يُعد الابتلاء من السُنن الإلهية في حياة البشرية غايتها التمحيص والاختبار لتحقيق المنزلة المطلوبة، ألا وهي "الانسانية"، فعند هذه المرتبة يمكن توقع كل خير من الانسان لانه سيكون صاحب فكر و ارادة وقوة اتخاذ القرار للتنفيذ، وهذه من جملة طموحات الانبياء والمرسلين والمصلحين الذين جاهدوا وضحوا لمساعدة الناس للوصول الى هذه المرتبة.
واذا نقرأ عن ابتلاءات شديدة ومصيرية شهدتها أمم سابقة، كما حصل مع بني اسرائيل باهتزاز عقيدتهم أمام "عجل له خوار"، وما حصل مع اصحاب رسول الله، صلى الله عليه وآله في آخر ليلة من حياة النبي، والتي يسميها عبد الله بن عباس، بـ "رزية الخميس"، وكيف امتنعوا عن تلبية طلب نبيهم بإحضار الدواة والكتف ليكتب اليهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبدا. وايضاً ما نقرأ عن فتنة المصاحف في حرب صفين، وغيرها كثير، فاننا اليوم نعيش ابتلاء لا يقل شدّة وخطورة عن التجارب التي مر بها السابقون.
السبب في ذلك أن التجارب كانت بين المجتمع وقيادته؛ وجهاً لوجه، بينما الوضع في أمر غيبة الامام الثاني عشر، عجل الله فرجه، يختلف تماماً لعدم وجوده مادياً بين الناس، فهو موجود وغير موجود؛ وظاهر وباطن في آن واحد.
في الفترات السابقة من التاريخ، لم يكن الناس؛ سواء في عهد الانبياء، او الأئمة الاطهار، بحاجة الى كثير حجة بالغة للقناعة والايمان، فكل الحجج بالغة، فالمعاجز كانت ظاهرة ومفحمة في عهد الانبياء، كما كان الامام علي والامام الحسين، عليهما السلام، يقدمون كل الأدلة العقلية والنقلية على حقانيتهم، إنما كانت المشكلة في ضعف النفوس والإرادة، أما في الوقت الحاضر، ومنذ غيبته، عجل الله فرجه، لا يتمكن الامام الحجة المنتظر، من إلقاء براهينه وأدلته ويجيب على مئات وآلاف الاسئلة الحائرة لدى ابناء الأمة.
وفي بحث للفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- يشير الى حقيقة رائعة في مقارنته بين الايمان بوجود الإمام الحجة المنتظر، وبين الايمان بمسائل غيبية مثل الجنة والنار والمعاد. فمع وجود كل الدلائل والبراهين العقلية والنقلية على وجود هذه المسائل، نجد هناك المنكرون والمشككون، وهنا تحديداً يكمن الابتلاء العسير، لأن في وقت توافر الأدلة على وجود الله -تعالى- وايضاً الآخرة والثواب والعقاب، فان أمام الانسان ايضاً عامل الغيب، فهو لا يملس شيئاً من كل هذا بحواسه الخمس، وحول هذه النقطة بالذات دارت محاور أفكار البشر منذ القدم، وكانت المادة الأساس لاستنتاجات وتصورات الفلاسفة الذين عاصر بعضهم الانبياء الذين التقى معظمهم عند نقطة واحدة وهي نفي الغيب، وتغليب عامل التفكير القائم على المادة في التوصل الى حقائق الحياة والكون وتفسير الظواهر الطبيعية والانسانية.
نفس المشكلة والأزمة نواجهها اليوم مع من يحاول الالتفاف على قضية الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه- ويروج لافكار خاصة عن سفراء الإمام او نوابه او علامات الظهور وغيرها، فيما يذهب البعض بالتشكيك بوجود الإمام اساساً، وهذا لن يحقق نجاحه إلا عندما يغيب الوعي عن ثقافة الامة ويتراجع البحث العلمي والمطالعة والمتابعة بغية الوصول الى الحقيقة الناصعة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وهذا ما يجعل منزلة المؤمنين في زمن الغيبة أعلى واكبر ممن سبقوهم، ونستدل على ذلك بالاحاديث الواردة عن المعصومين، عليهم السلام، وذكرها الشيخ الصدوق في "كمال الدين وتمام النعمة"، منها: "أن الذي يُؤمن بالإمام المهدي، عجل الله فرجه، في زمان الغيبة ويثبت، له أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحد".
وهل يكون هذا بالهيّن؟
قطعاً كلا، فقد عاش اشخاص بالقرب من الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، وكانوا مؤهلين علمياً، بيد أنهم لم يكونوا كذلك روحياً واخلاقياً، مثل "الشلمغاني" الذي – في كوامن نفسه- بين الايمان بقضية الامام، وبين نزوة نفسية؛ وهي التسيّد والظهور، فكان الاختبار الجديد والأشد بتجاوز اسمه من بين اسماء عديدة للسفارة في الغيبة الصغرى، وترشيخ الحسين بن روح، في قصة مفصلة، فكانت نتيجة الاختبار رهيبة، وهي التخلّي عن الإمام بل والتجنّي عليه!
لنلاحظ أهل العلم والمعرفة كيف يتجردون من كل شيء للتوصل الى حقائق علمية معينة، فهم حتى مستعدون للتخلّي او تأجيل الامور المعنوية والعقائدية والاجتماعية وغيرها لضمان الوصول الى النتائج المرجوة، فاذا كانت بعض العلوم الطبيعية والانسانية التي يدرسها الدارسون، بهذا القدر من الاهمية، وهي تخصّ مجموعة من الناس، مثل الطب والهندسة والبيئة والفلك وغيرها، فان البحث عن أمر الامام المهدي المنتظر، الذي يتعلق بمصير البشرية والاجيال كافة، يستحق التخلّي عن جميع المتعلقات الدنيوية والذاتية والتجرّد للحقيقة المحض، وهي ذاتها الغربلة التي تحدث عنها الأئمة المعصومون، عليهم السلام، في احاديثهم عن ساعة الظهور وخروج القائم.
اضف تعليق