ستيفن س. روتش
نيوهافين ــ يبدو أن الاقتصاد العالَمي المنسحق المنكوب بدأ ببطء ولكن بثقة ينفض عن نفسه غبار وعكته العميقة التي اعترته بعد الأزمة. وإذا ثبتت صحة أحدث توقعات صندوق النقد الدولي ــ وهو احتمال مشروط بكل تأكيد ــ فإن متوسط النمو السنوي بنسبة 3.6% تقريبا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي كما هو متوقع خلال الفترة 2017-2018 سوف يمثل ارتفاعا طفيفا عن نسبة 3.2% التي سجلها في العامين المنصرمين. فبعد مرور عقد كامل منذ اندلعت الأزمة المالية الكبرى، عاد النمو العالمي أخيرا إلى اتجاهه الذي كان 3.5% في الفترة ما بعد عام 1980.
ولكن هذه الدورة الكاملة لا تشير إلا بالكاد إلى أن العالم عاد إلى طبيعته. بل على العكس من ذلك، تتجاهل الفكرة المبالغ في الترويج لها بعنوان "المعتاد الجديد" للاقتصاد العالمي التحول غير العادي في ديناميكية النمو العالمي على مدار السنوات التسع الماضية.
فعلى الهامش، تَرَكَّز التحسن الأخير في الاقتصادات المتقدمة، حيث من المتوقع أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط 2% خلال الفترة 2017-2018 ــ وهو ما يمثل تحسنا ملموسا من متوسط النمو الهزيل إلى حد غير مسبوق بنسبة 1.1% على مدار السنوات التسع السابقة. ومن المتوقع أن يقابل القوة النسبية في الولايات المتحدة (2.4%) ضعفا في كل من أوروبا (1.7%) واليابان بالطبع (0.9%). بيد أن النمو السنوي في الاقتصادات المتقدمة من المتوقع أن يظل أقل كثيرا من الاتجاه الطويل الأمد بنسبة 2.9% المسجل خلال الفترة 1980-2007.
وفي المقابل، يتقدم العالَم النامي بوتيرة أسرع كثيرا. فبرغم أن متوسط معدل النمو المتوقع لهذه الاقتصادات خلال الفترة 2017-2018 بنسبة 4.6% يقل بنحو نصف نقطة مئوية عن نظيره خلال السنوات التسع السابقة، فمن المتوقع أن تستمر هذه الاقتصادات في التوسع بما يزيد على ضعف وتيرة توسع العالم المتقدم. ومن غير المستغرب (على الأقل في نظر أولئك الذين لم يصدقوا قط سيناريو الهبوط الصيني الحاد) أن نتوقع تركز قوة العالَم النامي في الصين (6.4%) والهند (7.5%)، مع تأخر النمو في أميركا اللاتينية (1.5%) وروسيا (1.4%).
الآن، وصل التباعد المستمر بين الاقتصادات المتقدمة والنامية إلى نقطة حرجة. ففي الفترة من 1980 إلى 2007، كانت الاقتصادات المتقدمة تمثل 59% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (قياسا على تعادل القوة الشرائية)، في حين بلغت الحصة المجمعة للاقتصادات النامية والناشئة 41%. والآن، تشير أحدث توقعات صندوق النقد الدولي إلى انقلاب هاتين النسبتين تماما بحلول عام 2018: فتصبح 41% للاقتصادات المتقدمة و59% للعالَم النامي.
لقد تحول اتجاه النمو الاقتصادي العالمي بشكل كبير بعيدا عن ما يسمى الدول المتقدمة ونحو الاقتصادات الناشئة والنامية. ولكن هل هذا جديد؟ بكل تأكيد. وهل هو طبيعي؟ كلا بكل تأكيد. فهو تطور مذهل يثير ثلاثة أسئلة جوهرية على الأقل حول فهمنا للاقتصاد الكلي.
أولا، ألم يحن الوقت لإعادة النظر في الدور الذي تلعبه السياسة النقدية؟
كان التعافي الهزيل في العالَم المتقدم يجري على خلفية من التيسير النقدي الأكثر درامية في التاريخ ــ ثماني سنوات من أسعار الفائدة القريبة من الصِفر وضخ السيولة بكميات هائلة من الميزانيات العمومية الموسعة للبنوك المركزية.
ومع ذلك، كان تأثير السياسات غير التقليدية على النشاط الاقتصادي الحقيقي، ووظائف الطبقة المتوسطة، والأجور محدودا. وبدلا من ذلك، انتقلت السيولة الفائضة إلى الأسواق المالية، فعززت الضغوط التي دفعت أسعار الأصول إلى الارتفاع وأنتجت عوائد ضخمة للمستثمرين الأثرياء. وسواء شئنا أم أبينا، تحولت السياسة النقدية إلى أداة لتوسيع فجوة التفاوت.
ثانيا، هل تحرر العالَم النامي أخيرا من اعتماده القديم على العالم المتقدم؟
كنت لفترة طويلة أزعم أن الادعاءات حول مثل هذا "الانفصال" زائفة، نظرا لاستمرار النمو الذي تقوده الصادرات في الدول الأكثر فقرا، والتي تربط اقتصاداتها بالطلب الخارجي في الدول الأكثر ثراء. لكن الحقائق الآن تشير إلى العكس. فقد تباطأ نمو التجارة العالمية إلى وتيرة متوسطة بنسبة 3% خلال الفترة 2008-2016 بعد الأزمة ــ نصف النسبة المعتادة التي بلغت 6% خلال الفترة 1980-2016. ومع ذلك، لم يهدر نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات النامية أي فرصة إلا بالكاد خلال نفس الفترة. ويشهد هذا على عالَم نام أصبح الآن أقل اعتمادا على دورة التجارة العالمية وأكثر اعتمادا على الطلب الداخلي.
أخيرا، هل لعبت الصين دورا غير متناسب في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي؟
تشير جهود إعادة التوازن الصينية إلى أن هذه ربما تكون الحال حقا. فتاريخيا، كانت استراتيجية النمو بقيادة الصادرات والتي حققت نجاحا كبيرا في الصين، جنبا إلى جنب مع النمو السريع الذي سجلته سلاسل الإمداد العالمية التي تمحورت حول الصين، السبب الرئيسي الذي جعلني أرفض تماما تصديق قصة الانفصال. ومع ذلك، تهاوت حصة الصادرات في الناتج المحلي الإجمالي الصيني من 35% في عام 2007 إلى 20% في عام 2015، في حين ارتفعت حصة الصين في الناتج العالمي من 11% إلى 17% خلال هذه الفترة. وربما تكون الصين، الدولة المصدرة الأكبر في العالم، في طليعة الانفصال العالمي.
ويشير هذا إلى اتجاه أكثر قوة: التحول السريع الذي طرأ على البنية الصناعية في الصين. فقد ارتفعت حصة القطاع الثالث (الخدمات) من 43% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2007 إلى 52% في عام 2016، في حين انخفضت حصة القطاع الثانوي (التصنيع والبناء) من 47% إلى 40% خلال نفس الفترة. وعلى الرغم من زيادة حصة الاستهلاك الخاص في الطلب الكلي بشكل أبطأ، وهو ما يرجع بشكل كبير إلى الادخار التحوطي (والذي يعكس الفجوة في شبكة الأمان الاجتماعي)، لا يخلو الأمر من أسباب التفاؤل على هذه الجبهة أيضا.
الواقع أن النمو الهائل الذي سجلته التجارة الإلكترونية الصينية يشير إلى طريق مختصر إلى ثقافة استهلاكية حديثة نابضة بالحياة والتي لم تكن متاحة للاقتصادات المتقدمة اليوم في مرحلة مماثلة من التنمية. وفي سجلات التغير البنيوي، حيث تميل التحولات إلى البطء الشديد، جاء تطور الصين ركضا.
كل هذا ينبئنا عن عالَم مختلف تمام الاختلاف عن ذلك الذي كان سائدا قبل الأزمة المالية الكبرى ــ عالَم يثير تساؤلات عميقة حول فعالية السياسة النقدية، واستراتيجيات التنمية، ودور الصين. ورغم أن تعافي الاقتصاد العالمي الذي يعادل 80 تريليون دولار أميركي بات واضحا الآن، فمن الأهمية بمكان أن ننظر إلى التقدم الحادث اليوم من خلال عدسة مختلفة عن تلك التي كانت مستخدمة في الدورات السابقة. إن هذا العالَم المقلوب، حيث تطغى دينامية العالَم النامي على الوعكة المستمرة في الاقتصادات المتقدمة، يشير إلى تطور جديد ــ ولكنه ليس طبيعيا بكل تأكيد.
اضف تعليق