القنوات الرئيسية بالتناوب بين الفتح والأغلاق، او تقوم ببعض التغييرات الجزئية هنا وهناك في حدود ما تسمح به الموارد الآن.
وثمة مسألة أخرى حول خزين المياه الجوفية ونوعيتها ومقاديرها وصلاحيتها للاستخدام الزراعي والبشري، والتي ينحصر الحديث عنها في البوادي التي لا تصلها الأنهار. لكن المياه الجوفية في الأراضي المروية وسبل الانتفاع منها ايضا يحتاج الى ايضاح من الجهات المختصة. خذ على سبيل المثال المنطقة القريبة من بغداد بين الفلوجة ومدينة الحلة، مثلا، حيث المياه الجوفية هنا مرتفعة رغم وجود المبازل. اقصد هل ثمة أمل في معالجة من نوع ما للانتفاع من المياه التي تسربت من النهرين وتراكمت تحت السطح في المناطق المروية من العراق.
والمبازل تعاني ايضا من مشاكل لأنها تحتاج الى تطهير مستمر، وهناك بعض الأخطاء في التصميم اصلا كما يظهر من واقع الحال، والكلمة الأخيرة لأصحاب الاختصاص قطعا. اذ يبدو ان المبازل تنقل المياه الزائدة من الأرض المرتفعة الى الاراضي الأدنى منها، في نفس النطاق الجغرافي الصغير، ليصل الماء في المبزل الى مستويات قريبة من سطح التربة، وفي هذه الحالة تصبح الأرض في المنطقة السفلى كلها مبزل من الناحية العملية.
كما ان مياه المبازل وشبكات الصرف الصحي ماذا بشأنها، هل من تقنيات بتكاليف معقولة لمعالجتها واعادة استخدامها لبعض الأنشطة الزراعية.
تعودنا تقاليد الخطاب السياسي، نهتم بالقضايا على المستويات الإجمالية ونتجاوز المعالجات التفصيلية وهذه مشكلة اخرى. اقترح على وزارة الموارد المائية ان تباشر مسحا تفصيليا لإدارة الموارد المائية وكفاءة التصرف بالمياه على النطاق المحلي، بتقسيم العراق الى وحدات لا تتجاوز 10 كيلو متر مربع، والاهتمام بكل ما يعيق الوصول الى تصرف أفضل بالمياه، من القيم والأعراف الى بنية النفوذ الاجتماعي، والادارة المحلية والسلطة الفعلية لدائرة الري هناك، اضافة الى التعاون المحتمل من الشرطة والقضاء وسوى ذلك.
ملوحة المياه التي تصل الى الوسط والجنوب وتزايدها مع كثرة السدود والخزانات في تركيا وسورية واعالي العراق، ومعدلات التبخر المرتفعة، من التحديات التي تضيف تعقيدات الى المشكلة. ومنها حاجة الأرض لمزيد من المياه لدفع الأملاح الى الأسفل بعيدا عن جذور النباتات. وعندما تكون التربة أسفل الجذور مشبعة بالمياه المالحة تنعدم امكانية الزراعة دون انظمة بزل ناجحة، وايضا ولنفس السبب يصبح التساؤل حول مدى ملائمة اساليب الرش والتنقيط في الزراعة منطقيا، وامور اخرى.
تشجيع البحث عن محاصيل زراعية حاجتها للمياه اقل وتقاوم الملوحة متوقع في بلادنا وبالانتفاع من ظروف وتجارب مماثلة في العالم، لكن فرص النجاح في هذا المسعى، لحد الآن، تكاد لا تذكر. هل صحيح توجد اصناف من الحبوب والخضروات بغلة مناسبة للدونم، وذات قيمة اقتصادية عالية تكتفي بكميات اقل من المياه وتنبت في الأراضي المالحة. وهل تمكنا فعلا من النهوض بقدراتنا الوطنية في التجارب الزراعية، سواء لنشر اصناف جديدة من المزروعات او لرفع الغلة، وخفض تكاليف المنتجات، وتنمية قدرة العراق التنافسية اقليميا ودوليا، من اجل دور أكبر للزراعة في توليد الدخل الوطني وللأمن الغذائي الذي يستحق الاهتمام.
والقضية الأخرى تتمثل في تلويث مياه الأنهار حتى بتوجيه مياه الصرف الصحي وسوائل ملوثة من مصادر اخرى، ومع انخفاض المناسيب تتفاقم المشكلة كثيرا اذ ترتفع التراكيز. والمطلوب بإلحاح اعادة توجيه تلك الملوثات بعيدا عن الأنهار ومعالجتها قبل تصريفها الى المبازل، بل وحتى عدم السماح بتلويث المياه الجوفية بها. ويتطلب الموضوع التأكد من عدم تلوث المياه الداخلة الى العراق من دول الجوار، وهي مهمة ليست سهلة ولكنها ضرورية. أي ان ادارة موارد المياه اشمل واعقد من مجرد كميات المياه الداخلة الى العراق وان كانت هذه اساسية بسبب افتقار العراق داخليا لمصادر مياه كافية.
اضف تعليق