في عالم ناشئ متعدد الأقطاب، يعمل التحول الرقمي على تمكين الاقتصادات من تطوير آليات دفع بديلة. مؤخرا، أقَـرّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بأن مجموعة صغيرة من البلدان لديها حصة متناقصة من الدولار في الاحتياطيات الرسمية"، في حين تعمل حفنة من البنوك المركزية على زيادة مشترياتها من الذهب...
بقلم: هيبوليت فوفاك

واشنطن، العاصمة- كان قسم كبير من التقارير المنشورة في وقت سابق من هذا الشهر حول "عدم تجديد" "اتفاقية البترودولار" التي دامت عقودا من الزمن بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة عامرا بالمغالطات وأنصاف الحقائق. حتى أن بعض المنافذ ذهبت إلى حد الزعم بأن المملكة العربية السعودية "ستتوقف عن استخدام الدولار الأميركي في مبيعات النفط". ولكن على الرغم من هذه الأخطاء، وبرغم أن الدولار لا يزال مهيمنا، فإن الزخم نحو إزاحة الدولار يتزايد، مما يعكس تحولات جيوسياسية واسعة النطاق وأخرى مرتبطة بالاقتصاد الكلي.

نشأ نظام البترودولار (دولارات النفط) ــ والذي بموجبه يُـسَـعَّـر النفط بالدولار وتستثمر البلدان الـمُـصَـدِّرة للنفط العائدات الفائضة في أصول مقومة بالدولار ــ في منتصف سبعينيات القرن العشرين، بعد أن أنهى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وقد ساعد هذا في تسهيل الانتقال إلى نظام ما بعد بريتون وودز لأسعار الصرف الـمُـعَـوَّمة. لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن هذا النظام عمل على ترسيخ مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية ووفر للأميركيين عقودا من الرخاء، فاستفادوا من امتلاكهم السوق المفضلة للشركات العالمية في سياق الطلب العالمي المتزايد على الدولار وتدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة.

تمتد جذور هذا الترتيب إلى صفقة سرية أبرمت عام 1974 بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة: والتي بموجبها كان لزاما على السعوديين أن يعيدوا تدوير دولاراتهم النفطية في سندات الخزانة الأميركية في مقابل ضمان أمني أميركي، فنشأ بالتالي تحالف استراتيجي شَـكَّـلَ السياسة العالمية لعقود من الزمن. بحلول العام التالي، وافقت جميع بلدان منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) على تسعير النفط بالدولار والاستثمار في ديون الحكومة الأميركية، الأمر الذي سمح للبنوك الأميركية بتمديد القروض إلى بلدان في الجنوب العالمي وسط تحرير الأسواق المالية من القيود التنظيمية على نحو متزايد.

مع تحول النفط إلى المورد الحاسم لتمكين النمو الاقتصادي، والتحول إلى التصنيع، والتقدم التكنولوجي، أصبحت البلدان المستوردة للنفط في احتياج إلى الدولارات لدفع ثمن احتياجاتها من الطاقة. في الوقت ذاته، أدت الطفرة السكانية العالمية إلى زيادة الطلب على السلع المصنعة والنفط، فازدادت مكانة الدولار قوة. وبحلول عام 2000، كان أكثر من 70% من كل احتياطيات النقد الأجنبي في هيئة دولارات، فهيمن الدولار على التجارة الدولية (حيث شجع إصدار الفواتير بالدولار المصدرين على اقتراض الدولارات للتحوط وشجع المستوردين على اقتراض الدولارات لتكوين رأس المال العامل) حتى مع تآكل حصة أميركا في هذه الهيمنة بفعل انطلاقة الاقتصادات الآسيوية التي تحولت إلى الصناعة.

ورغم أن هيمنة الدولار لم تَـسـلَـم من التحديات ــ وأبرزها إضفاء الطابع المالي على الاقتصاد الأميركي والانحدار الحاد في التصنيع المحلي ــ فإن الفوائد التي عادت على أميركا كانت هائلة. وساعد تدفق رأس المال الأجنبي إلى سندات الخزانة الأميركية في إدامة أسعار الفائدة المنخفضة وتعزيز قوة سوق السندات، فتحولت مؤسسات وال ستريت إلى المركز المالي الأبرز في العالَـم. اليوم، أصبح نحو 70% من الديون بالعملات الأجنبية مقومة بالدولار. علاوة على ذلك، كان إصدار العملة الاحتياطية العالمية يعني أن الولايات المتحدة لم تعد مضطرة إلى القلق بشأن العجز التجاري، الأمر الذي سمح لاقتصادها "بالعطاء دون أخذ، والإقراض دون اقتراض، والشراء دون دفع"، على حد تعبير رجل الاقتصاد الفرنسي جاك روف.

ولكن في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، ظهرت تحركات نحو إزاحة الدولار. فقد زادت البنوك المركزية مشترياتها من الذهب أكثر من الضعف بين عامي 2021 و2022، وحافظت على مستوى مماثل في عام 2023. على ذات القدر من الأهمية، أصبحت تسوية العملات المحلية للتجارة الثنائية أكثر شيوعا. في عام 2023، سددت الهند أول دفعة لها على الإطلاق بالروبية مقابل النفط الخام من الإمارات العربية المتحدة، واستخدمت الصين الرنمينبي لتسوية ما يقرب من نصف تجارتها واستثماراتها عبر الحدود، مستفيدة من نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود واتفاقيات مقايضة العملات التي وقعها بنك الشعب الصيني مع أكثر من 40 بنكا مركزيا.

من الممكن أن يُعزى التحول بعيدا عن البترودولار إلى عدة عوامل. فقبل عام 2000، كانت الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري على مستوى العالم لأكثر من 80% من دول العالم، بينما انخفض هذا الرقم الآن إلى أقل من 30%، وتولت الصين إلى حد كبير الدور الذي كانت أميركا تضطلع به في السابق. كما تغير مشهد الطاقة العالمي بدرجة كبيرة. كانت الولايات المتحدة تعتمد بشدة على المملكة العربية السعودية في الحصول على النفط، لكن طفرة النفط الصخري في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وضعت أميركا على المسار إلى الاستقلال في مجال الطاقة. والآن أصبحت الصين المستورد الرئيسي للنفط السعودي، وإن كانت بلدان عديدة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ذاتها، تحتضن مصادر الطاقة المتجددة لتسريع التحول الأخضر.

يعمل صعود الجنوب العالمي، بفضل زيادة انتشار التكنولوجيا وعولمة سلاسل القيمة، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، على دفع العالم نحو نظام متعدد الأقطاب، في حين سلط الاستخدام المكثف للعقوبات من جانب أمريكا الضوء على المخاطر السياسية والمالية المترتبة على الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية ووسيلة للتبادل ووحدة حسابية. 

ويُنظر إلى إزاحة الدولار على نحو متزايد على أنها أفضل طريقة للتخفيف من هذه المخاطر وتعزيز النمو. نتيجة لهذا، تعمل البلدان على تنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي: في عام 2022، انخفضت حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية بمعدل أسرع بعشر مرات مقارنة بما كانت عليه الحال خلال العقدين السابقين، إلى 58% بعد 73% في عام 2001.

في الوقت ذاته، عمل التحول الرقمي على تسهيل استخدام نظام LCS للتجارة والمدفوعات عبر الحدود، الأمر الذي سمح بتجاوز القيود المرتبطة بتمويل الدولار وتعزيز المرونة المالية. على سبيل المثال، طبقت البنوك المركزية في إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند مؤخرا نظاما قائما على رمز الاستجابة السريعة (QR code) يسمح للمقيمين بإجراء مدفوعات رقمية عبر الحدود دون استخدام عملة ناقلة.

إن تسارع إزاحة الدولار أمر لا يمكن إنكاره. فقد وجد صندوق النقد الدولي أن متوسط استخدام الرنمينبي في المدفوعات عبر الحدود مع الصين في 125 اقتصادا، ارتفع من صفر% في عام 2014 إلى 20% في عام 2021؛ وفي ربع هذه الاقتصادات، ارتفع استخدام الرنمينبي إلى 70%. وكان التحول بعيدا عن البترودولار عاملا مهما. في عام 2023، استُـخـدِمَـت عملات غير الدولار في تسوية خُـمْـس تجارة النفط العالمية. كما أدت العلاقات المتعمقة بين المملكة العربية السعودية والصين في مجال الطاقة إلى إبرام عقود نفط طويلة الأجل مقومة بالرنمينبي ("البترو يوان").

في عالم ناشئ متعدد الأقطاب، يعمل التحول الرقمي على تمكين الاقتصادات من تطوير آليات دفع بديلة. مؤخرا، أقَـرّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بأن مجموعة صغيرة من البلدان لديها "حصة متناقصة من الدولار في الاحتياطيات الرسمية"، في حين تعمل حفنة من البنوك المركزية على زيادة مشترياتها من الذهب.

مع تآكل الثقة على نحو مستمر بفعل المخاطر الجيوسياسية، ستستمر هذه الأرقام في الارتفاع. وسوف يكون الاعتماد على التحول الرقمي لإنشاء إطار تعددي لتسوية المعاملات عبر الحدود بالعملات المحلية أمرا بالغ الأهمية لتجنب تفتت نظام المدفوعات العالمي في عالم متعدد الأقطاب، والذي سيكون باهظ التكلفة.

* هيبوليت فوفاك، كبير الاقتصاديين السابق ومدير الأبحاث في بنك التصدير والاستيراد الأفريقي، وزميل باركر في شبكة التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، وزميل باحث في مركز الدراسات الأفريقية بجامعة هارفارد، وزميل متميز في الاتحاد العالمي لمجالس التنافسية، وزميل في الأكاديمية الأفريقية للعلوم.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق