ثم إن الزمان والمكان لا دليل على أنه ليس لهما وجود خارجي؛ بل الوجدان يشهد بأن المكان ليس أمراً موهوماً وكذا الزمان، وكما تقبل شهادة الوجدان في الأشكال والألوان وفي العلية والمعلولية ـ كما قبل كانط هذه الشهادة ـ كذلك تقبل شهادته في الزمان والمكان...
هنالك الكثير من مكامن الخلل في العديد من مفاصل نظرية كانط التي اشرنا اليها سابقاً، ونشير هنا إلى بعضها الآن ـ إضافة إلى ما سبق:
كما أن أقواله التالية: (إن الذهن الإنساني يمنح الظواهر، بحكم خواصه، صوراً وأشكالاً، بحيث...) و(يسبغ الذهن...) و(كل شيء يتصوره الإنسان يتصوره في ظرف الزمان والمكان) و(الزمان والمكان ليس لهما وجود خارجي..)، يلاحظ عليها: أنها كلها أحكام ودعاوى بلا دليل، بل إن الدليل قام على خلافها كما يظهر ذلك من مباحث الوجود الذهني ومباحث مناط الصدق في القضايا ومباحث الجوهر والعرض، والانتزاعي والحقيقي وشبهها، ونشير إلى أن (القوة المتخيلة) هي التي لعلها لا تتصور الشيء إلا في ظرف الزمان والمكان(1)، أما (القوة المتعقلة) فهي قادرة، ولذا (يتعقل) الملايين من الناس (الله حق) بدون زمان ومكان، ولذا (تعقل) الفلاسفة وكثير من العلماء (المجردات)، نعم قد لا يمكن (تخيلها) بقوة الخيال، كما لا يمكن (الإحساس) بها، بالحواس.
ثم إن الزمان والمكان لا دليل على أنه ليس لهما وجود خارجي؛ بل الوجدان يشهد بأن المكان ليس أمراً موهوماً وكذا الزمان، وكما تقبل شهادة الوجدان في الأشكال والألوان وفي العلية والمعلولية ـ كما قبل كانط هذه الشهادة ـ كذلك تقبل شهادته في الزمان والمكان، بل نقول: من الناحية العلمية والفلسفية فإن (الزمان) إما هو البعد الرابع(2)، أو هو مقدار الحركة(3)، أو غير ذلك وعلى أي تقدير، فإن الزمان والمكان، هما أمران حقيقيان غاية الأمر أنهما من المعقولات الثانوية، وليسا اعتباريين أو متوهمين؛ أي ليسا ذهنيين محضين.
ومما يشهد لذلك أنه لا يمكن أن (يعتبر) الإنسان النهار ليلاً، أو الليل نهاراً، أو يتوهمه كذلك، أو أن يعتبر أو يتوهم (السنة) في الكرة الأرضية هي 465 يوماً أو هي 265 يوماً أو أقل أو أكثر من ذلك.
ثم إن من البديهي أن (الزمان والمكان) ليسا (كيفيتين للذهن)(4) بل لهما واقع، والذهن إنما هو مرآة كاشفة عنهما.
وقد اتضح أيضاً خطأ قوله (ذهن الإنسان بمقدوره أن يجرد الأشياء عن مختلف عوارضها، إلا الزمان والمكان، فإنه لا يمكن تصور أي أمر أو أي شيء للإنسان، منفصلاً عن الزمان والمكان... إن الزمان والمكان شرط واجب لتصور الأشياء).(5)
والجواب أن الذهن بمقدوره أن (يتصور) المعاني الجزئية بلا زمان ولا مكان، ألا ترى أن الحديث إذا كان عن معنى (الحب) أو (البغض) و(العداوة) وغيرها بقول مطلق، وتصورناها بذاتها، لم نتصور لها زماناً ولا مكاناً، نعم إذا تحدثنا عن حب وبغض شخصي (كحب زيد للدراسة، أو لأبناءه) كان تصوره مقترناً بالزمان والمكان، بل قد يفارق صنف هذا التصور المكان بل والزمان أيضاً، كما لو درسنا ظاهرة (حب الإنسان لأبناءه) وحقيقتها وآثارها، من وجهة نظر علم النفس أو علم الإجتماع، مع قطع النظر عن الماضي أو المستقبل.
ويدل على ذلك أيضاً أن الرياضيات غالباً ما يكون تصورها مجرداً عن الزمان والمكان، على عكس ما يصرح به من أنهما أيضاً لا يمكن تصورهما بدون زمان ومكان ـ ألا ترى أننا نتصور واحداً زائد واحد، ونحكم بأنه يساوي اثنين، دون تصور ذلك في زمان خاص أو مكان خاص، بل مع قطع النظر عنهما بالمرة.
ولا داعي لإطالة نقد كلامه حول الزمان والمكان، لعدم ارتباطه بصميم البحث، والظاهر أنه خلط بين (تصور الشيء منفكاً ذلك الشيء عن الزمان والمكان) وبين (وقوع كل تصور في زمان ومكان)(6)، هذا كله إضافة إلى أن (الصور والأشكال) أمور واقعية وليست أموراً غير موجودة إلا بعد أن يعطيها الذهن، وجودها، كما قال.
كما أن الظاهر أن (الحواس تقدم للذهن مادة المعلومات وصورها أيضاً)، لا المادة فقط كما زعم.
كانط وقانون العلية والإمكان
وقد اتضحت أيضاً مكامن الخلل في قوله (قانون العلية من صنع عقولنا)، فإن (العلية) من المعقولات الثانية الفلسفية، التي الاتصاف بها في الخارج والعروض في الذهن، والتي هي موجودة بوجود منشأ انتزاعها.
بل إنه يناقض نفسه بذلك، بل إذا كان (قانون العلية) من صنع عقولنا، فلنا أن نعتبر المعلول علة والعلة معلولاً وأن نعتبر وجود (النار) معلولاً لضوئها، وضوؤها ونورها علةً لها؛ كما سيكون لنا أن نعتبر الثلج علة الحرارة والإحراق، والنار علة البرودة والتجمد.
اللهم إلا أن يريد من (قانون العلية) خصوص الحتمية في صدور هذا المعلول من علته (كصدور الإحراق من النار) كما لعله ظاهر قوله بعد ذلك (وليس واضحاً أن علاقة العلة بالمعلول في عالم الحقيقة، علاقة الضرورة والوجوب) وذلك كأن يرى أن الله تعالى ـ مثلاً ـ هو العلة الحقيقية، وأن (النار) علة مجازية أو (يتقارن) الإحراق والإنارة والحرارة ـ عادة ـ مع وجودها، وإذا كان مراده هذا، فإنه غير بعيد، وقد أشار إليه احد فلاسفة المسلمين:
(وهل بتوليدٍ أو إعدادٍ ثبت.....أو بالتوافي عادة الله جرت)
إلا أن مراده لو كان هذا، فإنه سيكون نقاشاً (صغروياً) مصداقياً(7)، ويبقى عليه: أنه هل يرفض أصل قانون (العلية) ويراها مطلقاً من صنع العقل، فحتى خالق الكون(8)، ليس بالضرورة علة لمخلوقاته؟
إن ذلك مما يكذبه الوجدان بالضرورة والبداهة.
على أنه لو تمّ لنقض كلامه هذا، كلامه السابق؛ إذ كيف تيسر (لذهنه) أن ينفذ إلى بواطن كل الأشياء (ماديات ومجردات) وحتى لله تعالى ليحكم بـ(قانون العلية من صنع عقولنا)؟
وبعبارة أخرى: لو قصد من (وليس واضحاً...) إنكار قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد وذلك بسد جميع أبواب العدم) فقد أوضح المتكلمون، ضرورة هذه القاعدة، نعم النقاش صغروي، وأن الشيء هل (يجب) بإيجاب الله تعالى، له أو (يجب) حتى بإيجاب العلل الطبيعية له؟
وبعبارة أخرى: إذا لم تكن علاقة العلة والمعلول في عالم الحقيقة، هي (علاقة الضرورة والوجوب)، لكانت بلا ريب أما علاقة الإستحالة أو الإمكان، والإستحالة بديهية البطلان، وإلا لما صدر الإحراق عن النار أبداً.
أما علاقة الإمكان، فإن قصد أن العلاقة بينهما حتى مع تدخل العامل الفوقي ـ وهو الله تعالى مثلاً ـ هو الإمكان، أي قصد أنها مهما حدث وأية شروط وظروف وعوامل تصورناها فإن (الإحراق) قد لا يصدر (عن النار) بل حتى (عند حصول النار) فإنه يمكن أن تصدر البرودة من النار حتى لو ثبتّنا كل العوامل والشروط والظروف بما فيها إرادة الله تعالى، وإذا كان ذلك كذلك، للزم أولاً: ترجح الشيء بلا مرجح، وهو محال؛ إذ نسبة الشيء الممكن لطرفيه، هي على السوية، وما دامت العوامل الخارجية أجنبية، فإن حدوث أحد طرفيه، يعني الترجح بلا مرجح.
وللزم ثانياً: أن يكون كل شيء (بما فيه كل العلل حتى الفوقية) أجنبية عن كل شيء، ولا توجد بينها علاقة أيضاً، وللزم صحة صدور كل شيء من كل شيء، وللزم حتى في الرياضيات التي أذعن بصوابيتها وصحتها، (إمكان) أن يخلق الذهن فروضاً رياضية أخرى معاكسة، كأن يخلق (الدائرة)، بحيث تكون نسبة مركزها، لكافة نقاط محيطها، كنسبة مركز المستطيل لأضلاعه، وهو مما لا يمكنه قبوله، وعلى أي حال فإنه لو إلتزم بـ(الدوام) و(العِندية) دون (الضرورة) و(العلية)، لما استطاع التخلص من هذه الإشكالات، بل حتى (الدوام) لا يمكنه الإلتزام به عندئذٍ، إذ (الحس) لا يدرك إلا الجزئيات، أما (التعميم) فشأن (العقل) ومع إنكار قاعدة العلية، لا تبقى للعلم قاعدة يتمسك بها للتعميم.
كانط والذوات الثلاثة
ويتحدث "كانط" عن الذوات الثلاثة (أي النفس، والعالم، والله) والتي تفرعت عنها العلوم الثلاثة:
"Psychologie، وهو علم النفس، وCosmologie، وهو علم الكون أو الكونيات، وTheologie، وهو علم اللاهوت".
ويقول: (إن هذه الذوات: لا يمكن أن تدرك بالعقل النظري، كما لا يمكن إثباتها؛ لأن العقل محدود بالتجربيات التي هي ظواهر فيخرجها تحت القاعدة والنظام ويجعلها معلومة)(9)، وباختصار: إنه ينكر (إمكان التصور) كما ينكر إمكان البرهنة وصولاً لـ(التصديق).
لكن يردّه: ـ إضافة إلى ما سبق ـ أنه يستدل على وجود الخالق تعالى، ببرهان إبطال التسلسل ويقول: (إن العقل ينتقل من المعلول للعلة، لكنه يرى أن العلة هي معلولة بدورها، فيصل للتسلسل، لكن عقل الإنسان لا يقبل التسلسل، ويرى ضرورياً انتهاء السلسة إلى مبدأ وإلى علة ليست بمعلولة). فليس العقل محدوداً بالتجربة إذن(10)، وقد أمكن إدراك بطلان التسلسل بالعقل النظري فكيف لا يمكن إثبات تلك الذوات أو إدراكها بالعقل النظري؟
كما ينقضه أن نفس هذين الحكمين (لا يمكن إدراك الذوات بالعقل النظري) و(لا يمكن إثباتها به) هما حكمان للعقل، وقد أدركهما العقل، وقد حكم بهما على الذوات.
كما يرد عليه أنه استدل ببرهان نظري (لأن العقل محدود بالتجربيات..) بل الواقع أنه استدل بمدعى آخر ـ هو محدودية العقل وكأنه أخذه أصلاً مسلماً، مع أن منطلق كل مباحثه التشكيك فيما يقوله العلماء والفلاسفة الآخرون من المسلمات والبديهيات ـ على مدعاه الأول، ولم يبرهن هذا المدعى الآخر ـ على أن برهانه لا يعقل أن يكون إلا العقل لا التجربة، لأن (السلب) لا يقع تحت التجربة، فعدم إمكان الإدراك والبرهنة، وعدم قدرة العقل على إدراك غير الأشياء المجربة والتجربيات، هي أحكام للذوات، حكم بها العقل، من غير أن يكون قد وصل للحس مظهر أو ظاهرة من الظواهر العدمية للذات.
ولا تسمح لنا هذه العجالة، بالتطرق لنقد كلامه حول (تنازع الأحكام) و(تناقضها) وجدلياتها الأربعة.(11)
كما لا نتطرق لكلامه حول مناقشته للبراهين الثلاثة لإثبات وجود الله، وإلتزامه بأن (العقل لا طريق له إلى إثباته) بل لابد من طريق آخر، ولعلنا نبحث ذلك كله وغيره في أجزاء أخرى بإذن الله تعالى.
اضف تعليق