تضع الدول المتطورة خططا لتطوير المواهب، تبدأ بالطفل، صعودا الى المراحل العمرية التالية، وهذه الخطط مدروسة وسهلية التنفيذ ومضمونة النتائج، ولكن الجهد الأول تقوم به مؤسسات ومنظمات تعنى بالتنمية البشرية، وبهذه الطريقة استطاعت المجتمعات التي كانت (متأخرة)، أن تقفز على حواجز الجهل، واللامبالاة والاهمال، وتصنع من أطفالها أناسا متميزون موهوبون، يسابقون الزمن من أجل الابتكارات الجديدة.
أما نحن، وأعني الدول الاسلامية والعربية ومن بينهم العراق، لو أردنا أن نقفز على حواجز الجهل والتخلف، ونعبر من ضفة التأخر الى ضفاف التقدم، فما علينا سوى وضع الخطط التي تُسهم في احتضان مواهب الأطفال والمراهقين والشباب، حتى يتسنى لهم اكتشاف قدراتهم ومواهبهم وما يتميزون به، من اجل توظيفه في الوق والمكان المناسبين، لدفع عجلة الوعي والثقافة والابداع والانتاج خطوات الى أمام.
قد يقول قائل أن الموهبة ذات جذور فردية، ولا علاقة للمجتمع بوجودها وتطويرها، وهذا رأي يصح في جانب ويخطئ في آخر، أما الصحيح في هذا الرأي فهو يتعلق بوجود الموهبة، فقد أكد العلماء أنها تُخلق مع الانسان وراثيا، ولكن الخطأ في هذا الرأي عندما ينسف أهمية تطوير الموهبة من خلال احتضانها لأن أعظم المواهب يمكن أن تمون اذا فقدت الرعاية والمساعدة والتوجيه، هنا بالضبط تكمن أهمية أن يرعى المجتمع مواهب أبنائه.
علما أن الانسان حتى لو لم يكن موهوبا، وحتى لو عاش في بيئة لم تهتم به، لكن عندما يتأكد أنه قادر على التطور، وأن اكتسابه المهارات الجديدة امرا ليس مستحيلا، عندئذ سيكون أكثر تفاؤلا واكثر ثقة بالنفس، فضلا عن الآثار الصحية الجيدة التي ستظهر عليه، لذا تكمن اهمية دورات التنمية المهارية ومساعدة الانسان على تعزيز قدراته، في صقل شخصية الانسان وجعله واثقا من نفسه، واكثر قدرة على الانخراط في محيطه الاجتماعي، ويستطيع الانتاج، وإظهار مهاراته ومواهبه التي ستميزه عن غيره، وهكذا سوف يكون للاهتمام والرعاية مفعول كبير لتطوير مواهب الانسان كونه سوف يجد البيئة التي تناسب قدراته وتسعى لتطويرها..
وحول هذا الموضوع الجوهري في تطور الأفراد والمجتمعات، أكدت دراسة عن جامعة زيورخ السويسرية، أن الحرص على تنمية المهارات والتدريب لتنمية القدرات الشخصية تساعد كثيرا في تعزيز الشعور بالثقة بالنفس وتنمي الشعور بالتفاؤل والامل وتقضي على الشعور بالعزلة وتعزز حب التطلع الى الافضل واكتساب المعرفة.
متابعة الأثر النفسي والمعنوي
وعندما يبدأ المعنيون كالمنظمات والمؤسسات الثقافية، بتطوير مواهب الاشخاص، سوف تتم ملاحظة شعور الطفل او المراهق او الشاب بالرضا وهو يرى ويلمس ذلك الاهتمام بمواهبه والسعي لتطويرها، فقد ذكرت الدراسة التي قدمها مجموعة من الباحثين في علم النفس بجامعة زيورخ، انها تمكنت للمرة الاولى في العالم من متابعة الاثر النفسي والمعنوي لمن يحرص على تنمية قدراتهم الشخصية والمهارات عن طريق التدريبات المتخصصة والدورات التعليمية ذات الصلة، فرصدت تقدما هائلا في توجهاتهم المهنية والصحية. واستندت الدراسة على ابحاث ميدانية أكدت ان تقوية شخصية الانسان تكون اكثر نجاحا من خلال البحث عن الجوانب الايجابية في النفس البشرية بشكل عام وهذا دليل قاطع على تأثير الاهتمام بمواهب الفرد على بناء شخصيته من حيث التفكير والسلوك والابتكار والانتاج.
ومما يُحسَب لصالح الدورات التي تسعى للكشف عن مهارات الأفراد، أنها لا تتوقف عند نقطة اكتشاف المواهب فقط، وانما تسير الامور بصورة متصاعدة في الاتجاه الصحيح، حيث تعقب هذه المرحلة، مرحلة اخرى مهمة بعد اكتشاف الموهبة، وهي مرحلة تطوير هذه الموهبة واستعداد الفرد لهذا المنجز الجديد، استعدادا نفسيا وفكريا وعمليا.
فقد كشفت الدراسة المذكورة في أعلاه، أن النواحي الايجابية للحالة النفسية للانسان التي تؤدي اليها الدورات التدريبية المتخصصة، لا تكمن فقط في الكشف عن المهارات الشخصية ولا تتوقف عند هذا الحد، وانما تسعى ايضا الى كيفية تنميتها وتعزيز القدرات الشخصية في المجالات التي يميل اليها كل شخص، حسب المجال الذي يرغب فيه ويجد نفسه ميّالا له.
من هنا تظهر أهمية كبيرة للمنظمات الأهلية، والحكومية، كالمؤسسات التدريبية وما شابه، على أن لا يكون العمل روتينيا، أو مان باب إسقاط الفرض، بل ينبغي أن يكون عملا جادا ومنظما ومبنيا على خطوات مدروسة ومتخصصة، حيث تبدو عملية تطوير المهارات غاية في الاهمية، لذا على الجهات المعنية الحكومية والاهلية أن تهتم بالغ الاهتمام في هذا المجال الذي يتعلق ببناء شخصية الانسان، وبلورة قدراته، وصقل مواهبه، وتنمية مهاراته في التفكير والعمل، حتى ينعكس ذلك على مجمل نشاطاته التي ستكون في خدمة المجتمع وتسهم في ارتقائه وتقدمه وازدهاره بلا أدنى ريب.
كيف يكون المجتمع منتِجا؟
وهكذا يمكن أن يكون تأثير الاهتمام بالمواهب عاملا حاسما في تطوير الدولة والمجتمع، فاذا آمن المسؤولون بأن الطفل والشاب (من الجنسين) عنصرا فاعلا في مجتمع واسع وكبير، وان مجموع الافراد يشكلون المجتمع، فإن ذلك المجتمع سوف يكون كله متحركا وفاعلا ومنتجا وقادرا على العطاء الافضل، فيما لو تنبّهت الجهات المعنية الى الفوائد الكبيرة التي تنتج عن تنمية القدرات والمهارات، واستثمار الطاقات الكامنة للجميع.
وقد اعتمدت الدراسة المذكور في اعلاه على نتائج متابعة 178 حالة لاشخاص بالغين تم اختيارهم عشوائيا لضمان تنوع انتماءاتهم واهتماماتهم ثم وزعوا على ثلاث مجموعات اهتمت الاولى بتنمية مهارات حب المعرفة والعرفان بالجميل والتفاؤل والثانية ركزت في تنمية اهتمامات الفرد بالابتكار والتعامل الجماعي وحب التعلم بينما اهتمت الثالثة بتنمية مهارات التخطيط بعيد المدى والتخطيط الايجابي.
واظهرت نتائج متابعة حالات المشاركين بعد عشرة اسابيع من التدريبات المتواصلة ارتفاع معدلات الشعور بالتفاؤل والاقبال على الحياة لدى المشاركين في المجموعة الاولى في حين ارتفعت نسبة الشعور بالطموح الايجابي والرغبة في التطوير والتجديد لدى اعضاء المجموعتين الثانيتين.
واوضحت الدراسة ان القاسم المشترك بين جميع المشاركين هو الشعور بالرضا النفسي والقناعة المعنوية بشكل ايجابي واستطاعتهم تقديم المزيد في المجالات التي يرون ان لديهم امكانيات متميزة فيها فضلا عن امكانية التحكم في مشاعرهم اثناء الاختيار بين اكثر من حل لمشكلة مطروحة وصولا الى افضلها وتعزيز الشعور بالاصرار وصولا الى النجاح.
من هذه الدراسة الميدانية يستطيع صناع القرار في العراق وفي الدول الاسلامية والعربية، معرفة الأهمية القصوى التي تنطوي عليها عملية تنمية المواهب والمهارات، حيث توضح الدراسات الميدانية المعنية بتطوير القدرات والمهارات، مدى اهمية دورات التنمية لرفع كفاءة الانسان، وتشجيعه كي يكون عنصرا فاعلا في المجتمع وفي الحياة برمتها، من هنا ينبغي على الحكومات والمنظمات والمؤسسات الأهلية المعنية أن تعرف مدى تأثير الاهتمام بالمواهب والمهارات في عملية تطوير المجتمع وبناء الدولة.
وخلاصة القول، أن الرسالة التي يمكن إرسالها الى جميع المؤسسات والمنظمات المعنية بتنمية الأفراد، تحمل في مضمونها أهمية كبيرة لاحتضان الأطفال والشباب، خصوصا في العطل الربيعية أو الصيفية، فنكون بذلك قد قضينا على الفراغ القاتل لأولادنا، وثانيا نكون قد مددنا لهم ولأنفسنا العون، ورعينا مواهبهم، واكتشفنا طاقاتهم، وساعدناهم لكي يوظفوا هذه المواهب والقدرات في المكان المناسب والتوقيت السليم.
اضف تعليق