بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
(2)
دروس في أصول العقائد
قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: ((تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِي اللَّهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي اللَّهِ لَا يَزْدَادُ صَاحِبَهُ إِلَّا تَحَيُّراً))([1]) وذلك ما يؤكد الأصل الخامس السابق والأصل السادس الآتي.
مجالات القوى ومساحات كل قوة
الأصل السادس: إن لكل قوة من القوى ولكل طريق من طرق المعرفة مجالاً معيناً ومساحة محددة لا يصح لها أن تتجاوزها، فإذا تجاوزتها وقع الإنسان في الخطأ والخطل وضل في صحاري التيه الأعظم.
فلو أن العقل اقتحم مجالات العلم غير متسلح بسلاح التجربة والحواس مثلاً، فإنه لا يُؤمَن خطؤه بل يكون على شفا حفرة هار تنهار به في وادي الجهل والضلال.
كما أنه لو أراد المرء أن يدرك المعقولات بالحواس، لعجز وحار وضل وتاه.
وكذلك لو أراد أن يدرك ما في عالم الغيب بأدوات عالم الشهود أو العكس.
ومما يشهد لذلك: أنه كما لا يمكن أن يدرك الإنسان المسموعات بقوة الإبصار أو المبصرات بالقوة الذائقة؛ لأن كل حاسة مجالاً ومدرَكاً كذلك لا يمكنه إدراك المعقولات بالحواس أو أكثر الغيبيات بالعقل أو الفطريات بالتجربة أو شبه ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك ما قاله جمع من الفلاسفة من أن الله تعالى (مبتهج بالذات) فإن هذا الوصف له تعالى مع قطع النظر عن مناقشته في حد ذاته، يشكل خطأ منهجياً، فإن الله تعالى فوق أن يدرك ويوصف وهو غيب الغيوب، ولا تُدرك صفاته إلا بالوحي، بمعنى أنه لا يدرك العقل إلا أصل التحقق والإنية في بعضها فقط (كالعلم والحياة والقدرة) دون أن يكون قادراً على إدراك الحقيقة والماهية أبداً، وما وَصْفه تعالى بالابتهاج بالذات إلا قياس له تعالى على النفس تعالى عما يقول الواصفون علواً كبيراً.
وقد سبق كلام الإمام الرضا عليه السلام: ((...وَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَنَّى يُوصَفُ الَّذِي تَعْجِزُ الْحَوَاسُّ أَنْ تُدْرِكَهُ وَالْأَوْهَامُ أَنْ تَنَالَهُ وَالْخَطَرَاتُ أَنْ تَحُدَّهُ وَالْأَبْصَارُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ جَلَّ عَمَّا وَصَفَهُ الْوَاصِفُونَ وَتَعَالَى عَمَّا يَنْعَتُهُ النَّاعِتُون...)).([2])
حدود القوى ومدياتها طاقتها
الأصل السابع: إن كل قوة من تلك القوى لها حدود حتى في مجال اختصاصها وفي متعلقاتها؛ ألا ترى (البدن) قادراً على حمل الأثقال، ولكن إلى حد معين؟
وألا ترى (البصر) قادراً على الإبصار ولكن إلى مسافة معينة؟
وألا ترى (التجربة) محدودة بحدود الإمكانات والقدرات وغيرها؟
فكذلك العقل فإن مساحته المعقولات، ولكن هناك لقدرته على التحليق فيها حدود؛ ألا ترى العقول متفاوتة في القوة والضعف والكمال والنقص؟، وألا ترى ذا العقل الأقوى يدرك من المعقولات ما لا يدركه ذو العقل الأضعف بمراتب ودرجات؟
فكذلك عالم المعقولات الواسع، فإن أقوى عقل بشري لا يمكنه أن ينال كافة ما في عالم المعقولات، إلا بإلهام من الله ووحي، كما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله ثم أورث علومه كافة للأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وقد ألهمهم الله تعالى 72 حرفاً من الإسم الأعظم واستأثر بالاسم الثالث والسبعين لنفسه إذ لا يمكن ـ إمكاناً ذاتياً ـ للممكن أن يناله ولو كان من الممكن ذلك لمنحهم إياه لكونهم أفضل خلائقه على الإطلاق.
أخطاء منهجية
الأصل الثامن: يتفرع على ذلك كله([3]) إن هنالك أخطاء منهجية كبيرة جداً:
الأول: أن يسعى العالم أو المفكر لإدراك الحسي بالعقل فإنه يخطئ، وقد أخطأ أعاظم الفلاسفة على مر التاريخ عندما أرادوا أن يدركوا أبعاد الأفلاك والكواكب والنجوم، بقوة العقل، مع أنها لا تُدَرك إلا بالحس والعلم، فذهب الكثير منهم في بحث (الطبيعيات) إلى ما يُذهل من الأخطاء كقولهم بأن الأفلاك تسعة، وأنها كأقشار البصل، وأنه يستحيل الخرق والإلتيام فلا يمكن اختراق الفضاء الرحب! وأن الأرض هي مركز المنظومة الشمسية، وأنها مسطحة إلى غير ذلك.
الثاني: أن يسعى العالم أو المفكر لإدراك العقلي بالحسي.
وهل يعقل أن تُدرَك استحالة الدور بالحس؟ أو استحالة التسلسل أو استحالة جمع النقيضين بالحواس؟
إن المستحيل غير موجود بل يستحيل وجوده فكيف تلمسه أو تراه أو تسمعه لكي تصفه أو تحكم عليه؟
والدور ـ وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه ـ يدرك العقل استحالته، لكن هل يعقل أن يدركه الإنسان بالحواس أولاً، ثم يحكم باستحالته؟ ثم هل الاستحالة مما يمكن الإحساس بها؟
الـمُثُل النورية الافلاطونية:
الثالث: ان يسعى العالم أو المفكر لادراك أكثر ما في ما عالم الغيب – وجوداً أو عدماً – بالعقل المجرد.
وقد أخطأ أفلاطون (428-348 ق.م) - وهو أستاذ أرسطو، وتلميذ لسقراط - حينما قال بالـمُثُل النورية أو الأفلاطونية استناداً إلى أدلة عقلية وجدها واتباعه كافية للدلالة على ذلك.
وقد وافقه على ذلك الاشراقيون فيما خالفه المشائيون.
بل وفسر بعضهم – كابن سينا – مرادهم بغير ظاهر ما التزموه وبغير ظاهر ما نسب إلى أفلاطون.
قال أفلاطون: إن لكل موجود جوهري ولكل نوع من الأنواع رباً له هو المسمى رب النوع أو المثل النورية أو الأفلاطونية: فللإنسان صورة مجردة أو رب نوع في عالم الإله! وللبقر رب في عالم الإله! وللدجاج كذلك رب!، ولكل حيوان بل ولكل نبات رب مجرد في عالم الإله!، وأضاف الاشراقيون أن للأفلاك رباً – لأنهم كانوا يرون لها حياة ونفساً!- وقد استدلوا على ذلك بوجوه غريبة!([4]).
وهذا الرب هو مجرد عن المادة والمدة، ولا يتغير ولا يندثر وهو أبدي سرمدي، وهو المربي والموجه لأفراد ذلك النوع!، فكل شخص وكل فيل أو دجاجة مثلاً له رب نوعي مثالي في عالم أعلى يتعهده بالتربية والتزكية!
والحاصل: انه يرى إنّ كلَّ نوع ذي أفراد طبيعية كونيّة، له فرد مجرد تام، يضطلع بمهمة تربية تلك الأفراد ورعايتها وإبلاغها إلى الكمال، وهو باق ولا يندثر ولا يفسد ولا يتغير!.
وهذا الفرد المجرد يسمونه بالموجود المثالي وربُ النوع، وذلك لأن وجوده أمثل وأكمل من الموجودات المادية.
أقول: وهذا الكلام لا يعدو كونه كلاماً شعرياً أشبه بقصص الخيال العلمي ولا يسنده دليل ولا برهان، بل البراهين على عكسه واضحة جلية وسيأتي الكلام عن ذلك لاحقاً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
* للمزيد من المعلومات:
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/writer10-
....................................
([1]) الكافي: ج1 باب النهي عن الكلام في الكيفية ص92 ح1.
([2]) الكافي: ج1 باب جوامع التوحيد ح3 ص138.
([3]) أي على الأصل الخامس والسادس والسابع.
([4]) لاحظ الأسفار ج2 ص53-62.
اضف تعليق