فطرية التدين والاعتقاد بالله تعتبر من الأدلة القوية على وجود الله غير أن هناك فرقاً بين دلالة الفطرة على وجود الله ودلالة البرهان العقلي على وجوده، فمما ذكرناه في معنى الفطرة، وان التدين والايمان الفطري يعني انجذاب الانسان بحكم فطرته الى الله، واقبال روحه عليه بشكل ذاتي وطبيعي...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
بعد أن وقفنا على بعض الأدلة التاريخية والنفسية على فطرية الايمان بالله حان لنا ان نقف على النصوص الاسلامية التي تدل على هذه الحقيقة ايضا، وهي كثيرة نكتفي بذكر نماذج منها هنا:
القران الكريم وفطرية التدين:
هناك آيات كثيرة في القران الكريم تدل على فطرية الايمان بالله وتجذر الاعتقاد بوجود الله في اعماق النفس البشرية ولكن اكثر هذه الايات صراحة في هذا المجال هو قوله تعالی:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الروم ـ الاية 3۰)
فهذه الآية ظاهرة ظهورا قویا في فطرية الاعتقاد بالله واليك توضيحها اجمالا:
«فاقم وجهك للدين حنيفا» الحنف هو الاستقامة والحنيف هو المستقيم ولفظة حنيفا» اما حال لضمير «أقم» فيكون معناه اقم في حال كونك مستقيما، أو حال «للدين» فيكون معناه للدين في حال كونه مستقيما، وعلى كل تقدير فمعنى قوله «اقم وجهك للدين حنيفا» اي اتجه صوب الدين اتجاها مستقیما لا مائلا الى اليمين ولا الى الشمال، او اتجه الى الدين المستقيم الذي ليس فيه ميل الى احد الجانبين.
ثم انه سبحانه يفسر «الدين» الذي يجب التوجه اليه بقوله: «فطرت الله التي فطر الناس عليها» والفطرة بمعنى الخلقة (1) بقرينة قوله ـ سبحانه «لا تبديل لخلق الله» وتشير الجملة إلى أن ذلك الذي يجب التوجه اليه هو مما جبل الانسان عليه فاصغاؤه لدعوة الدين انما هو في الحقيقة اصغاء لنداء الفطرة غيرناه عنه ولا منكر له، ومن انحرف عن ذلك فانما هو بالاغواء.
ومنه قوله (ص): «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وامروهم أن يشركوا بي غیري».
واما قوله: «لا تبديل لخلق الله» فيعني لا تتبدل تلك الفطرة ولا تتغير، «ذلك الدين القيم» أي الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه «ولكن اكثر الناس لا يعلمون». (2)
فالآية اذن بظاهرها تفيد بان قضايا الدين وفي رأسها الاعتقاد بالله وتنزيهه عن الشريك مما فطر الانسان عليه، وان جبلته مزيجة بمثل هذا الاعتقاد ومثل هذا الايمان.
ويؤيد ذلك ما ورد في كتب الفريقين من احاديث في تفسير هذه الآية وما ورد فيها من كلمة الفطرة، واليك بعض هذه الأحاديث:
١ ـ عن زرارة عن الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام حينما سأله عن معنی قول الله عز وجل في كتابه «فطرت الله التي فطر الناس عليها» قال مجيبا: «فطرهم على التوحيد...» (3).
2 ـ عن عبد الله بن سنان عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ـ لما سأله عن قول الله عز وجل «فطرة الله التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة فقال: «هي الاسلام، فطرهم الله حين اخذ ميثاقهم على التوحيد» (4).
٣ ـ لما سأل هشام بن سالم الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن معنی الفطرة في هذه الاية قال: «فطرهم على التوحيد» (5).
4 ـ في صحيح البخاري في تفسير هذه الآية: عن النبي (ص) ـ «ما من مولود الا يولد على الفطرة ثم ابواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» ثم قال (ص) «فطرة الله التي فطر الناس عليها» (6) وهو حديث مروي عند الفريقين.
وقد كشف حديث آخر ـ وبصراحة عن ان الميل الى الله والاعتقاد بوجوده والانجذاب نحوه شيء طبيعي في كل انسان، وليس للانسان نفسه او غيره اي اثر في تكوينه، وايجاده، وذلك عندما سئل الامام جعفر بن محمد الصادق عن المعرفة (ای معرفة الله) صنع من هي؟
قال ـ عليه السلام ـ: «من صنع الله عز وجل ليس للعباد فيها صنع» (7).
وعن الامام الصادق عليه السلام ـ أيضاً قال:
«ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع (أي اختیار): المعرفة...» (8).
وعن أبي بصير أنه سئل الامام الصادق عن المعرفة أهي مكتسبة؟ فقال: لا. فقيل له: فمن صنع الله عز وجل ومن عطائه هي؟ قال نعم، وليس للعباد فيها صنع. (9).
وبعض هذه الأحاديث وان كانت تدل بالدلالة المطابقية على ان توحید الله وتنزيهه عن الشريك أمر فطري، ولكنها تدل بالدلالة الضمنية على ان الاعتقاد بوجوده فطري كذلك أيضاً اذ لا يمكن وصفه بالوحدانية الا بعد الاذعان فطرياً بوجوده، فالاعتراف بتوحيده انما هو في الحقيقة بعد الفراغ من الاذعان باصل وجوده.
2 ـ قوله تعالی: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ (الروم ـ 33)
ان هذه الآية التي جاءت بعد آية الفطرة ـ التي سبق أن ذكرناها ـ ونظائرها تشير بوضوح إلى أن الاعتقاد بوجود الله مغروس في فطرة الناس، فهم ينبیون اليه عند الشدائد ويستغيثون به ويطلبون منه العون والنجاة (10).
ولا يتوهم أن الشدائد والنوائب هي التي تدفع بالانسان الى أن يتصور إلها منقذاً فيلجأ اليه ويلوذ به وكأن الاعتقاد بوجود الله وليد المصائب، كلا بل لأن الشدائد توقظ الفطرة وتعيد الانسان اليها وتزيح ماران عليها من غبار الغفلة والنسيان فيسمع الانسان نداءها، ويصدق بوحيها..
أجل انها العودة الى الفطرة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: «منيبین اليه» فمثل الانسان الغارق في اللذائذ والشهوات التي ربما تغطي على الفطرة وتوجب خفاءها، والغفلة عنها، مثل الصبي المتعلق بأمه فطرياً ولكنه قد ينساها أحياناً اذا غرق في اللعب، فاذا أصابته جراحة اندفع الى امه وأناب اليها واستغاث بها بوحي فطرته.
الأحاديث وفطرية الايمان بالله:
من تتبع الاحادیث وسبرها وجد احاديث كثيرة تدل على فطرية التدين، ووجود الايمان بالله في اعماق النفس البشرية منذ ان يوجد الانسان ويولد، واليك بعضها:
١ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «كل مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة بأن عز وجل خالقه» (11).
وقد جاء المقطع الأول من هذا الحديث في النهاية لابن الأثير واوضحه بقوله: المعنى انه يولد على الجبلة والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها الى غيرها وانما يعدل عنه من يعدل لانه من آفات البشر والتقليد، وقيل معناه كل مولود يولد على معرفة الله والاقرار به فلا تجد أحداً الا وهو يقر بأن له صانعاً، وان سمّاه بغير اسمه أو عبد معه غيره (12).
2 ـ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ـ في نهج البلاغة: «فبعث الله فيهم رسله وواتر اليهم أنبياءه لیستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمة» (13).
فقوله ـ عليه السلام ـ: «واتر اليهم رسله» أي ارسلهم واحداً بعد واحد، وان كان بين نبي وآخر فترة.
وقوله ـ عليه السلام ـ: «ليستأدوهم میثاق فطرته» أي ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم وما تسوقهم اليه غرائزهم وجبلتهم.
وقوله ـ عليه السلام ـ: «ويذكروهم منسي نعمته» اشارة الى ان الدين هي النعمة العظمى وهي أمر يعرفه الانسان بفطرته النقية، ولكنه ربما ينساها ويغفل عنها بسبب سيطرة الشهوات والوساوس، فيبعث الله الانبياء ليذكروا الانسان بما نسبه وما أودع في فطرته.
ان في هذه الكلمات دلالة واضحة على أن الاعتقاد بالله، والايمان بوجوده مما أودع في جبلة الإنسان، ولأجل ذلك أخذ منه الميثاق بالعمل على طبق فطرته، وبعث الأنبياء ليذكروه بهذه الحقيقة كلما طرأ عليه النسيان.
٣ ـ ما دار بين الامام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ ورجل: قال الرجل: يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني.
قال الامام: یا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم.
قال ـ عليه السلام ـ هل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال نعم.
قال ـ عليه السلام ـ فهل تعلق قلبك هناك أن شيئاً من الاشياء قادر على ان يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم.
فقال الامام ـ عليه السلام ـ فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي وعلى الاغاثة حيث لا مغيث (14).
4 ـ قال الامام الحسن العسكري «الله هو الذي يتأله اليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من كل من دونه» (15).
5 ـ قال الامام محمد الباقر في معنى قوله تعالى: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّـهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ﴾: «هي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله... فطرهم على معرفته» (16).
6 ـ وعندما سئل عليه السلام عن نفس الآية أيضاً قال: «فطرهم على معرفة انه ربهم» (17).
هذه الآيات والروايات وغيرها تشير الى كون الاعتقاد بالله ومعرفته والانجذاب إليه مسألة فطرية، وأمراً جبلياً من شأنه أن ينتهي الى الايمان اليقيني الواضح والعقيدة القوية الراسخة اذا تركت وشأنها أو اذا حظيت بالعناية والرعاية والارشاد والتوجيه.
نقاط مهمة على هامش بحث الفطرة
اذا وقفت على فطرية التدين، وتأييد القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية لذلك يجب أن ننبه الى عدة نقاط هي:
الأولى: أن قولنا: «التدين أو الدين أمر فطري» له معنيان:
1 ـ أن الاعتقاد بالله الواحد أمر جبلي وفطري، وهذا هو الذي سقنا الكلام لأجله في هذا البحث.
2 ـ ان ما جاءت به الشرائع الالهية من اصول الأوامر والنواهي، والقوانين الاجتماعية والأخلاقية، والاقتصادية والسياسية أمور فطرية وذلك مثل اقامة العدل والقسط، والاحسان إلى الاخرين والتعاون معهم والاجتناب عن الظلم والجور والاذى، واكرام الوالدين والعطف عليها والامر بالتوطن والتمدن والعمران والنهي عن الرهبانية والعزلة والتغرب، والدعوة الى السعي والعمل، وترك البطالة والكسل، واقرار الأمن والاستقرار، والأمر بالدفاع عن النفس والمال والأهل، واكل الطيبات والنهي عن تناول الخبائث وأكل الميتة والخمر، والدعوة الى الزواج والنهي عن العزوبة، والنهي عن الزواج ببعض المحارم وغيرها.
فان هذه الأمور مما تقتضيها الفطرة البشرية السليمة السوية وتوافق عليها الجبلة الانسانية حيث تميل بطبعها الى خيرها، وتنفر عن شرها.
ولكن هذا البحث غير مطروح هنا، وقد يبحث في مباحث النبوة.
الثانية: أن فطرية التدين والاعتقاد بالله تعتبر من الأدلة القوية على وجود الله سبحانه غير أن هناك فرقاً بين دلالة الفطرة على وجود الله ودلالة البرهان العقلي على وجوده سبحانه، فمما ذكرناه في معنى الفطرة، وان التدين والايمان الفطري يعني انجذاب الانسان بحكم فطرته الى الله، واقبال روحه عليه سبحانه بشكل ذاتي وطبيعي، اتضح أن ذلك ليس وليد البرهنة والاستدلال، بل هو أمر «وجداني» يجده كل انسان اذا توجه الى فطرته السليمة والتفت الى ما يحسه من الانجذاب الروحي ـ في نفسه ـ إلى الله وبهذا لا يكون دليل الفطرة مما يمكن تجسيده للآخرين ولا اقامته للطرف الاخر، لكونه احساساً شخصياً.
وهذا بخلاف الاعتقاد بالله عن طريق الاستدلال العقلي فانه وليد البرهنة والتفكر واقامة الصغرى والكبرى بحيث لولا هذه المقدمات لما حصل الاعتقاد ولهذا يمكن اقامته للآخرين كما ستعرف.
الثالثة: أن غاية ما تثبته الفطرة البشرية هو أصل وجود الله دون بقية الأمور الاعتقادية مما تتصل بصفات الله الجلالية والجمالية فذلك كله لا يعرف الا من طريق العقل والنظر، فان الفطرة لا تثبت الا ان هناك «قوة عليا» هي فوق كل قوة، وهي القادرة على اعانته، واغاثته، وجبر ضعفه، وان هناك صاحبا له يلوذ به عند الشدائد، والنوائب، ويلجأ اليه عند المصائب.
كما أن الفطرة ربما تثبت وحدانية الله أيضاً، وهذا هو كل ما تثبته لا أكثر.
ملخص ما سبق
تلخص من البحث السابق أمور:
1 ـ أن معرفة الله والانجذاب اليه مسألة فطرية.
2 ـ ان الفرق بين الامر الفطري والأمر غير الفطري، هو: أن الأمر الفطري هو ما يميل اليه الانسان بدافع من طبيعته وذاته دون أن يكون مفروضاً عليه من الخارج، بعكس الأمر العادي، والأول مثل الميل إلى الأكل والجنس والنوم والثاني مثل كيفيات الملبس والمسكن والزينة.
٣ ـ ولذلك فان من علائم الأمر الفطري، ظهوره لدى الانسان ظهوراً تلقائياً وبدون معلم أو ملقن، وعدم تأثره بالعوامل الخارجية الجغرافية ولا بالدعاية المضادة وجوداً وعدماً، ووجوده في جميع أدوار التاريخ، وفي جميع مناطق العالم على السواء.
4 ـ والتدين مما تنطبق عليه جميع هذه الأوصاف والعلائم فهو موجود في عمق الزمن والتاريخ وفي كل بقاع العالم وهو يظهر لدى كل أحد ويتجلى خاصة عند البلوغ، ولا ينعدم بتغير المناخات الطبيعية أو الضغوط السياسية والاعلامية كما في البلاد الشيوعية.
٥ ـ ان نظرية البعد الرابع للروح الإنسانية مما تؤيد فطرية التدين وتؤكد اصالته في وجود الانسان.
6 ـ القرآن الكريم والأحاديث الشريف تؤيد وتؤكد بل وتنص على فطرية الاعتقاد بالله عند البشر.
7 ـ قولنا «التدين أو الدين أمر فطري» يعني أن أصول التعاليم الالهيّة والشرائع الدعوة الى العدل والقسط والتعاون وما شاكل ذلك أمور فطرية، ويعني أيضاً أن الاعتقاد بوجود «قوة عليا» خالقة لهذا الكون مما تقتضيه جبلة الانسان.
8 ـ الايمان الفطري بوجود الله لا ينفع الا صاحبها لأنه أمر وجداني لا يحس به الا صاحبه، ولا يمكن نقله الى الاخرين، نعم يمكن تذكير الاخرين بفطرتهم ليسمعوا نداءها، بخلاف الأدلة العقلية، على وجود الله والايمان عن طريق الاستدلال العقلي.
9 ـ الفطرة تدل الانسان على وجود الله بدون توسيط شيء بخلاف معرفة الله بالعقل فانه لابد من توسيط المقدمات.
1۰ ـ غاية ما تثبته الفطرة البشرية هي وجود الله وتوحيده فحسب، فلا يتوقع اثبات الأمور الاعتقادية الأخرى كالصفات الالهية وما شابه ذلك بها.
اضف تعليق