الجهة المعيارية، استحباب الإنفاق، داخلة في الأخلاق، وأما الجهة الموضوعية وهي الإنفاق نفسه وبما يحمله من تأثيرات على العمالة وخفض البطالة وخفض نسبة الفقر وشبه ذلك فإنه يدخل في علم الاقتصاد. إن علم الاقتصاد يتناول الإنفاق الشرعي لا من باب استحبابه، بل باعتباره ظاهرة تنجم عنها، وبحسب حجمها...

الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر واليه على مصر، يشير صراحة إلى الأركان الأربعة التي أشّر عليها ـ فيما بعد ـ مينارد كينز، ويزيد عليها ركنين آخرين، وقد أشرنا الى الركن الاول وكان عن (خفض الضرائب حتى يصلح أمرهم)، واشرنا كذلك الى الركن الثاني: زيادة الإنفاق وصولاً إلى الإصلاح الاقتصادي، والركن الثالث: الإنفاق خاصة على المحرومين. وفيما يلي الركن الرابع: القضاء على الاحتكارات، والركن الخامس: إنفاق الأغنياء زائداً الإنفاق الشعبـي.

الركن الرابع: القضاء على الاحتكارات

وقد شدّد الإمام (عليه السلام) على منع الاحتكار بكافة أنواعه، حسبما نستظهره من كلامه (عليه السلام)، والاحتكار بإطلاقه تارةً، وبملاكه حيناً، يشمل كافة أنواع الاحتكار التالية:

ـ احتكار العرض monopoly on supply.

ـ احتكار الطلب monopoly on demand.

ـ الاحتكار الثنائي للبيع duopoly.

ـ الاحتكار الثنائي للشراء duopsony(1).

ـ احتكار الحكومة State monopoly.

ـ احتكار القِلة للطلب أو الشراء oligopoly.

ـ احتكار السوق buying upto market(2).

قال (عليه السلام): (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ؛ وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ.

فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ.

وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً؛ بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ: مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ.

فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ، فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ؛ "فَإنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) فَعَلَ ذَلِكَ"(3))(4)، وقد تطرقنا لذلك في الكتاب السابق(5)، وفي موضع آخر من هذا الكتاب(6)، ونضيف: والسبب العام هو أنّ الاحتكار يُخِلّ بالتوازن بين العرض والطلب، وأنه يفرض بضغط مصطنع، جموداً في الأسعار في سقف مرتفع، عبر خفض العرض كما قد يجري الدفع باتجاه رفع الأسعار عبر منع المنافسين من عرض منتجاتهم عبر الجمارك أو فرض نظام الحصص مثلاً، وبذلك يخلّ الاحتكار بقدرة الأسعار في نظام الأسواق الحرة على تحقيق التوازن بين العرض والطلب، بحسب مقدار مرونتهما، عبر استبدال ذلك بالتحكم في الكميات المباعة.

والاحتكار يخفض العرض فينتج البطالة، كما أنه على مستوى الاقتصاد الكلي يستلزم خفض الإنتاج الإجمالي، فنتائجه الضارة بالاقتصاد مدمّرة.

الركن الخامس: إنفاق الأغنياء زائداً الإنفاق الشعبـي

ويتميز منهج الإمام علي (عليه السلام) الاقتصادي بأنه يؤكد على:

أ ـ السياسة المالية الحكومية التوسعية بزيادة الإنفاق الحكومي لإصلاح البنية الاقتصادية التحتية من جهة، ولسدّ حاجات الطبقة المحرومة من جهة أخرى، فذلك هو ما سبق.

ب ـ كما يؤكد على السياسة المالية النوعية المتّكِئة على عطايا كبار الأثرياء وتبرعاتهم وصدقاتهم.

ج ـ والسياسة المالية الجماهيرية المعتمدة على عامة الناس.

وموجز الكلام عن ذلك(7):

أولاً: إنفاق الأغنياء حتى زوال الجوع

فإنه حسب النص الآتي، إن ذلك يعد من الواجبات الشرعية، إذ يقول (عليه السلام): (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ)(8). وقد يستظهر ان ذلك يتمصدق في الزكاة والخمس وما أشبه، فإن وفت بأقواتهم كما هو الظاهر إذا التزم الجميع بأداء ما عليهم من زكاة وكفارات... إلخ، فهو، وإلا فإن هذا الحديث قد يدلّ على وجوب هذا الحد الأوسع من الإنفاق، وعليه: لا تكون روايات الزكاة وشبهها مخصصة له، بل يكونان من قبيل المثبتين، لكنه قد يقال: إنه خلاف لسان بعضها كما هو مخالف للمشهور، فتأمل، وإذا تنزلنا فإن ذلك سيكون من مسؤولية الحكومة دون ريب.

وباجتماع الأركان الخمسة الماضية وتعاضدها لا يبقى للفقر حيّز ولا للجوع موقع.

أمثلية باريتو، في النص الديني، شواهد وأدلة

وقد تطرقنا في الكتاب السابق إلى أن قوله: (مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ)، يجسد القاعدة الاقتصادية الأكثر دقةً من (أمثلية باريتو)، إذ يوصلنا هذا النص إلى (أمثلية باريتو المحسّنة) بل ويتفوق عليها، فراجع(9).

إحصاءات عن الأغنياء والفقراء والجوعى

ولعلّ بعض الباحثين يصعب عليه تقبل هذه المعادلة: (مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ) إلا أن الأرقام والإحصاءات التالية، كغيرها، تشهد بذلك، فإننا إذا ألقينا نظرة فاحصة على ثروات أغنى أغنياء العالم لعرفنا صدق ذلك، بل إن بعض الإحصاءات تؤشر على أن ثروات المائة الأوائل من الشركات العابرة للقارات واتحادات المنتجين (Trusts cartels) تكفي لإنعاش كافة فقراء الأرض!.

فعلى سبيل المثال: قالت منظمة "أوكسفام" البريطانية غير الحكومية، إن ثروة 1 في المائة من أغنى أثرياء العالم تفوق ثروات بقية العالم مجتمعة.

وحثت أوكسفام في تقريرها الذي صدر قبيل قمة المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس زعماء العالم على اتخاذ إجراءات مناسبة لمواجهة عدم المساواة في امتلاك ثروات العالم.

واستقت المنظمة في تقريرها مواد من بحث أجرته شركة كريدي سويس السويسرية المصرفية بدءاً من أكتوبر/تشرين الأول.

وقالت المنظمة: إن ثروات 62 شخصاً من أغنى أغنياء العالم، تعادل جميع ثروات نصف سكان العالم الأفقر.

وانتقدت عمل جماعات الضغط، وتهريب مبالغ ضخمة فيما يعرف بالملاذات الضريبية.

وكانت أوكسفام قد تنبأت العام الماضي بأن يزيد ما تملكه قائمة نسبة الـ1 في المائة من أغنى أثرياء العالم ثروات العالم بأكمله.

ولكن هذه الأرقام ينبغي أن تؤخذ بقدر من الحذر، إذ أن المعلومات الخاصة بثروة أغنى الأثرياء يصعب الحصول عليها، وهذا يعني، كما يقول المصرف السويسري، إن ما ذكره بشأن قائمة الـ10 في المائة، وقائمة الـ1 في المائة، يحتمل الخطأ.

وتشير الأرقام في التقرير الدولي إلى أن بعضها تقديرات لمستويات الثروة خاصة في البلدان التي لا يوجد فيها إحصائيات دقيقة.

وقال التقرير: "بدلا من تأسيس اقتصاد من أجل ازدهار سكان العالم أجمع والأجيال المقبلة، خلقنا اقتصاداً لنسبة 1 في المائة من الأثرياء".

ووفقاً للبيانات التي حصلت عليها المنظمة، تبين أن ثروات نسبة قائمة الـ1 في المائة الأغنى في العالم انخفضت فيما بين عامي 2000 و2009م قبل أن ترتفع تدريجياً منذ ذلك الحين.

وأفادت البيانات بأن الأرقام المأخوذة من عام 2015م تشير إلى أن نسبة الثروة التي تمتلكها قائمة الـ1 في المائة فاقت ما كانت تمتلكه من قبل، بحسب تقرير عام 2000م.

وطالبت المنظمة قادة العالم بالعمل على تقليص الفجوة الكبيرة في الأجور بين العمال وأرباب العمل، كما طالبت بالقضاء على الهوة في الأجور بين النساء والرجال.

ودعت أوكسفام حكومات دول العالم إلى اتخاذ إجراءات لتخفيض أسعار الدواء، وفرض ضرائب على الثروات، واستخدام ثروات الدولة للقضاء على عدم المساواة(10).

فذلك شاهد واضح، ويمكن أيضاً الاستشهاد بإحصاءات من نوع آخر، إذ تشير بيانات قدمها موقع "Bankr" إلى أن الشركات العشر الأولى من حيث القيمة السوقية بلغت قيمتها الإجمالية 10.06 تريليون دولار في 13 ديسمبر 2020م. ويمثل هذا الرقم حوالي 11.93% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي المعدل لعام 2020م البالغ 84.27 تريليون دولار.

احتلت شركة "أبل" المرتبة الأولى مع رسملة سوقية 2.09 تريليون دولار، أو ما يعادل 2.48% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبفارق كبير جاءت شركة "مايكروسوفت" في المرتبة الثانية برأسمال سوقي 1.59 تريليون دولار، ولحقت بها شركة "أمازون" ـ والتي يحتل رئيسها التنفيذي، جيف بيزوس المرتبة الأولى في قائمة أثرياء العالم ـ مع قيمة سوقية للشركة 1.55 تريليون دولار، فيما كانت شركة تايوان لأشباه الموصلات صاحبة المركز العاشر برأسمال سوقي 470 مليار دولار(11).

ومن الصحيح أن كثيراً من الناس يملكون أسهماً كثيرة في هذه الشركات، ولكن، ومع ذلك تبقى حصة الأسد لثلة من كبار الأثرياء(12).

ومع قطع النظر عن ذلك فإن المعادلة: (مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ) صادقة حتى إذا لم تكن النسبة في كل الأزمنة بين كبار الأثرياء وبين الجياع هي كذلك(13)، وذلك لأن الأغنياء في المنطق الإسلامي لا يراد بهم الأثرياء بالمنطق المعاصر، بل يراد بهم معنى أعم يشمل غالب الطبقة المتوسطة، من أطباء ومهندسين ومحامين وقضاة ومستثمرين صغار ونظائرهم، وذلك لأن الفقير ضد الغني، والفقير شرعاً من لا يملك قوت سنته، فإذا ملك الشخص قوت سنته ما يؤمّن معيشته طوال السنة كان غنياً، فإن فاض وارده عن مؤونة سنته ومصارفه في شؤون معيشته، تعلق بهذا المقدار الزائد حق الفقراء، ولعل غالب الأطباء والمهندسين و... هم كذلك(14).

وبذلك تتأكد أكثر وتتضح بشكل أجلى المعادلة الاقتصادية التي أسسها الإمام (عليه السلام) وهي: (فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ)، فإنّ ما يأخذه الأطباء والمحامون والمهندسون والمعمارون والمؤلفون والأساتذة والمربون وأمثالهم إذا أخذوا فرضاً أكثر من حقهم الطبيعي المتعارف، الذي تقرره من جهة القيمة الاستعمالية للخدمات والسلع، ومن جهة القيمة التبادلية التي يحددها العرض والطلب في أسواق تنافسية عادلة، زائداً عوامل أخرى ذكرناها في بحث نظرية القيمة(15)، فإنه إجحاف لو كان ناتجاً عن الاحتكار أو الإكراه الأجوائي، وأما إذا أخذوا بمقدار حقهم الطبيعي فلو لم يدفعوا الضرائب المالية (الإسلامية لدى المسلمين أو غيرها لدى غيرهم) فإنهم يقتطعون من متعلق حق الفقراء حينئذٍ، لأن الفائض عن رأس السنة في الخمس والزكاة (وضريبة الدخل وضريبة المنتج ونظائرها، في الدول غير الإسلامية)، هو حق للفقراء والمساكين وسائر الأصناف الثمانية في الزكاة والأسهم الستة في الخمس، ولو التزم الجميع بدفع الضرائب التي عليهم كلها، وأوصلوها أو أوصلتها الحكومة إلى أهلها، لما جاع فقير قط، بل لما بقي فقير على وجه الأرض أبداً.

ثلم الحيطان كنمط مميز للإحسان

ومن النماذج الإسلامية المشرقة وعديمة النظير، في الإنفاق التطوعي، والذي يشكّل ركناً من أركان السياسة المالية التوسعية الشعبية، ويندرج في دائرة (الإحسان) كهدف من الأهداف القصوى للتنمية، القضية التالية التي وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وهي التي دخلت في الفقه كمسألة شرعية أيضاً، فقد جاء في موسوعة الفقه: (مسألة: يستحب ثلم الحيطان المشتملة على الفواكه والثمار إذا أدركت، وذلك ليأخذ منها الفقير بل مطلق الناس، ويستحب كثرة الإطعام منها، والتفريق على الجيران، وبذلك روايات: فعن عبد الله بن القاسم الجعفري، عن أبيه، قال: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِذَا بَلَغَتِ الثِّمَارُ أَمَرَ بِالْحِيطَانِ فَثُلِمَتْ)(16).

وقال الراوي عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام): (قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ بَلَغَنِي أَنَّكَ كُنْتَ تَفْعَلُ فِي غَلَّةِ عَيْنِ زِيَادٍ شَيْئاً وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ.

قَالَ الراوي: فَقَالَ (عليه السلام) لِي: نَعَمْ، كُنْتُ آمُرُ إِذَا أَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ أَنْ يُثْلَمَ فِي حِيطَانِهَا الثُّلَمُ لِيَدْخُلَ النَّاسُ وَيَأْكُلُوا. وَكُنْتُ آمُرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْ يُوضَعَ عَشْرُ بُنَيَّاتٍ يَقْعُدُ عَلَى كُلِّ بُنَيَّةٍ عَشَرَةٌ كُلَّمَا أَكَلَ عَشَرَةٌ جَاءَ عَشَرَةٌ أُخْرَى يُلْقَى لِكُلِّ نَفْسٍ مِنْهُمْ مُدٌّ مِنْ رُطَبٍ. وَكُنْتُ آمُرُ لِجِيرَانِ الضَّيْعَةِ (كُلِّهِمُ الشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ وَالْمَرْأَةِ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجِي‏ءَ فَيَأْكُلَ مِنْهَا) لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مُدٌّ.

فَإِذَا كَانَ الْجَذَاذُ أَوْفَيْتُ الْقُوَّامَ وَالْوُكَلَاءَ وَالرِّجَالَ أُجْرَتَهُمْ، وَأَحْمِلُ الْبَاقِيَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَفَرَّقْتُ فِي أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَالْمُسْتَحِقِّينَ الرَّاحِلَتَيْنِ(17) وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَحَصَلَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَكَانَ غَلَّتُهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ)(18))(19).

وهذه الرواية مع ضمّها إلى نظائرها الكثيرة تحمل في ثناياها الدلالة على أن استراتيجية الإحسان والإنفاق، كانت تشكّل خطاً ثابتاً في مسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه المعصومين (عليهم السلام)، ولم تكن حدثاً طارئاً أو قضية خارجية مرتهنة بزمان خاص أو مكان خاص، بل كانت ظاهرة تغطي مساحة كبيرة من حياتهم على امتداد التاريخ، كما تكشف عن أنّ الإنفاق التطوعي كان منهجاً يمارسه القادة الربانيون بأنفسهم، كما كانوا يهندسون على ضوئه حياة الناس وأصحاب الثروات، إذ: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِذَا بَلَغَتِ الثِّمَارُ...)، والظاهر أن الأمر كان إرشادياً لا مولوياً، فيما إذا أريد أنه (صلى الله عليه وآله) كان يأمر الناس بثلم حيطان بساتينهم، ويحتمل كونه مولوياً لضرورة طارئة، لكنه يضعّفه تعبيره بـ (كان) الدال على الاستمرارية، ويحتمل، بل هو الأظهر، كون المراد من الحيطان التي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يأمر بثلمها، الحيطان المملوكة لبيت المال، من الصدقات والأنفال وشبهها، فتدل على السياسة التوسعية الحكومية.

وأما الأسلوب الذي اتّبعه الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) فإنه كان يشكّل نوعاً من التنظيم الأنسب والأسهل والأقل تكلفة لعملية التوزيع في ذلك الزمن، وقد يكون هو الأرجح في زمان، ويكون غيره الأنفع لزمان آخر، خاصة وأن الحيطان كانت طينية يسهل ثلمها ثم بناؤها، ولعلها كانت تثلم من أنحاء مختلفة نظراً لمساحتها الواسعة، كي لا يضطر الفقراء إلى المشي مسافة كبيرة للوصول إلى الثمرات، حتى يتيسر لكل من يصل من طريقٍ من الطرق الدخول إليها من الثلمة التي تواجهه والحصول على سهمه من أقرب الأشجار إليه.

وهذه الرواية ونظائرها الكثيرة، تعكس نموذج الحكومة الشعبية المصغرة، للقادة الربانيين، كما في قضية الإمام الصادق (عليه السلام)، ولعله يستفاد منها أن هذه السيرة والمسيرة هي التي يلزم أن تتواصل وتستمر وتتعاظم حتى تبلغ مرحلة الحكومة الرسمية ـ المصطلحة، كما في قضية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

كما يستفاد من رواية الإمام الصادق (عليه السلام) أحد أنماط الأعمال والمسؤوليات التي يلزم أن تضطلع بها مؤسسات المجتمع المدني.

ومن جهة أخرى فإن هذه الرواية ونظائرها، تضطلع بتوسيع إطار الرؤية التي ينبغي أن ينظر بها المتدين نحو أعمال البر والأوقاف، فإنّ المعهود لدى الناس هو أن البر يتجسد في بناء المساجد والحسينيات وشبهها، ولا شك أن ذلك من أفضل وجوه البر، ولكن البرّ لا يقتصر على ذلك من وجهة نظر دينية، بل وحسب سيرة قادة الإسلام، فإن نشاطاً كهذا النشاط الاقتصادي الذي يوفّر مصدر رزق احتياطي للفقراء المعوزين، لهو من أساسيات البر والإحسان والعمل الديني.

كما أن مقتضى القاعدة أنّ المشاريع الاقتصادية التطوعية، ينبغي أن يخطط لها بحيث تفي بالحد الأدنى من حاجات الفقراء، إضافة إلى توفير فائض والذي قد يصرف على تحسين المشروع وتطويره وعلى سائر نفقاته وغير ذلك من الاستحقاقات.

وأخيراً: فإن ما تكشفه لنا مختلف صفحات التاريخ التي تضمنت مختلف مواقف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تجاه الفقراء والمساكين، هو أن مخطط القادة الربانيين الاقتصادي لم يكن يقتصر على ذلك وحده، أي على إعطاء رزق يومي للمحتاجين بقدر حاجتهم الآنية، بل وكما ذكرنا في مواضع أخرى فإن مشاريعهم الاقتصادية ومخططاتهم كانت شاملة تحتوى فيما تحتوى على توفير رأسمال للمعوزين لأجل الاستثمار والتجارة، تقديم المشورة والنصيحة الاقتصادية، وإعطاء الفقراء أراضي ومزارعً وبيوتاً وغير ذلك.

هل الإنفاق المستحب يندرج في علم الاقتصاد أم في الأخلاق؟

وقد تساءل بعض العلماء (الإنفاق المستحب هل يدخل في علم الاقتصاد أم يدخل في الأخلاق والدين؟ يعني حل بعض المشاكل الاقتصادية للفقراء عبر ترغيب الناس في الآخرة أو بتحريك الأخلاق أو العاطفة، وهذا أمر سيّال يحتمل الزيادة والنقصان ويدخل في باب آخر غير علم الاقتصاد مع أنه مرتبط به) - انتهى.

الجواب: إن الموصوف يدخل في علم الاقتصاد بما له من الآثار والتموجات، وأما الوصف(20) فإنه المندرج في دائرة الأخلاق والفضائل والدين، وبتعبير آخر: الجهة المعيارية، استحباب الإنفاق، داخلة في الأخلاق، وأما الجهة الموضوعية وهي الإنفاق نفسه وبما يحمله من تأثيرات على العمالة وخفض البطالة وخفض نسبة الفقر وشبه ذلك فإنه يدخل في علم الاقتصاد.

وبعبارة ثالثة: إن علم الاقتصاد يتناول الإنفاق الشرعي(21) لا من باب استحبابه، بل باعتباره ظاهرة تنجم عنها، وبحسب حجمها، نتائج اقتصادية متنوعة ومتعددة، كـ (زيادة الطلب الكلي) نتيجة زيادة الإنفاق (إنفاق الفقراء لأموال الصدقات التي تصل إليهم على مستوى الشعب كله)، وزيادة نسبة العمالة نتيجة للعامل الأول، كما أن حجم الإنفاق التبرعي قد يؤثر، سلباً أو إيجاباً، على حجم الاستيراد أو حجم التصدير(22).

ثم إن السياسة الاقتصادية قد تبتني على استثمار الإنفاق التبرعي، بحسب درجاته، في ضبط بوصلة التنزل الشديد المؤدي إلى الركود، وإلى تسريح مئات الألوف من العمال وغير ذلك، كما أنها قد يجب عليها التخطيط، بالتعاون مع الوزارات والجهات المعنية، لزيادة حجم الإنفاق التبرعي، أو حتى خفضه إذا تجاوز الحد الطبيعي ودخل دائرة الإسراف والتبذير والذي قد ينتج التضخم نتيجة زيادة الطلب.

ثانياً: الإنفاق الجماهيري والعام

ولم يكتف الإمام علي (عليه السلام) بالحديث عن حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، بل سلّط العدسات على الصدقات العامة كخطٍ موازٍ وكملمحٍ من أهم ملامح السياسة الاقتصادية الإسلامية الشعبية، وباعتبار كون الأمرين معاً (عطايا الأغنياء وتبرعات الطبقة المتوسطة والفقراء) كجناحي الطائر يشكّلان استراتيجية من أهم استراتيجيات التنمية الاقتصادية والبشرية، وفي الحديث التالي إشارة إلى بعض مديات الصدقة ونطاقاتها، فقد أشار الإمام (عليه السلام) إلى بعض مصارف الصدقة بقوله:

(فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً:

فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ،

وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ،

وَلْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَالْعَانِيَ،

وَلْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ،

وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ،

فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَدَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ)(23).

* مقتبس من كتاب (التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي عليه السلام) المجلد الثاني، لمؤلفه: السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

..................................................

(1) duopoly buying.

(2) market monopoly.

(3) ورد في تحف العقول.

(4) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(5) بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن: ج1 ص545 و575 و606.

(6) عنوان (أنواع الاحتكار) و(منع ارتفاع الأسعار والأجور).

(7) وللتفصيل يراجع كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن): ج2 ص287ـ 333.

(8) نهج البلاغة: الحكمة 328.

(9) بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن: ج1 ص639.

(10) موقع BBC، 18 يناير، كانون الثاني 2016م.

(11) 11 سبتمبر 2021م www.alarabiya.net.

(12) علّق بعض العلماء بـ: (يلزم حل هذا الإشكال: تارة الثري يستحوذ على الثروات الطبيعية والتجارات و... فيكوّن ثروته، وتارة يخترع اختراعاً ويؤسس عملاً ثم تحصل رغبة للناس فيه فترتفع قيمة تلك الشركة مثل شركة ميكروسوفت، أو تويتر ونحو ذلك، فقد حصل على ثروته من كد اليمين، ومن دون استفادة من الثروات الطبيعية) انتهى.

 أقول: الظاهر أنه لا إشكال في ذلك، فأي مانع من أن تزداد الثروة بالطرق المشروعة مادام لم يستحوذ الأثرياء على الامتيازات بالمحاباة في المناقصات وعبر ضغوط جماعات الضغط على المسؤولين كي يمنحونهم ويحرموا الآخرين ما الناس فيه سواء، وما داموا ملتزمين بدفع الخمس والزكاة (أو الضرائب الأخرى حسب مذهبهم ـ وطبقاً لقاعدتي الإمضاء والإلزام)، فالإشكال كل الإشكال في مبدأ الثروة وأنه كيف حصل عليها، بحق أو باطل، وفي منتهاها وأنه هل صرفها في حلها وأدى ما عليه من الحق فيها؟ وأما ما بينهما فلا بأس به.

(13) أي لم يكن جوع الفقراء، على امتداد تاريخ العالم، حصرياً ناتجاً عن تمتع أثرى الأثرياء بثروات خيالية.

(14) وأما الغني فهو: من يرجع إلى كفاية (أي إلى ما يكفيه من صنعة أو حرفة أو غيرها) أو الذي لا يحتاج إلى غيره، فإن كان كذلك كان غنياً حتى لو لم يكن له فائض فكيف بما إذا كان له فائض؟

(15) يراجع (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن): ج2 ص25ـ 178.

(16) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية: ج3 ص569.

(17) الراحلة: البعير القوي على الأحمال والأسفار، والناقة التي تصلح لأن ترحل.

(18) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية: ج3 ص569.

(19) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه: الزرع والزراعة: ص68.

(20) الموصوف هو الإنفاق، والوصف هو المستحب.

(21) حول الاقتصاد التبرعي يراجع (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن): ج2 ص308.

(22) تبعاً لإنفاق أي شيء، وعلى أية جهة داخلية أو خارجية، فقد يكون الإنفاق موجهاً في معظمه لفقراء الدول الأخرى فيزداد حجم التصدير، وقد يكون موجهاً إلى الداخل ولكن اعتمد بالأساس على بضائع مستوردة من الخارج.

(23) نهج البلاغة: الخطبة 142.

اضف تعليق