رعايتهم الشاملة تعدّ حقاً من حقوقهم، وليست فضلاً من الحاكم أو نافلة يمكن التغاضي عنها، حقوقهم تعتبر بنداً من بنود الدستور الذي لا يمكن تجاوزه أو تغييره، كما لا يتمتع الحاكم بالحق في إهمال أدنى حق من حقوق الفقراء متذرعاً بأنه منغمس بالقضايا الاستراتيجية الأهم، بل عليه أن يتواضع لهم ويخدمهم...

وفي إطار أوسع، وفي إطار التنمية البشرية والاقتصادية يمكننا، بوجه آخر، تلخيص رؤوس نقاط مسؤوليات الحكومة وخصوصيات هذه المسؤوليات تجاه الفقر المطلق، والفقراء والطبقة المحرومة، وحالة عدم المساواة والتفاوت الطبقي بحسب نصوص الإمام (عليه السلام) في عهده للأشتر، وذلك في النقاط التالية التي تمنح معالجة مشاكل الطبقة المحرومة، من فقر ومرض وغير ذلك، الأولوية المطلقة وتحمّل الحاكم المسؤولية الكاملة عن تضييع أدنى حق من حقوقها، كما تضع آليات للاطمئنان على اضطلاع الحكام بمسؤولياتهم على أكمل وجه: 

الطبقة المحرومة على جدول الأولويات

أولاً: إنّ التنمية الشاملة، الاقتصادية وغيرها، للطبقة المحرومة يجب أن تكون على جدول أولويات المسؤولين، إذ يقول (عليه السلام): (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى، مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَذَوِي الْبُؤْسِ وَالْزَمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً)، وفي قوله (عليه السلام): (اللَّهَ اللَّهَ) من الدلالة على أهمية ما يدعو إليه ما لا يخفى على كل عارف باللسان.. إذ يعني: أذكّركم الله.. أو أحذركم من الله.. إن لم تؤدوا إليهم حقوقهم، وفي ذلك أبلغ التذكير والتحذير.

وذلك حق وليس فضلاً

ثانياً: إن رعايتهم الشاملة تعدّ حقاً من حقوقهم، وليست فضلاً من الحاكم أو نافلة يمكن التغاضي عنها، بل إنها تشكّل حقاً من حقوق الله تعالى على الحاكم، كما أنها حق من حقوق الإنسان عليه، كما سبق، وذلك إذ يقول: (فَاحْفَظِ اللَّهَ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ).

وحقّهم خطر أحمر

ثالثاً: إنّ حقوق الطبقة المحرومة حتى أصغرها شأناً ومقداراً تعد خطاً أحمر، أو بعبارة أخرى: إن حقوقهم تعتبر بنداً من بنود الدستور الذي لا يمكن تجاوزه أو تغييره، كما لا يتمتع الحاكم بالحق في إهمال أدنى حق من حقوق الفقراء متذرعاً بأنه منغمس أو منشغل بالقضايا الاستراتيجية الأهم، إذ يقول (عليه السلام): (فَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ نَظَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ الصَّغِيرِ لِإِحْكَامِكَ الْكَبِيرَ الْمُهِمَّ)،والجملة الأخيرة: (فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ...) تشكل مفتاحاً من أهم مفاتيح القيادة السياسية ـ الاقتصادية والاجتماعية في منهج الإمام علي (عليه السلام) التي لا تسمح بتضييع حقوق المحرومين متذرعاً بذريعة قاعدة الأهم والمهم! والتي يؤكدها (عليه السلام) مرة أخرى بقوله (عليه السلام): (فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ).

وعلى الحاكم أن يخدمهم ويتواضع لهم

رابعاً: إنّ المطلوب من الحاكم ليس فقط أن يرعى الفقراء ويقضي حوائجهم ويقدّم لهم كافة مستلزمات العيش الكريم ويحافظ على حقوقهم، بل عليه مع ذلك أن يتواضع لهم ويخدمهم ويكون لهم كجندي تحت الطلب، إذ يقول (عليه السلام): (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَوَاضَعْ لِلَّهِ يَرْفَعْكَ اللَّهُ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلضُّعَفَاءِ)(1)، فكما أن المطلوب شرعاً أن يخفض الإنسان جناحه لوالديه: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)(2)، كذلك على الحاكم أن يخفض جناحه للضعفاء!

وأن يؤسس جهازاً مستقلاً لرعايتهم

خامساً: وتتضمن لائحته (عليه السلام) الدستورية قراراً بتطوير هيكلي في إدارة شؤون المحرومين، وذلك عبر تكوين جهاز مستقل يتشكل من الثقاة من أهل الخشية من الله، وممن منهجهم التواضع في أنفسهم وقلوبهم، ومسلكهم يتفرغ تماماً لرعاية شؤونهم، فبعد قوله: (وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ)، يوجّه أمراً صريحاً بـ: (فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ).

مواصفات مسؤولي رعاية شؤون المستضعفين

وقد اشترط (عليه السلام) في القائمين على رعاية شؤون المستضعفين المواصفات النموذجية التالية: (فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، "مِمَّنْ لَا يَحْتَقِرُ الضُّعَفَاءَ، وَلَا يَسْتَشْرِفُ الْعُظَمَاءَ"(3) فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ)(4)، فهو إذاً جهاز متفرغ لرعاية شؤون الطبقة المستضعفة(5) يتّسم بالصفات التالية:

1 ـ أن يكونوا ثقاة جديرين بالاعتماد عليهم.

2 ـ أن يكونوا من أهل الخشية والخوف من الله تعالى، والخشية منه (جل اسمه) تشكل وازعاً داخلياً قوياً رادعاً عن استغلال حاجة الضعفاء من أجل تمشية مآرب الأقوياء، كاستغلالهم للتصويت في الانتخابات لصالحهم أو استغلال ضعفهم للاستحواذ على بعض حقوقهم.

3 ـ أن يكونوا من أهل التواضع، والتواضع على أقسام أربعة وهي: التواضع لله سبحانه، والتواضع للناس، والتواضع للعلم، والتواضع للعمل(6)، لكن المنصرف منه هو الأولان أو الثاني خاصة، وذلك بحسب مناسبات الحكم والموضوع.

4 ـ أن لا يكونوا ممن يحتقرون الضعفاء.

5 ـ ولا ممن يضعفون أمام الأقوياء ويستشرفون العظماء فيحابونهم ولو على حساب الحقيقة، و(يستشرفون) يعني يطلبون الشرف لديهم أو منهم، أو يعتبرونهم الشرفاء لمجرد أنهم أقوياء أو أغنياء.

ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بهذه المواصفات حتى أضاف إليها، في مقطع آخر، صفات أخرى تبلغ بالأعوان والمسؤولين عموماً، مرتبة القديسين أو بحسب التعبير العرفي: مرتبة الملائكة، فقال (عليه السلام): (وَلْيَكُنْ أَكْرَمُ أَعْوَانِكَ عَلَيْكَ وَأَحْظا [هُمْ] عِندَكَ، أَلْيَنَهُمْ جَانِباً، وَأَحْسَنَهُمْ مُرَاجَعَةً، وَأَلْطَفَهُمْ بِالضُّعَفَاءِ، وَأَعْمَلَهُمْ بِالَحَق. إِنْ شَاءَ اللَّهُ) والمواصفات، بعبارة أخرى، هي:

6 ـ أن يكونوا ألين الناس جانباً، مما يعني أنه لا يكفي مجرد أن يتحلوا بالرفق وينبذوا العنف إذ اللين شعاع من أشعة رحمة الله، قال تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)(7).

7 ـ وأن يكونوا أحسن الناس تعاملاً مع المراجعين والسائلين.

8 ـ وألطف الناس بالضعفاء.

9 ـ أن يكونوا أشدّ الناس عملاً بالحق وأقواهم تمسكاً به.

وتتميز المواصفات التي اشترطها (عليه السلام) في الأعوان والمسؤولين بأنها مما تندرج في دائرة صيغ أفعل التفضيل (ألين، أحسن، ألطف، وأعمل) حيث إنه (عليه السلام) لم يكتف بمجرد أن يكون الأعوان والمسؤولون ليّني الجانب، حسني المراجعة، لطفاء بالضعفاء، وعاملين بالحق، بل لابد أن يكونوا القمة في ذلك كله... وما أصعب ذلك وما أندره؟

والمقصّر محاسب ومعاقب

سادساً: ولم يكتف (عليه السلام) بذلك كله حتى أكّد ذلك بوجه آخر أقوى وأعمق وأبلغ، إذ قال (عليه السلام): (ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ)، وهذا يعني أن رعاية شؤون المستضعفين مسؤولية شرعية إلهية، وليست مجرد حكم إداري أو قانون حكومي، مما يعني أن المقصّر فيها غير معذور، بل إنه يواجه بالحساب الإلهي والعقاب في الآخرة، كما أنه يقابل بالعقوبة في الدنيا أيضاً.

والواجب إجراء الأرزاق الوافية لهم

سابعاً: ولم يتوقف (عليه السلام) عند حدِّ الأوامر الكلية، بل إنه (عليه السلام) ترجم ذلك إلى قرارات وصيغ محددة اقتصادية، إذ أنه بعد قوله: (وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَالزَّمَانَةِ وَالرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ)(8)، قال (عليه السلام): (فَأَجْرِ لَهُمْ أَرْزَاقاً، فَإِنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ، فَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِتَخَلُّصِهِمْ، وَضَعْهُمْ مَوَاضِعَهُمْ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تَخْلُصُ بِصِدْقِ النِّيَّات‏)، و: (اجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ)(9).

وهذا الكلام ظاهر في تحديد مخصَّصات دورية، قد تكون شهرية أو أسبوعية أو غير ذلك، ولا يكفي أن تكون المرتبات (الدفعات التحويلية) دون مستوى الكفاف، بل يجب أن تفي بكافة شؤون حياتهم الصحية والتعليمية ونظائرهما مما عدّ حقاً عرفاً، إضافة إلى شؤون المأكل والمشرب والملبس والمركب، فإنه (عليه السلام) قام بتحديد سقف ذلك بـ: (وَضَعْهُمْ مَوَاضِعَهُمْ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ‏)، فالمسؤولية لا تقتصر على تكفّل البعد المادي والاقتصادي فحسب، بل تتسع لتشمل دائرة كافة الحقوق، فإن (حُقُوقِهِمْ) تشمل كافة الحقوق الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، ذلك أن (الحقوق) موضوع عرفي، فكلما صدق عليه أنه حق عرفاً(10) وجب على الحكام أن يتكفلوا بحفظه وصيانته، ومن ذلك في هذا الزمن، أو مطلقاً، حق المشاركة السياسية للرجل والمرأة، بل وحتى للطفل الصغير والرضيع، عبر وليه الشرعي(11)، وذلك عبر صناديق الاقتراع وغيرها، لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ)(12)، وحق توفير فرص العمل المناسب عبر السياسة المالية التوسعية أو السياسة النقدية المتساهلة أو الخليط منهما، فإن توفيرها من الحقوق العرفية دون ريب، إضافة إلى شمول مثل: (مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ يَعُولُ)(13)، له، لأن الشعب عيال على الحكومة(14)، وحق بناء الأسرة الصالحة (حق الزواج وإنجاب الذرية بدون قيود حكومية)، وحق الاستمتاع، بالقدر اللازم، بزينة الحياة الدنيا والترفيه السليم، قال تعالى: (قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ)(15)، إلى غير ذلك.

مغايرة الحق للحكم

وقد اعترض بعض العلماء بـ: (قد يقال: إن الحق ـ وإن وقع موضوعاً في الجملة ـ إلا أنه ليس بموضوع بل هو حكم، وحينئذٍ لا يرتبط بالعرف بل هو مرتبط بالشرع، مثلاً لو رأى العرف أن من حق الزوجة أن تخرج من المنزل أو لا تمكّن... فلا يشمله أدلة وجوب رعاية الحق، لا لأن ذلك يخالف الشرع فحسب، بل لأنه ليس بحق أصلاً، فتأمل، كما أن الغرب فرض حضارته فصارت بعض الأمور حقاً عرفاً لكن الشرع لا يعتبرها حقاً).

والجواب: الظاهر أن الحق غير الحكم، لغةً وعرفاً وشرعاً. وأنه قد يقع موضوعاً للحكم وليس هو هو، ويدل عليه فيما يدل قوله (صلى الله عليه وآله): (لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)(16) إذ ظاهر (يَتْوَى) الذي يعني (يضيع) أن متعلقه الحق بالمعنى المعهود لا الحكم، وعلى أيٍّ فإن إرجاع الحق إلى الحكم هو كإرجاع الأحكام الوضعية إلى التكليفية الذي ذهب إليه الشيخ الانصاري (قدس سره) خلافاً للمشهور، على أن إرجاع بعض الحقوق إلى الأحكام مما لا يضر بكونها مرتهنة بالعرف، فلو أرجعنا حق السفر والحضر مثلاً إلى الحكم، أي إلى جواز السفر والحضر، لما أضرّ بأن هذا الحق أمره بيده، فله أن يأخذ به وله أن لا يأخذ به، بل له أن يصالح غيره على تركه أو على الالتزام به مقابل مبلغ ما، كما أن القول بأن حق الطاعة حكم لا يضر بأن للزوج أو الأم إسقاطه. مع أن الأحكام لا يمكن إسقاطها، إلا أنه لو أرجعنا الحقوق إلى الأحكام لكانت الأحكام على قسمين، ثانيهما ما يمكن إسقاطه، فتأمل.

وأما حق الزوجة في الخروج من المنزل، فقد التزم السيد الأستاذ الوالد (قدس سره) بأن المقياس هو: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف)(17)، فيحق لها الخرج من المنزل في إطار العشرة بالمعروف، كما لو خرجت لزيارة والديها أو شبه ذلك، لا بالقدر الذي يفوّت حقوقه الزوجية.

بوجه آخر: الحقوق عرفية إلا ما أخرجه الشارع، فما اعتبر حقاً عرفاً مع نهي الشارع عنه لا يصلح نقضاً على ما اعتبر حقاً من دون نهيه، فأين ما لو اعتبر العرف الربا حقاً مما لو اعتبروا حقوق المؤلف في الطبع حقاً؟

ثم إن كون منشأ حقٍ جعلُ الشارع حكماً ما في مورده لا ينفي ثبوت حقوق أخرى لم يجعل الشارع في موردها حكماً، بل اعتبرها العرف حقاً، فيشملها: (لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)، قهراً وقد فصّلنا الكلام عن ذلك وغيره في (فقه الحقوق)، كما حققه الأعلام من أمثال المحقق اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب، والسيد الوالد (قدس سره) في الفقه: البيع.

وفتح المسؤولين أبواب التواصل المباشر معهم

ثامناً: ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بذلك حتى أمر بفتح المسؤول الأعلى أبواب التواصل المباشر بينه وبين كافة أفراد الطبقة المحرومة ومطلق المحتاجين وذوي الحقوق، ليلتقوا به دون حواجز وحجّاب وروتين وبيروقراطية، فقال: ("ثُمَّ إِنَّهُ لَا تَسْكُنُ نُفُوسُ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ إِلَى أَنَّكَ قَدْ قَضَيْتَ حُقُوقَهُمْ بِظَهْرِ الْغَيْبِ دُونَ مُشَافَهَتِكَ بِالْحَاجَاتِ"(18)، وَذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ. وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا نُفُوسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ(19). "فَكُنْ مِنْهُمْ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ"(20).

وقال (عليه السلام): (وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ "وَذِهْنَكَ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ، ثُمَّ تَأْذَنُ لَهُمْ عَلَيْكَ"(21)).

وقضاء مختلف ألوان حاجاتهم وسائر الناس

تاسعاً وعاشراً: ووسّع الإمام (عليه السلام) دائرة المسؤولية والتنمية لتشمل إلى جوار الحاجات الاقتصادية، كافة أنواع الحاجات الأخرى الاجتماعية والسياسة وغيرها، كما وسّع من نطاق المسؤولية عن خصوص الطبقة المحرومة، إلى المسؤولية عن عامة فئات الشعب ممن كانت له حاجة، أية حاجة، إلى الحاكم(22)، فقال (عليه السلام): (وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً تَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ(23)، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ. "تَخْفِضُ لَهُمْ فِي مَجْلِسِكَ ذَلِكَ جَنَاحَكَ، وَتَلِينُ لَهُمْ كَنَفَكَ فِي مُرَاجَعَتِكِ وَوَجْهِكَ"(24)، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).

وهذه القاعدة في الانفتاح المباشر على الشعب وتفريغ الحاكم الأعلى (وسائر المسؤولين بالتبع) بشكل كامل، قسماً من أوقاته دورياً، وبكل تواضع ليتعامل معه الناس مباشرة، من دون وجود رقيب أو حسيب أو شرطي أو حارس أو مساعدين أو أعوان، كي لا تتملك المراجعين الرهبة، ولا يحجموا عن الكلام بحرية مطلقة، مخافة المحاسبة أو المعاتبة، فكيف بالملاحقة والمعاقبة، مما لا نجد له نظيراً في كافة دساتير/ قوانين عالم اليوم ولا في الأعصار السابقة.

وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: (وغير متتعتع: غير مزعج ولا مقلق، والمتتعتع في الخبر النبوي: المتردد المضطرب في كلامه عيّاً من خوف لحقه، وهو راجع إلى المعنى الأول)(25).

والتعامل معهم بمنتهى الرفق والمثالية

حادي عشر: ولم يكتف الإمام (عليه السلام) بذلك كله حتى اعتبر سعة الصدر والسماحة والحلم والتحمل والإعطاء من دون منّة أو أذى، أو المنع بكل لطف وأدب، والتواضع، شروطاً أساسية في تعامل الحاكم مع كافة آحاد الناس، الذين يحتاجون إلى عدله وإنصافه، أو إلى نجدته وإسعافه، فقال (عليه السلام): (ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ وَنَحِّ عَنْكَ الضَّيْقَ وَالْأَنَفَ، يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ أَهْلِ طَاعَتِهِ، فَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ، وَتَوَاضَعْ هُنَاكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ).

وفي شرح النهج: (ثم بيّن له (عليه السلام) أنه لا بد له من هذا المجلس، لأمر آخر غير ما قدّمه (عليه السلام)، وذلك لأنه لا بد من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه والنواب عنه، فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه، ولا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه ما يعيا كُتّابه عن جوابه فيجيب عنه بعلمه، ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلع الكتّاب عليه فيجيب أيضاً عن ذلك بعلمه‏)(26).

* مقتبس من كتاب (التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي عليه السلام) المجلد الثاني، لمؤلفه: السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

................................................. 

(1) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(2) سورة الإسراء: الآية 24.

(3) ورد في دعائم الإسلام: ج1 ص366.

(4) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(5) للتفصيل يراجع (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية): ص215 ـ 220.

(6) جرى تفصيل ذلك في بعض كتب السيد الأستاذ الوالد (قدس سره) الأخلاقية ومحاضراته، يراجع مثلاً كتاب (الفضيلة الإسلامية).

(7) سورة آل عمران: 159.

(8) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(9) بحار الأنوار: ج74 ص258 ب10 عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الأشتر...

(10) ولم يخالف الشرع.

(11) فصّل الأستاذ الوالد (قدس سره) الكلام عن شمول حق التصويت للصغار في (الفقه الحقوق) وغيره.

(12) سورة الشورى: 38.

(13) ثقة الإسلام الكليني، الكافي: ج4 ص12.

(14) فصّلنا الكلام عن ذلك في الكتاب السابق (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن): ج1 ص701.

(15) سورة الأعراف: 32.

(16) المحدث النوري، مستدرك الوسائل: ج17 ص447 ب46 ح5.

(17) سورة النساء: 19.

(18) ورد في تحف العقول: ص100، وفي دعائم الإسلام: ج1 ص366.

(19) (لِمَنْ صَبَرَ وَاحتَسبَ) ورد في تحف العقول: ص100.

(20) ورد في تحف العقول: ص100.

(21) ورد في تحف العقول: ص100. وفي دعائم الإسلام: ج1 ص366.

(22) وذلك حيث إنه (عليه السلام) بعد أن تحدث عن الطبقة السفلى، عطف الكلام إلى عنوان أعم وهو (الناس) فقال: (ثُمَّ إِنَّهُ لَا تَسْكُنُ نُفُوسُ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ إِلَى أَنَّكَ قَدْ قَضَيْتَ حُقُوقَهُمْ بِظَهْرِ الْغَيْبِ دُونَ مُشَافَهَتِكَ بِالْحَاجَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ. وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا نُفُوسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ. فَكُنْ مِنْهُمْ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ.

 وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ "وَذِهْنَكَ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ، ثُمَّ تَأْذَنُ لَهُمْ عَلَيْكَ")

(23) (رَفعك) ورد في تحف العقول: ص100. وفي دعائم الإسلام: ج1 ص366.

(24) ورد في تحف العقول، ودعائم الإسلام.

(25) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج17 ص88.

(26) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مكتبة المرعشي: ج17 ص88.

اضف تعليق