في عالمٍ يملؤه الحنين والوجع، حيث تتشابك الكلمات مع الدموع، تكتب نور الغزي قصصها كما لو أنها ترسم وجوهًا أرهقها الزمن، وأرواحًا لا تزال تبحث عن موطئ قدم تحت سماء العراق المضطربة. من الناصرية، حيث تنبض الحكايات بين ركام الألم وذكريات الطفولة...
في عالمٍ يملؤه الحنين والوجع، حيث تتشابك الكلمات مع الدموع، تكتب نور الغزي قصصها كما لو أنها ترسم وجوهًا أرهقها الزمن، وأرواحًا لا تزال تبحث عن موطئ قدم تحت سماء العراق المضطربة. من الناصرية، حيث تنبض الحكايات بين ركام الألم وذكريات الطفولة، أهدتنا مجموعتها القصصية "تحت سماء الناصرية"
في هذا الحوار، سنبحر مع نور الغزي عبر أجواء الحزن والمقاومة، سنتحدث عن السماء التي لم تكن ملاذًا، بل ساحة للحرب، وعن الأرض التي تحتضن جراحًا لا تندمل. كيف تنعكس مآسي الواقع في أدبها؟ وهل يمكن للحزن أن يكون بوابةً للأمل؟ كيف وثّقت بصوتها الأدبي آلام النساء، وانكسارات الطفولة، والموت الذي صار رفيقًا للأحلام؟
رحلة في عمق الحكاية، بين الأدب والتاريخ، بين الواقع والخيال، نفتح معها صفحات من وجعٍ مشترك، ونحاول أن نستشف إن كان هناك متسعٌ للفرح في عالمها الأدبي الذي تكتبه بمدادٍ من الروح.
كيف ترين العلاقة بين الأرض والسماء في القصص التي تناولتها، وهل تعكس السماء في هذه القصص شيئاً من الواقع العراقي المعاصر؟
العلاقة بين الأرض والسماء في القصص التي تناولتها تعكس واقع العراق المعاصر بصورة مأساوية. فعلى الرغم من كونهما صنوان لا يفترقان، كما ورد في آيات القرآن الكريم، إلا أن السماء في هذه القصص لم تكن رمزًا للجمال أو التأمل، بل تحولت إلى مشهد للحرب والدمار.
وكما يقول الكاتب الأمريكي رالف والدو إمرسون: "السماء هي الخبز اليوميّ للعينين"، فهي تستحق التأمل في طبيعتها الصافية، لكن شخصيات قصصي لم ترَ فيها الصفاء أو الغيوم البيضاء، بل شاهدت الطائرات الحربية، الصواريخ، ودخان المدافع، وسط مشاهد الجثث المتطايرة.
هكذا كانت سماء العراق في الواقع المعاصر، لا تعكس الأمل بل تعكس المأساة، مما ملأ قلوب الشخصيات بالحزن وجعل العلاقة بين السماء والأرض في هذه القصص انعكاسًا للحقيقة القاسية التي يعيشها الوطن.
في ظل الطابع الحزين الذي يميز قصص الكتاب، هل تعتقدين أن هذا الحزن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن الأمل أو المقاومة؟
أظن أن الحزن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن المقاومة أكثر من كونه تعبيرًا عن الأمل. فمن طبيعتنا نحن البشر، غالبًا ما نربط الحزن بفقدان الأمل، وعندما نشعر بالحزن، قد نفقد الرغبة في التفاؤل أو الإيمان بالتحسن. ولكن بعد مرور فترة من الزمن، غالبًا ما يكون الحزن هو المحفز للمقاومة، حيث نبدأ في مواجهة الواقع والبحث عن طرق لتجاوز الألم بدلاً من الاستسلام له. إذاً، رغم أن الأمل قد يظهر في بعض الأحيان بعد الحزن، إلا أن المقاومة تبرز عادة كأداة أقوى في استعادة توازننا والتغلب على مشاعرنا السلبية.
كيف تمكنتِ من تقديم معاناة النساء في سياقات مختلفة مثل "قتل الشرف" و"تحت ظل داعش"؟ وهل كانت تلك التجارب الشخصية تشكل جزءًا من صوتكِ الأدبي؟
نحن النساء العربيات عموماً والعراقيات على وجه التحديد، رغم اختلاف أسباب معاناتنا والمصائب التي مررنا بها على أرض الوطن، إلا أن هناك حزنًا مشتركًا، مثل فقدان الأحبة والأبناء، اليتم، وسلب الحياة نتيجة للظروف المحيطة من حروب وغزو، انفجارات وقتل بذريعة الشرف.
نعم، كانت ولا تزال وستظل هذه التجارب الشخصية جزءًا لا يتجزأ من صوتي الأدبي، وإن منحنا العمر مزيدًا من الوقت في المستقبل، ستكون هذه التجارب جزءًا أساسيًا من الكتابة والتعبير عن تلك المعاناة.
كيف تتعاملين مع فكرة "الموت والدمار" في قصصكِ؟ هل ترين أن الموت في الأدب له دلالات سياسية أو اجتماعية معينة؟
أتعامل مع الموت كأنه شعور رتيب يجب أن أكتبه وأبحر في وصفه وأتعمق في سرده. في الوقت نفسه، حين أخبرني من قرأ الكتاب أنه بكى أو شعر بالحزن ولامني على كمية الحزن، وصفني بالقاسية والمحبة للحزن والموت. ليته يعلم كم من دمعة ذرفتها وأنا أكتب، كم مرة كاد قلبي أن يخرج من محله حين أصف موتًا أو قتلًا أو حزنًا في هذا الكتاب. أنا لم أكتب لكم بهذا الألم والحزن من أجل أن أوجعكم، بل من أجل أن يسمع أحد عن حزن الجنوب والناصرية.
ما الذي دفعكِ لتناول موضوع "أمراض السرطان" و"متلازمة داون" بشكل يسلط الضوء على معاناة الأفراد وأسرهم في هذه الظروف؟
بالإضافة إلى ما تمثله هذه المواضيع من أهمية ودوافع إنسانية، فإن الدافع الأساسي كان تجربتي الشخصية. رأيت أحدهم يتعذب بعذاب السرطان، وقد خرجت روحه أمامي أكثر من مرة. كل يوم كنت أراه يتألم ويحاول إخراج روحه من جسده ليستريح، لكنها كانت تأبى ذلك. أما بالنسبة لمتلازمة داون، فهناك طفل من معارفي يعاني من هذه المتلازمة. في كل مرة أراه، أتأمل براءته ولطفه معي، ويحزنني تعامل الأطفال معه، والتنمر والسخرية التي يواجهها. كانت لي رسالة في قصة "متلازمة الحب": لابد أن نتعامل معهم بإنسانية، وأن نحث أطفالنا الأصحاء على تقبلهم وحسن السلوك معهم، فهم ألطف خلق الله.
ماذا تعني لكِ شخصية الأم في الكتاب؟ هل كانت الأم تمثل رمزًا للضياع أو القوة في مواجهة الأقدار؟
في البداية، ليست كل أم تستحق هذه التسمية، فهناك أمهات أضعن أبنائهن وتسببن في تعاستهم بسبب جهلهن وقسوة قلوبهن. لا يدركن خطورة أن تكوني أمًا. نستشعر هذه الأهمية في القول الشائع للشاعر: "الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق". إلا أن هناك الكثيرات لا يعرفن شيئًا عن الأمومة سوى الحمل والإنجاب.
الأم كرمز للضياع:
في الجهة الأخرى، هناك أمهات يمكن أن يكن رمزًا للضياع، حيث لا يكون لديهن وعي كافٍ بدورهن الحقيقي في حياة أبنائهن.
الأم كرمز للقوة:
بالمقابل، توجد أمهات يرمزن للقوة في مواجهة الأقدار. تلك الأمهات هن اللاتي يسقين أطفالهن الحب والرحمة والإنسانية، ويمثلن مصدر قوة وثبات في مواجهة التحديات الحياتية.
كيف ترين تأثير الاحتلال الأمريكي على الأطفال في العراق؟ وهل تعتقد أن جيل الأطفال الذي نشأ في هذا السياق يحمل آثار هذا التاريخ؟
تأثير الاحتلال الأمريكي على الأطفال في العراق:
الغزو الأمريكي ترك لنا الكثير من الذكريات، نحن أطفال تلك الحقبة. بالنسبة لي، وُلدت ونشأت في فترة الحصار الأمريكي على العراق، وهي فترة لا أذكر منها شيئًا سوى ما تروي لي أمي وجدتي. ولكن، عندما كبرت ونمى عقلي، بدأ دماغي يحتفظ بالذكريات، وهنا جاء الجيش الأمريكي ليعكر علينا ساحة اللعب.
أمهاتنا كن يصرخن بنا عندما تمر الطائرات، فنختبئ في بيوتنا. لكننا تمردنا على الخوف؛ فقد أصبحت لدينا مناعة ضد أصوات الطائرات الحربية. كانت طائراتهم تحلق على مقربة منا، تسير بنسق ونظام واحد، وكنا نركض خلفها ونتبعها، بينما نردد هتافات ضدهم. ثم كانوا يرون لنا الحلوى التي كنا نجهل نوعها واسمها. لم نكن نعرف عنها شيئًا سوى أنها كانت لذيذة جدًا لدرجة أننا تمنينا بسذاجة أن لا يتركنا الغزاة، فقط لكي نستمر في الحصول على هذه الحلوى.
ربما كان هذا الجانب المشرق في نظرنا كأطفال جياع لم يتذوقوا الحلوى منذ صغرهم. ولكن هناك أيضًا الجانب المظلم. كان هناك الظلام الذي يلف الليل بعد أن تم تدمير المنظومة الكهربائية، وصوت الصواريخ والانفجارات، والقتل العشوائي، والخطف، وتصفية العراقيين لبعضهم. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت ظاهرة الطائفية التي كانت تلقي بظلالها على كل شيء.
هل ترك الاحتلال الأمريكي آثارًا؟
إذا كنت تسألني عن آثار الاحتلال الأمريكي على جيل الأطفال الذي نشأ في تلك الفترة، فالإجابة واضحة. نعم، ترك الاحتلال آثارًا عميقة، سواء في الذاكرة الفردية أو في الذاكرة الجمعية لهذا الجيل. آثار العنف، والدمار، والقتل، والضياع، والتهجير، لا تزال حية في ذهن العديد منا، وتستمر في تشكيل أفكارنا ورؤيتنا للعالم حتى اليوم.
من خلال القصص التي تناولت "ثورة تشرين" و"مجزرة جسر الزيتون"، كيف يمكن للأدب أن يلعب دورًا في توثيق التاريخ وتعزيز الوعي الجمعي؟
للأدب دور أساسي في توثيق التاريخ، حيث يسهم في حفظ الوقائع وتوثيق الأحداث التي قد يغفلها التاريخ الرسمي أو تكون عرضة للنسيان. على الرغم من خفوت القراءة والإقبال عليها لأسباب عدة، إلا أن دور الأدب لا يقل أهمية عن دور السينما والمسرح، بل هو الأساس في هذه الفنون. كما نعلم، لا فيلم يُصور ولا مسرح يُقام بلا نص أدبي، لذا فإن الأدب بجميع أشكاله هو اللاعب الأساسي والحاسم في توثيق وحفظ الوقائع.
الأدب يساهم بشكل كبير في تعزيز الوعي الجمعي من خلال تقديم الأحداث التاريخية في سياق إنساني عميق، مما يساعد في نقل التجربة الفردية إلى ذاكرة جماعية. قصص الأدب حول "ثورة تشرين" و"مجزرة جسر الزيتون" على سبيل المثال، تساهم في نقل معاناة الشعب، وتوثيق لحظات مهمة من التاريخ المعاصر التي تشكل هوية الأمة وتجارب الأفراد.
لماذا اخترتِ أن تختم الكتاب بقصة الكاتب محمد محسن محمد وصراعه مع كورونا؟ هل تمثل هذه القصة رمزية أو انعكاسًا للعالم المعاصر في مواجهة التحديات الصحية؟
كان من أهم الأسباب لكتابة قصة الكابتن محمد محسن محمد هو إعجابي بكتاباته وإشعاره، بالإضافة إلى أنه كان رمزًا من رموز الناصرية. تأثرتُ أيضًا من خلال كلام ابنته زينب، التي تعرفت عليها في أروقة الجامعة قبل سنوات وأصبحت من أقرب الصديقات. تأثرتُ بتأثرها به وبحضوره التاريخي، وخاصة بعد وفاته. أما سبب اختيار هذه القصة لتكون ختام الكتاب، فهو أمر لا أريد البوح به.
في ظل هذه القصص الحزينة والمعاناة، هل هناك مساحة للفرح أو التحول الإيجابي، أم أن الظلام يظل الطاغي في الأدب الذي تقدمه؟
رغم أن الحزن يطغى على كلماتي، فقد سقاني الفرات به وتوارثته عن جدي السومري الذي أعتقد أنه اخترع الكتابة ليعبر عن حزنه بعد أن ضاقت صدره وتشابكت الحروف في عقله، لا لينظم أمور الحياة والتجارة كما يزعمون. ورغم ذلك، لابد من شمس تشرق وفرح يستحق أن نكتبه، كما كتبنا وسنكتب الحزن في أيامنا القادمة.
في عالمٍ يموج بالصخب والتغيرات السريعة، تبقى القراءة ملاذًا آمنًا، ونافذةً نطل منها على آفاقٍ أوسع من الواقع. إنها ليست مجرد وسيلة للمعرفة، بل رحلة في عوالم مختلفة، تمنحنا الفرصة لنعيش حيوات متعددة، ونشعر بآلام الآخرين، ونستقي الحكمة من التجارب الإنسانية العميقة.
كل كتابٍ نقرأه هو خطوة نحو فهم أعمق للحياة، وكل قصة نعيشها بين السطور هي درسٌ في الإنسانية والصمود. فالقراءة تمنحنا القدرة على الحلم، وتجعلنا أكثر وعيًا وقوة، لأنها تحرر العقول وتغذي الأرواح.
لذا، لا تتردد في أن تفتح كتابًا اليوم، فقد يكون هو المفتاح الذي يفتح أمامك أبواب الفكر والإلهام. ففي كل صفحة جديدة، هناك فرصة لاكتشاف نفسك والعالم من منظورٍ مختلف. اقرأ، لأن الكلمات قادرة على أن تصنع المعجزات!
اضف تعليق