الفكر البشري اصطدم بموجات تشكيكية زعزعت الثقة في ما ينتجه العقل من معرفة، فقد ابتلى الفكر بنزعات مثالية حاولت إما التشكّيك في الوجود الخارجي وإما في إمكانية الوصول إليه وإدراكه وفهمه. فهناك اتجاهات أقرب إلى السفسطائية أنكرت من الأساس الوجود الخارجي، حاولت زعزعت أي قيمة للمعرفة...
مقدمة بقلم: الشيخ معتصم سيد احمد
الظاهرة الفلسفية التي تصنف ضمن النسق الفكري الإنساني، لا تقيّم فقط ضمن الإبداع الفكري، ولا باعتبارها مجرد إرث أوجده العقل البشري بعد طول عناء وتأمل، كما لا يمكن وصفها برؤية إيجابية مطلقة تتجاوز قصور التجربة، ولا سلبية بحيث لا ترى كل الخبرات المتراكمة التي ساهمت في تفعيل العقل الإنساني؛ وإنما لا بد من حصرها وتحديدها ضمن مسارات محددة لا تتجاوز المحظور العقلي ولا تتوهم الحقائق، فلكي يكون العقل البشري مبدعاً يجوب آفاق الحقيقة لا بد أن يتحرك ضمن حدود تفصله عن الوهم والاستغراق في الجهل.
والتميّز الذي يحققه الإنسان ويجعله كائناً متفرداً، إنما لكونه صاحب علقة معرفية تؤسس لعملية الفهم التي تربطه بالآخر، فالمعرفة والإدراك والفهم هي من لوازم الإنسان العاقل، والتخلي أو التشكيك في القدرة المعرفية لدى الإنسان، هو تخلي أو تشكيك في حقيقة الإنسان العاقل، وهي النقطة التي تنعدم فيها المسافة الفاصلة بين الإنسان وبقية الكائنات، وبرغم الوضوح الذي تتمتع به هذه الحقيقة إلا أن الفكر البشري اصطدم بموجات تشكيكية زعزعت الثقة في ما ينتجه العقل من معرفة، فقد ابتلى الفكر بنزعات مثالية حاولت إما التشكّيك في الوجود الخارجي وإما في إمكانية الوصول إليه وإدراكه وفهمه.
فهناك اتجاهات أقرب إلى السفسطائية أنكرت من الأساس الوجود الخارجي، حاولت زعزعة أي قيمة للمعرفة. وقد ظلت آثار تلك النظرة السفسطائية في اتجاهات اعترفت بوجود واقع خلف الشعور، ولكنها شككت في قيمة المعرفة، التي تثبت ذلك كما هو حال المثالية الذاتية عند(باركلي 1685 - 753) [1].
وقد ساهم كانط [2] بمثاليته النقدية في فتح الباب واسعاً أمام النسبية المعرفية، عندما فرق بين الشيء لذاته والشيء لأجلي، وحدد بذلك نصيب الإنسان من المعرفة، بحيث لا يمكنه الحكم بأن ما يتصوره عن الخارج، هو نفس الموجود بالخارج أو الشيء في ذاته، وكل ما يمكن أن يُّدرك نسبي لا يتعدى رمزاً يشير إلى كلِّي الحقيقة، فلم يكن الشيء في ذاته أو الشيء كما هو ذو قيمة بعيداً عن انطباعات النفس المدرِكة لذلك الشيء، ولولا تلك العلاقة التي تفرضها الذات المدرِكة لما كان يحمل الشيء في ذاته أي تصور معرفي، هذا هو حاصل التفريق الذي قام به كانط بين الشيء لذاته والشيء بالنسبة لنا، حيث جعل المعرفة البشرية نتاج علاقة تفاعلية بين الذات الفاعلة بكل ما تحمله من تجارب والذات المنفعلة، وحاصل النسبة بينهما هي المعرفة الإنسانية، يقول كانط) عن طريق الحاسة الخارجية وهي صفة لذهننا، نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجية عنا، وموجودة في المكان) [3] فكل ما يدركه الإنسان هو ظاهر، أو بمعنى أن ليس للإنسان نصيب من معرفة الأشياء إلا ظواهرها أمام ما يقع خلف الظاهر فليس أمام الإنسان إلا أن يتخذ حياله موقف اللا أدري أو المجهول تمام الجهالة، وبعيداً عن ما يحمله هذا الطرح من تصور يتجاوز حدود المنطق، أو محاولة إدخال اللا منطق في المنطق، إلا أنه تمكن من فتح تساؤلات جديدة أصبحت مدار لكثير من الفلسفات، وأهم ما نحتاجه هنا كشاهد فلسفي أن كانط أسس للنسبية المعرفية التي تتحرك في دائرة اللا مطلق والنهائي، لأن لكل إنسان تجربته الحسية في إطاره الزماني والمكاني وبالتالي يستحيل افتراض عقل نموذجي في ظل وجود تجارب غير منحصرة.
وقد فتح هذا الطرح الباب أمام خطوات واسعة لفلسفات مختصة في نظرية المعرفة ارتكزت على كون الظاهر هو الأساس الموضوعي للمعرفة لأن الكينونة الحقيقية للشيء هي كينونة الظاهر لا كينونة الشيء في ذاته، فكانت هنا إسهامات هوسرل [4] الواضحة الذي أسس الفمنولوجيا [5] على أسس منهجية تعترف بالظاهر وتقترب منه باعتباره المحصلة الحقيقية للمعرفة الإنسانية، وأنطلق وهوسرل في تأسيسه المنهجي معارضاً المذهب الطبيعي الذي ساد في أوربا في نهاية القرن التاسع عشر والتطرف الذي صاحب أصحاب العلوم الطبيعية الذين اعتبروا العلم الطبيعي قادر على الانطباق على كل المجالات حتى الأدبية ومجالات النفس البشرية، ولكن لم يصل هذا الاعتراض إلى درجة يتنكر فيها على وجود العالم الطبيعي، مما جعله يؤسس طريقة في الوقت الذي لا ينكر فيه الواقع يتجاهله أو يستبعده، والسبب في ذلك أن كل المشاكل الفلسفية يعتبرها نتاج التوجه الإنساني نحو الطبيعة، حتى مثالية كانط لم تخرج من هذا التصنيف باعتبارها نتاج توجه
نحو الطبيعة، ولذا افترض ضرورة تعطيل الواقع الطبيعي أو جعله بين قوسين لأنها الطريقة التي يعيد الوعي فيها ذاته التي غُيِبت في الطبيعة لأن الموقف الطبيعي جعله يضيع في الأشياء وموضوعات العالم وعلاقاتها، وطالما كان الوعي مرتبط بالواقع الطبيعي فسوف يكون أسيره وفي حالة من السذاجة والاستسلام للطبيعة ولا يمكن أن يعاد للوعي اعتباره إلا إذا تجاهل هذا العالم ووضعه بين قوسين لكي يُعاد فهمه من جديد، ولذا يفرق أيضاً بين الشيء لذاته والشيء لأجلي، فهذه النسبة الجديدة التي تفهم الوجود ضمن دائرة الإنسان -لأجلي- تكسب الوجود قيم جديدة تعاد معه الأنا المفقودة ويتحول الوجود الطبيعي إلى علم شعور لا يكون فيه الوجود أكثر من معطى من معطيات الشعور لا بوصفه حقيقة في ذاتها.
وبالتالي التأسيس الفلسفي للنسبية يرتكز على التفريق بين ما هو نسبي وما هو مطلق أي خارج عن حدود التجربة، وليس المقصود التجربة بالمعنى العلمي وإنما التجربة الشعورية التي يعيشها الإنسان ضمن المعطى الحياتي وما يؤثر فيها من بعد اجتماعي وتاريخي وسياسي أو بمعنى عام هي الفعل الشعوري للحياة، وأما المطلق باعتبار أنه خارج حدود التجربة فهو بالتالي خارج حدود المعرفة، وهذا هو المرتكز الذي تنطلق منه الهرمنيوطيقا لإثبات ضرورة تعدد الفهم، وبذلك تدخل الفلسفة النسبية في إطار فهم النصوص مستبعدة أي فهم محدد يتحاكم لديه النص، يقول محمد مجتهد شبستري (إن للمعنى واقعاً أوسع من المعنى الذي قصده المؤلف، وذلك لأن الآفاق التاريخية للأشخاص متفاوتة، بمعنى أن لكل شخص تجربته عن ذاته وعن العالم تختلف عن تجارب الآخرين... وهذا ما يساعد بدوره على تباين المعاني التي ينتزعها الأفراد من النص الواحد) [6].
وأهم ما نحتاجه في هذه المرحلة وبهذا المقدمة المقتضبة هو اثبات أن هناك جذورا فلسفية أسست لنسبية المعرفة مما فتح الباب أمام كل أشكال المعرفة وجعلها لا تخرج عن دائرة النسبية حتى تلك المعرفة التي يمكن أن تحصل من دلالات النص وما يهمنا بالتحديد النص الديني، وما يحمله من فهم نسبي باعتبار أن الأفق المعرفي غير محصور ما دامت المعرفة وليدة تجارب حياتية تاريخية لا نهائية، كما تؤسس لذلك الهرمنيوطيقا [7] ومن هنا يجب أن نفهم ان الهرمنيوطيقا ليست باعتبار كونها دعوة لإثبات وجود قراءات متعددة وإنما دعوة لحتمية ذلك التعدد.
هذه النظريات النسبية تمثل حاجزاً حقيقياً أمام أي تأسيس معرفي قائم على إمكان الوصول إلى الحقيقة، كما أنها تقف أمام أي تأسيس لبناء معرفي مستنبط من النص الديني، طالما أن فهم القرآن لا يخرج عن إطار الفهم البشري المحكوم عليه بالتحول، وبالتالي لا يمكن أن نحتكم على أي فهم ثابت أو معلومات قطعية الصدق.
وقد تحول هذا النمط من التفكير إلى عقدة حقيقية عندما أصبح له وجود في الوسط الإسلامي، وتأثر به بعض الكتاب المسلمين الذين حاولوا الترويج له بشتى الوسائل، وببعض العناوين الجاذبة مثل ((نزعة تجديدية في فهم النص الديني)) و((قراءة حديثة للكتاب والسنة)) و((رفض التعصب في تفسير المصادر الدينية)) و((إحياء الإسلام)) وغيرها من العناوين التي تمر تحتها النزعة التشكيكية التي لا تبقي للدين معنى ولا رسماً، مما خلق نوعاً من الاستفزاز للمؤسسة الدينية وبخاصة الحوزة العلمية، ما جعلها ملزمة للوقوف أمام هذا الطرح بوصفها المؤسسة المسؤولة والجهة المقصودة لرفع ما التبس وتوضيح ما أشكل.
ورغم خطورة هذا الطرح الذي يفضي في النهاية إلى تمييع الدين وتفريغ الكتاب والسنة من الهداية المقصد النهائي للكتاب والسنة، إلا أن القليل قد انتبه إلى هذا الخطر وتعرض له بالنقد والتوضيح، وقد كان من بينهم سماحة الأستاذ آية الله السيد مرتضى الشيرازي، الذي عمل على تعرية هذه الأفكار وبيان ما يترب عليها من توالي فاسدة.
وقد عمل سماحته على مناقشة هذه الأفكار بمنهج يوائم النخب العلمية والفكرية في بعض الكتب والتأليفات الخاصة، كما لم يحرم عامة الناس من بعض النقاشات العلمية بعد تبسيط الحقائق وتقريب المفاهيم من خلال محاضرات ودروس لعامة الناس، ورغم أن المستمعين لمحاضراته لم يكن جميعهم من أهل الاختصاص، إلا أن سماحته تمكن من إيصال الحقائق بأسلوب سهل لا يفتقد الدقة والعمق، وقد حاصر فكرة النسبية بكل دلالاتها ومعانيها المفترضة ولم يمنعه نقده الشديد لفكرة النسبية من أن يكون منصفاً في تبيين بعض المعاني المقبولة.
هذا الكتاب (نسبية النصوص والمعرفة.. الممكن والممتنع) هو نتاج تلك المحاضرات التي تفضل بها سماحته في درسه المفتوح أمام كل الناس من جوار السيدة زينب (عليها السلام)، وقد يستغرب البعض إذا قلنا أن هذه الدروس هي حول تفسير القرآن وبالخصوص تفسير قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ وقد انطلق سماحته من هذه الآية لتأسيس بناء منهجي في قبال التأسيس الذي يرتكز على النسبية، ومن هنا شمل تفسير هذه الآية هذا البعد المعرفي، وقد قام بعض الأخوة في مكتبه الشريف كتابتها ونشرها لكي تعم الفائدة، وقد خصني بلطفه الكبير وخلقه النبيل بأن جعلني والشيخ الحسيني أحمد السيد من بعض المشاركين في هذا العمل النبيل.
اضف تعليق