تمهيدي عن مفهوم النسبية
(النسبية)[2] مفهوم ومصطلح، شاع استعماله في الأزمنة الأخيرة، خاصة في الحقول المعرفية والابستمولوجية، حيث سميت بـ(النسبية المعرفية) ([3])، وقد شاع استخدامه خاصة في المجالات المعرفية، وفي البحوث عن الأديان والمذاهب والقضايا الميتافيزيقية، مما يتطلب دراسته، وتبيان معالمه ودلالاته، ولأن العديد من الفلاسفة والعلماء اتخذ مفهوم (النسبية) ذريعة لتقليص بل لهدم الفاصل بين المعرفة الحقة المطابقة للواقع وغيرها، ولإذابة وتمييع الحدود بين (الدين الحق) و(الصراط المستقيم) وغيرهما، باعتبار أن (نسبية المعرفة) تعني ـ في إحدى تفسيراتها ـ أن الصراطات كلها مستقيمة، وأن الأديان كلها على حق، أو أنها وإن لم تكن كلها على حق، إلا أنها بأجمعها (ظنية) ولا علم فيها، إلى غير ذلك من النتائج التي استنتجها بعض (الهِرمينوطيقيين)[4].
وحيث إننا سنعقد فصلا خاصاً لدراسة مختلف معاني وتعريفات النسبية([5])، وتقييمها ونقدها، لذا سنكتفي ههنا بالإشارة إلى بعض الحقائق والنقاط الجوهرية عن النسبية، وإلى ذكر بعض الآراء والتعريفات بإيجاز، في مقاربة تحليلية ونقدية تمهيدية لها.
مقاربة فكرية- نقدية مبدئية في مفردة "النسبية" ودلالاتها ومدركاتها
إن (النسبية) تختلف باختلاف المعنى المراد منها؛ فإن المعاني المذكورة لها، أو التي يمكن أن تذكر لها، بلغت، حسب تحقيقنا، خمسة عشر معنى، ولعلنا نتطرق لتفصيل ذلك عند كل معنى، إلا أننا نكتفي ببعض الإشارات الآن، فإن (النسبية) بمعنى:
1: إن (كل معارفنا وعلومنا ظنية)، لا تلغي تحقق مرتبة من مراتب المعرفة بالخارج، وهي الظن، والظن ـ على رأي ـ كيفية نفسية، وارتأى البعض أنه من مقولة الانفعال، وآخرون ذهبوا إلى أنه من مقولة (الإضافة) ـ وتفصيله في مبحث الوجود الذهني، وعلى أي تقدير فهي (مطلقة) من حيث كونها كيفاً أو انفعالاً أو إضافة، نعم هذه القضية([6])، إن قلنا بأنها قطعية، فليست هي نسبية بهذا المعنى، فلا تحمل عليها بالحمل الشائع الصناعي، وإن قلنا بأنها (ظنية)، كانت نسبية بهذا المعنى لكنها عندئذٍ تنقض نفسها بنفسها([7])، كما سنفصله لاحقاً إن شاء الله تعالى.
2: ولو أريد بالنسبية (مؤثرية القبليات الفكرية والخلفيات النفسية في المعرفة)، فهي مندرجة في مقولة (الفعل)([8])، وأما لو أريد بها (تأثر الإنسان في مرحلة إدراكه للحقائق بالخلفيات والمسبقات) فإنها من مقولة الانفعال، وعلى أي فإن النسبية بهذا المعنى تعاني من نفس المعضلة السابقة، فإن هذه القضية (مؤثرية...) و(تأثر...) هي المعلومة وهي نوع من المعرفة فإن قلنا بأن المفكر أو المؤلف أو المتحدث بهذه المعلومة، متأثر في الوصول إليها بقبلياته وخلفياته، فإن هذه القضية تنقض نفسها بنفسها، ولا يمكن الاعتماد عليها كقاعدة علمية لاكتشاف المعادلة الكلية لكل المعارف والعلوم، ولا ضمان لصوابيتها عندئذٍ ولو قلنا بأنه غير متأثر، لنقض هذا القولُ كليةَ القاعدة، ثم ما الفارق؟ وما الدليل على الاستثناء؟ وسيأتي تفصيل ذلك وغيره.
ونضيف أن (النسبية) هي بدورها معرفة أو معلومة أو مفهوم ومعنى متصوَّر، فهي إذن مما يخضع للخلفيات النفسية والمسبقات الفكرية، فـ(يتلون) المفهوم و(يتشكل)، في ذهن مفكر، على خلاف (تلونه) و(تشكله) في ذهن كلّ مفكر آخر وهكذا، إذ حسب النسبية نفسها([9]) لابد من تشكله وتلونه قبل أن (يدركه الإنسان).
وسيكون الحاصل من ذلك أن (النسبية) ـ حسب هذا المذهب في معنى النسبية ـ لا يمكن تعقلها وإدراكها كمفهوم مجرد صافٍ عن الشوائب والملونات، وعلى هذا يفقد (البحث العلمي) عن (مفهوم النسبية) و(النسبية المعرفية) قيمته لعدم توارد النفي والإثبات والنقض والإبرام، على موضع واحد، بل تفقد كافة البحوث والنقاشات بين العلماء، قيمتها؛ إذ مهما صنعوا فسيكون حوارهم كحوار مجموعة من البكم الصم([10])؛ إذ لا يعقل حسب النسبية من أن يدرك أحدهم كلام الآخر حقاً؛ إذ لا يمكن لأحد أن يتجرد من خلفياته النفسية وقبلياته الفكرية ويتقمص شخصية الآخر تماماً ليكون "إدراكه للحقيقة" كإدراك الآخر لها، فلا يعقل أن ينتج الحوار أبداً، لكن البرهان الإنّي يكذب ذلك؛ إذ ما أكثر ما نجد اقتناع بعض أطراف الحوار برأي الطرف الآخر (سواء كانا من دينين أم مذهبين متباينين أو مختلفين أم غيرهما) مما يدل على أن حاكمية المسبقات والخلفيات ليست مطلقة([11]).
3: وأما لو أريد بـ(النسبية): مقولة (الإضافة)([12]) لكانت كـ(المعنى الحرفي) حيث إنه بالحمل الذاتي الأولي، معنى حرفي، وبالحمل الشائع الصناعي كذلك، فإن كل حرف هو في وجوده حرف مثل: (في) إذا استخدمت دالة على الظرفية. لكن (المعنى الحرفي) هو (معنى اسمي) إذا أصبح ما فيه ينظر لا ما به يُنظر، أي إذا لاحظنا المفهوم الذي يدل على كافة المعاني الحرفية، وكذلك (النسبية)([13])، فهي مفهوم غير نسبي وغير إضافي إذا نظر إليها ككلي منطبق على مصاديقه، فتدبر.
وتبسيط ذلك: أن شريك الباري المتصوَّر، ليس شريكاً للباري بالحمل الشائع الصناعي وبلحاظ الوجود العيني، وكذلك النقيضان في قولك النقيضان لا يجتمعان، فإنهما بلحاظ الوجود ليسا نقيضين إذ لا يعقل اجتماعهما ليكونا نقيضين، وإن كانا بحسب المفهوم نقيضين، وذلك([14]) هو ملاك صحة حمل خبر (لا يجتمعان) عليها، وكذلك (المعدوم) عندما تحكم عليه بأنه (ما لا يُخبر عنه) أو بغير ذلك، فإنه من حيث أنك أخبرت عنه بـ(لا يُخبر عنه)، موجود في عالم الذهن وصقع الاعتبار، وليس معدوماً بهذا المعنى واللحاظ، ولذا أخبرت عنه بهذا الخبر (وأنه لا يخبر عنه).
وبعبارة أخرى، لا يمكن أن تكون (النسبية) بالحمل الذاتي الأولي، إلا (النسبية) لاستحالة سلب الشيء عن نفسه، وذلك ككل مفهوم آخر، ولكن هذا لا ينفي أن تكون (النسبية) كمفهوم من المفاهيم، أمراً مطلقاً، بحسب بعض معانيها، أو أن تكون (النسبية) أمراً نسبياً بالحمل الشائع الصناعي، بحسب معاني أخرى، وإن وردت عليها إشكالات أخرى من جهات أخرى.
مقاربة أخرى لمعاني النسبية وتقييمها
وبتعبير آخر، وببيان آخر أكثر تفصيلاً، إن (النسبية) إذا لوحظت من حيث هي، فقد تكون (نسبيةً) وقد لا تكون:
أ: (النسبية) قد تقابل الإطلاق والديمومة([15])، وعلى هذا فـ(النسبية) بنفسها صفة غير دائمة أو كلية، للمفاهيم ـ حسب نظرية النسبية نفسها ـ فإن (النسبية) في إحدى معانيها، يراد بها: نفي الصفة الكلية من حيث الديمومة عن (المفهوم أو المعرفة أو الحقيقة).
وحيث إن (النسبية) هي مفهوم من المفاهيم وحقيقة من الحقائق، فليست إذن (النسبية) بنسبية دائماً، وبذلك تنقض النسبية نفسها، وذلك كقولك: (كل قضية جزئية) فإنها لو لم تشمل نفسها، لما كانت كل قضية جزئية؛ إذ هذه أيضاً قضية، ولو شملت نفسها لنقضت نفسها بنفسها.
ب: (النسبية) ليست مقياساً معيارياً موضوعياً؛ إذ لا يوجد مطلقاً مقياس ومعيار موضوعي لتمييز الصحيح من السقيم والحق من الباطل، حسب بعض مذاهب النسبية.([16])
ج: (النسبية) ليست صائبة بالضرورة؛ إذ (الشيء قد يكون خاطئاً أو صائباً تبعاً لاختلاف الأزمان، أو الظروف، أو المجتمع).([17])
وعلى هذا فليس لمن يلتزم بهذا المعنى (للنسبية) أن يستثني نفس مفهوم النسبية عن هذه القاعدة.
د: (النسبية) حتى على القول بأنها صائبة، فإنها خاطئة تماماً بناءً على المذهب النسبي القائل بأن المعارف المتعاكسة والمتناقضة، صائبة.([18])
بل على هذا لا توجد قاعدة كلية أبداً، لا وحتى النسبية، إلا ويصدق نقيضها عليها.
هـ: (النسبية) ليست حقيقة (اكتشفها) العقل أو اكتشف ضدها (المطلقية) بل هي من (صنع) العقل واختراعه وخلقه([19])، سواء أقلنا بأن ذلك يتم على ضوء التجربة أم لا؟
وإذا كان العقل هو الخالق للمفاهيم الرياضية وللمقولات الأربع([20])، كما يقول كانط، فلِمَ لا يكون هو خالق (النسبية) أيضاً؟ وهنا نصطدم بالاعتراضات التالية: إذ إن ذلك يعني أن بمقدور الذهن أن يخلقها بمعنى معاكس تماماً، بل لعله قام بخداعنا، فأوهمنا أنه خلق (النسبية) بهذا المعنى أو بذاك، لكنه في الواقع قد خلق الضد الآخر! ثم ما فرق النسبية، عندئذٍ، عن (الأوهام) و(الأحلام)؟ وسيأتي البحث بالتفصيل عن معاني النسبية المشار إليها ههنا، وعن حقيقة وحدود كلام (كانط) ومناقشاتنا معه، ومع سائر النسبيين.
و: (النسبية) ـ على حسب بعض تعريفاتها ـ تتضمن (النسبة) لكنها غير مقولة الإضافة فليست كالموازاة أو المساواة أو الفوقية، لكنها مع ذلك مما يتقوم بالمضاف إليه([21])، وهي في ذلك ومن حيث هذه الجهة (مطلقة)؛ إذ (النسبية) يستحيل أن تكون (غير نسبية) ما دامت هي نسبية، ولو فرض ـ ولو بتحول جوهري فرضاً ـ تحولها إلى أمرٍ غير نسبي، أي غير ذات نسبة، فإنها عندئذٍ ليست (النسبية) بل أمر آخر فهي (نسبية) في الزمن الأول، وغير نسبية في الزمن الثاني مثلاً.
ز: و(النسبية المعرفية) ليست من (المعقولات الثانية الفلسفية) التي يكون الاتصاف بها في الخارج والعروض في الذهن، بل هي من المعقولات الثانية المنطقية، فهي ليست من قبيل (الإمكان) حيث إن الاتصاف به في الخارج والعروض ذهني وكذا (الوحدة) ـ المراد بها غير التشخص المرادف للوجود ـ و(الزوجية) و(الفردية).
بل هي من قبيل (المعرِّف) و(الحجة) وشبههما، مما عُدّ من المعقولات الثانية المنطقية، وذلك لأنها من صفات القضايا والمعرفة، وهي أمور ذهنية كما لا يخفى.
وثبوت هذه الصفة للنسبية أيضاً، أمر مطلق، وليس نسبياً فإن (النسبية) هي أبداً ودائماً من المعقولات الثانية المنطقية، ولا يعقل تحولها إلى المعقولات الأولى، أو إلى المعقولات الثانية الفلسفية، كما أنها أمر مطلق على حسب عدد من معاني النسبية الأخرى، كما اتضح وسيتضح أكثر، نعم لو قلنا بنسبية (الواقع الخارجي) أيضاً، فإن هذه النسبية ستكون من المعقولات الثانية الفلسفية، وهي أيضاً مطلقة عندئذٍ في كونها كذلك وليست نسبية.
وعلى أي فإن للنسبية واقعاً ـ أي واقع فرض، وأي نوع من المعقولات عُدَّ ـ وراء الصورة الذهنية، قد تطابقه فهي صواب، أو لا، فخطأ، فمن الضروري دراسة ذلك الواقع وأنه أي شيء هو في حد ذاته وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.
"النسبية ضد النسبية"
(النسبية) هي (النسبية) بالحمل الذاتي الأولي، أي النسبية هي النسبية بحمل (هو هو)، وأما بالحمل الشائع الصناعي، فإن مصداق (النسبي)([22]) أي ما ادعي أنه نسبي غير نسبي، إذ أي مصداق فرض للنسبية، فإنه ليس نسبياً بالمعنى الثالث والرابع للنسبية (وهما: صوابية وصحة المعارف والحقائق المتعاكسة والمتناقضة، وصحة وصوابية معرفتي للحقيقة في وقت أو مكان أو ظرف، دون آخر)، كما أن ما توهم نسبياً فإنه بالحمل الشائع الصناعي، ليس نسبياً حسب العديد من معاني النسبية الأخرى.
فإن (النسبية) هي (النسبية)، كمفهوم متحقق في الذهن، ولا يتغير هذا المفهوم، مهما غيّرت نسبته للأشياء المحيطة به، نعم مصداق (النسبية) الخارجي، لو فرض وجوده، كأن نفترض أن المراد به مقولة (الإضافة) من المقولات العشرة، فإنه نسبي بالحمل الشائع[23]، لكن سيتضح لاحقاً أن (الإضافة) مغايرة لـ(النسبية) تماماً.
مقاربة فكرية في مفردتي "الواقع" و"الحقيقة"
مفردة (الواقع)
(الواقع) قد يراد به عالم العين، والخارج، أي عالم الثبوت، في مقابل عالم الذهن، وعالم الإثبات، وعالم الخيال والوهم، ولذا يقال هذا أمر واقعي، في مقابل (أمر خيالي أو وهمي) وقد يعدّ في مقابل (الطوباوي) وهو مصداق من مصاديق الخيالي.
ولعل (الواقع الموضوعي ـobjective reality) هو المرادف للواقع بهذا المعنى، إذا أريد به (كل شيء موجود خارج ذهن الفرد، ويعكسه هذا الذهن)، لكن من دون أخذ قيد (ويعكسه الذهن) بنحو الحيثية التقييدية، وإلا كان أخص.
لكن البعض عرّف (الواقع الموضوعي) بالأخص إذ قال: (يقصد بالواقع الموضوعي: العالم المادي) رغم احتمال أن يكون قوله بعد ذلك (وكل شيء موجود خارج ذهن الفرد، ويعكسه هذا الذهن)([24]) تعميماً إن أريد بـ(كل شيء) الأعم من المادي والمجرد.
وفي اصطلاح آخر: فإن (الواقع) هو أعم مما في الذهن والخارج ونفس الأمر، فإن ما يجري في الذهن أيضاً من (الخيالات والأوهام) هو نوع واقع أيضاً، أي أن له وجوداً، وإن في الذهن، فله مرتبة من الوجود، ولذا كان الإخبار عنها([25]) صدقاً وإن طابقها وكذباً إن لم يطابق، وهذه المرتبة من الوجود ذات آثار، وإن كانت هذه المرتبة في نفسها وآثارها، أضعف من مرتبة الوجود الخارجي.([26])
وبعبارة أخرى: (الواقع) بالمعنى الأعم، يساوي (الوجود) أي وجود الشيء الأعم من الوجود العيني، والذهني، واللفظي، والكتبي، وذلك لأن الموجود في الذهن أيضاً (واقع ذهني) وإن كان بالقياس للخارج قد يكون خيالاً أو وهماً، كما لو تخيل نهراً من ذهب، أو المدينة الفاضلة في غير زمن الظهور المبارك.
وقد جرينا في هذا الكتاب على حسب الاصطلاح الأول.
مفردة (الحقيقة)
(الحقيقة) من الممكن أن نعتبرها ـ اصطلاحاً ـ مساوية لـ(الواقع) في اصطلاحه الأول، فعلى هذا: فكل واقع حقيقة، وكل حقيقة واقع.
وقد تعرّف بـ(حقيقة الشيء ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان، بخلاف الضاحك أو الكاتب، إذ يمكن تصور الإنسان بدونه) وهو تعريف بالأخص([27])، ونسبته لأمثال بن سينا تكشف عن ذلك؛ إذ قال: (فإن لكل أمر حقيقة هو بها ما هو)([28])، وكذلك تفسيرها بـ(مطابقة الشيء لصورة نوعه أو لمثاله الذي أريد له)([29]) أخص أيضاً من المصطلح الأول.
ومن الممكن أن نعرفها بـ(الواقع، بلحاظ مطابَقيته للمعرفة أو للمعلومة) فهي الوجه الآخر لـ(الصدق). فإن (الإثبات، وعالم الذهن، والصورة الذهنية) لو لوحظت باعتبار مطابقتها لـ(الثبوت، وعالم العين، والخارج) كانت صدقاً، ولو عكسنا كانت حقاً، فالحق هو الواقع منسوباً للقضية والصدق هو (القضية) منسوبة للواقع([30])، وعلى أي فإن هذا التعريف أخص من جهة أخذ لحاظ المطابقية.
لكن البعض اصطلح على أن (الحقيقة) هي (الإدراك الذي يطابق الواقع) وادعى أن ذلك هو المتداول في الاصطلاح الحديث، وهذا المعنى يرادف (المعرفة)، ولعله مراد من قال (الحقيقة هي مطابقة التصور أو الحكم للواقع)([31])، على أنه لا يخفى الفرق بين اعتبار الحقيقة هي (المطابقة) أو اعتبارها (الإدراك المطابق) أو (الصورة الذهنية) فإن المطابقة صفة للإدراك بلحاظ نسبته للمدرَك، ولكن لا يخفى ما في التعريفين من المسامحة فإن ذلك تعريف لـ(الصدق) وهو الوجه الآخر لـ(الحق).
وقد سرنا في هذا الكتاب على ذلك التعريف (الواقع بلحاظ مطابقيته للقضية أو للإدراك أو للمعرفة أو للمعلومة)([32]) ولذلك عبرنا بـ(نسبية الحقيقة، والمعرفة، واللغة) وذلك هو الأدق، إذ التقسيم رباعي وليس ثنائياً:
أ: الواقع، بما هو هو، أي في حد ذاته، أي (لا بشرط) عن إنكشافه ولا إنكشافه، ونسميه (الواقع) بقول مطلق.
ب: الواقع، بلحاظ كونه منكشِفاً، بنحو من أنحاء الإنكشاف، أو مطابَقاً، ونسميه (الحقيقة) وفي مقابلها يقع (السراب) قال تعالى: Pكَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءO([33]).
ج: (القضية) ـ (أو الصور الذهنية أو المعلومات) ـ بلحاظ كاشفيتها عن الواقع([34])، وتسمى (صدقاً أو كذباً).
د: (القضية) بما هي هي، لا بشرط كاشفيتها، وهي بهذا اللحاظ تعد من المعقولات الثانية المنطقية، وهي (كيفية نفسية) على رأي، ولا يهمنا الحديث عنها الآن.
لكن (أُوجست كُنت)[35]، عرف (الحقيقة) بـ(الحقيقة عبارة عن الفكرة التي تتفق عليها جميع الأذهان في زمان واحد).
ثم يقول: (إن الحقيقة ليست سوى ذلك)([36])، وتبعه على ذلك (فيلسين شاله) وآخرون.
ومن الواضح أن هذا التعريف هو تعريف بالأخص جداً، فإن ما تتفق عليه جميع الأذهان في زمان واحد، هو حقيقة([37]) دون شك، لكن الحقيقة لا تنحصر في ذلك أبداً؛ إذ من الواضح أن (كروية الأرض وأنها ليست مسطحة) (حقيقة) بمعنى أنها (الواقع)، بالمعنى الأخص السابق، وبمعنى أنها (الواقع بلحاظ مطابقيته لإدراك ولو شخص واحد أو مخلوق واحد زمناً ما) وعلى حسب عدد من التعاريف الأخرى الآتية للحقيقة؛ ولا يضر بكونها (حقيقة) إنكار غالب أهل الأرض لها، كما لا يضر بكون (النار محرقة) أو (الجاذبية موجودة) إنكار من ينكر، وعلى أي فإن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، لكن يرد عليه قَصْرُ الحقيقة على ذلك وحصرها به.
وأما التزامنا بأنه (ما اتفقت عليه جميع الأذهان، في زمان واحد، فهو حقيقة) فذلك، لحكم الفطرة والوجدان والشرع والعقل، بأنه لا يمكن إتفاق كل الأذهان، بما فيها العالية منها كالأنبياء والرسل، على الباطل، ولأنه مقتضى برهان (اللطف)([38])، وهو ما يرشد إليه مبحث (المستقلات العقلية)([39])، ولأنه مقتضى (الاستقراء) التام، بل يكفي فيه (الاستقراء المعلل)، ولغير ذلك.
وقال (وليم جيمس)[40] مؤسس المدرسة البرغماتية (النفعية) "القول الحق" هو ما له تأثير نافع على الأمر الموجود بالفعل، إذن: القول حق لأن له ثمرة صالحة، لا أن له نتيجة صحيحة لأنه حق).
وقال بعض الفلاسفة أنّ (الحقيقة تعني الفكر الذي تدعمه وتؤيده التجربة)، و(الحقيقة عند البرغماتيين Pragmatist هي الفكرة الناجحة أو النافعة، التي تحققها التجربة، وترتد على صاحبها بالمنفعة).
والظاهر من كلامهم أن معنى الحقيقة هو ذلك تماماً، وأن النسبة هي المساواة بينهما لا أن مطابقة التجربة للفكر دليل على صحته.
وقال بعضهم (الحقيقة تعني الفكرة الناتجة من مواجهة الحواس للمادة الخارجية، ومماسّتها لها، فكل ما ينتج عن هذا التماس فهو حقيقة فهذا الماء بارد وحار معاً، وكلاهما حقيقة؛ لأن الأول وضع يده فيه فوجده بارداً بعد إذ كانت يده في ماء حارٍ، والآخر وجده حاراً بعد أن كانت يده في ماء بارد جداً).
وقال البعض الأخر: (الحقيقة هي الفكر الذي يصل إليه الإنسان عن طريق علمي).
وفسرها البعض: (الحقيقة هي الفكرة التي يذعن بها الذهن بيسر وسهولة).([41])
تقييم موجز لتعريفات النسبية في عالم الحقيقة
ظهر بما سبق أن كل هذه التفسيرات، هي تفسير بالأخص؛ فإن الحقائق لا تنحصر بـ(النافع)، بل تشمل غير النافع، بل والضار أيضاً؛ إذ أليست النار المحرقة حقيقة؟ وهي أعم مما يصل إليه الإنسان عن طريق التجربة أو الطرق العلمية، إذ تشمل ما لم يصل إليه الإنسان أبداً، مما هو متحقق في متن الواقع وإن لم نعلم عنه شيئاً، كما تشمل ما يصل إليه الإنسان عبر الإلهام أو الوحي أو الكشف والشهود، أو ما أشبه ذلك، كما أنها أعم مما ينتج عن مواجهة الحواس للمادة الخارجية، إذ تشمل الحقيقة ما ليس بمادي وليس بحسي، وتشمل ما حصل منها في العقل لا من مواجهة الحواس للمادة الخارجية، وذلك كالمعقولات الثانية المنطقية، والمعقولات الثانية الفلسفية ـ على المشهور ـ بل وبعض المقولات العشر أيضاً، خاصة على التفصيل الذي ذكرناه في موضع آخر حول الوجود الذهني وكيفية حصول المعلومات في الذهن.
هذا إضافة إلى أن هذه التعريفات تعاني من نقاط ضعف أخرى وإشكالات عديدة نشير لبعضها فقط هنا ونترك البقية لثنايا الكتاب.
فمنها:
1: ليست كل فكرة نافعة لصاحبها حقيقةً، بل قد تكون باطلاً وظلماً وعدواناً، أو قد تكون تخيلات وأوهاماً([42]) (هذا إن اعتبر أن الحقيقة هي ما يقابل الباطل والضلال والخطأ أو الأوهام والتخيلات).
2: ليس كل ما اتصف بصفتين متضادتين متصفاً به من جهة واحدة، وليس الموضوع حقيقة واحداً، بل هو في جوهره متعدد، فإن الضدين لا يمكن أن يردا على موضوعٍ واحدٍ أبداً؛ إذ لابد في الوحدة من تحقق الشروط الثمانية([43]) للتناقض.
فمثلاً ليس الماء بارداً وحاراً، من جهة واحدة، ومقيساً إلى أمر واحد، بل درجة حرارة هذا الماء في هذه اللحظة، هي واحدة غير متعددة إنما الموجود ههنا قضيتان: هذا الماء المنسوب للرجل الأول أو ليده اليمنى، أي بهذه الحيثية التقييدية، فإنه (بارد بالنسبة له) وليس بارداً بقول مطلق، وهذا الماء المنسوب للرجل الثاني أو ليده اليسرى فإنه (حار بالنسبة له) وليس حاراً بقول مطلق.
والحاصل أن الضدين (الحرارة والبرودة)، لم يردا على موضوعٍ واحدٍ أبداً، إذ لابد في الوحدة، من تحقق الشروط المذكورة للتناقض.
3و4: لا يشترط في (القول الحق) أن يكون له تأثير، كما لا يشترط فيه أن يكون تأثيره بالفعل، أو أن يكون تأثيره على الموجود بالفعل([44])، بل يكفي التأثير بالقوة القريبة من الفعل أو البعيدة، أو التأثير على الموجود بالقوة.
5: كثيراً ما يصح القول بـ(لأنه حق، كانت له نتيجة صحيحة) بل هي قضية صادقة دوماً بما هي هي، وبنحو المقتضي.
والظاهر أنه لم يميز بين البرهان الإني والبرهان اللمي، إذ في عالم الثبوت فإن كونه حقاً هو علة ثبوت ثمرة ونتيجة صحيحة له، وفي عالم الإثبات فإن وجود الثمرة الصالحة دليل على القول الحق وعلة لانتقال المحقق من هذه الثمرة لسببها (وهو كونه حقاً).
اضف تعليق