وقد نبّه (عليه السلام) إلى أنَّ العلاقات التجارية تفيد الشعوب وعامة البشرية من جهة أنها سبب استقرار السّلم والصلح بين أفراد الأمة، وبين الشعوب، فالرابطة التجارية المبنية على تبادل المنافع والحوائج تكون ودّية وأخوية عادةً، وهذا هو أساس الوداد العقلاني الصادق الثابت، فإنَّ المتبادلين للحوائج والمنافع يحبّ كل منهما الآخر...
والتجارة trade والصناعة industry عاملان من أهم عوامل التنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة، ومحركان من أهم محركاتها، وربما تطلق التجارة على الاستثمار investment أيضاً، إما حقيقة وإما توسّعاً، وإن كانا حقيقتين مختلفتين بالنظرة الدقية ولدى علماء الاقتصاد أيضاً(1).
وفي نصوص الإمام (عليه السلام) جرى التركيز على هذين القطاعين الحيويين كمقومين أساسيين من مقوّمات التنمية الاقتصادية والبشرية / المجتمعية، إذ يقول (عليه السلام): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً؛ الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ(2). فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا. "فَاحفَظ حُرمَتَهُم، وآمِن سُبُلَهُم، وخُذ لَهُم بِحُقوقِهِم"(3)؛ فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ. وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ)(4).
ويقول (عليه السلام): (وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ، مَا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ)(5).
وقال (عليه السلام): (أَفْضَلُ الْكُنُوزِ حِرْفَةٌ تُدَّخَرُ)(6).
التجارة والصناعة على مستوى الاقتصاد الكلي
والنصوص السابقة بضميمة نصوصه (عليه السلام) الأخرى عن الزراعة ونصوصه المتعددة عن دور الحكومة وعن موقع الشعب في عملية الإصلاح الاقتصادي، دليل وشاهد على استراتيجية التنمية المتوازنة balanced development، كما أوضحناه في مبحث استراتيجيات التنمية.
وسوف نعقد فصلاً خاصاً في هذا الكتاب للحديث عن التجارة، وفصلاً آخر للحديث عن الزراعة(7)، ولكننا في هذا الفصل نكتفي بنصوصه (عليه السلام) العامة التي تتحدث عن التجارة والصناعة في إطار التنمية.
ثمرات التجارة والصناعة في الاقتصاد الكلي
وللتجارة والصناعة دور رئيس ومفتاحي في حلّ/تخفيف المشاكل الاقتصادية الكبرى: البطالة، التضخم، الفقر، (وصولاً إلى الرفاه الاجتماعي)، الاختلال في الميزانية أو العجز في الميزانية والعجز التجاري:
أولاً: خفض نسبة البطالة وزيادة التشغيل والعمالة بشكل مباشر، وذلك واضح، ولكن يضاف إليه دورهما في خفض نسبة البطالة بشكل غير مباشر، فإنه ليس بالقليل أيضاً: أما الصناعة فلأنها تزيد إنتاجية الزراعة(8) التي تزيد عوائد المزارعين التي تحفزهم على زيادة الطلب الذي يحفز العرض الذي ينتج زيادة التشغيل، وأما التجارة فلأنها المنفذ للتسويق الذي يضمن تصريف المحاصيل مع ازديادها ونموها، والذي ينعكس إيجابياً على التشغيل والعمالة.
ثانياً: إن الزراعة والصناعة في إطار المنافسة الكاملة perfect competition، من أهم أسباب استقرار الأسعار وانخفاض التضخم نتيجة كثرة عرض المنتجات الصناعية والزراعية حتى الوصول إلى نقطة التوازن.
ثالثاً: إنهما عاملان أساسيان في زيادة الرفاه الاجتماعي social welfare، وهما إلى جوار قطاعي الزراعة والخدمات من أهم طرق خفض نسبة الفقر، بل حتى القضاء عليه نهائياً إذا كانا مصحوبين من جهة: بسياسة مالية تتخذ خفض الضرائب وزيادة الإنفاق مهما أمكن استراتيجية لها(9)، ومن جهة أخرى بسياسة نقدية متوازنة إلى جوار ذلك (توسعية عند انكماش الاقتصاد، وتضييقية عند ازدهاره لأجل السيطرة على التضخم)، وذلك كله مع لوائح تنظيمية إنسانية، عقلائية ـ مرنة.
رابعاً وخامساً: إن الصناعة الوطنية عامل أساس في الاكتفاء الذاتي، وإن التجارة النشطة عامل جوهري في خفض العجز التجاري trade deficit، بل وخفض العجز في الميزانية budget deficit.
سادساً: خفض الفاصل الطبقي، فإن التاجر وإن كان يربح شيئاً ما بنسبة ما، إلا أن التجارة في ظروف المنافسة تنخفض أرباحه إلى أدنى حد ممكن، وبذلك ينخفض التفاوت الطبقي class disparity، الحاد بين الأغنياء والفقراء، كما تستقر الأسعار عند أدنى حدود التكلفة للمنتجين مع هامش ربح بسيط لهم وللوسطاء التجاريين، وفي ذلك صلاح حال التاجر البائع وصلاح حال المشتري أيضاً: أما المشتري فواضح، وأما التاجر فلأنه سيحاول حينئذٍ أن يحقق أرباحه عبر سياسة وفورات الحجم، وقد يستعين بقاعدة وفورات المجال أيضاً ليربح بالمآل، ربحاً جيداً، بل قد يربح حينئذٍ أكثر مما كان سيربحه عبر الاحتكار أو رفع الأسعار، نتيجة انخفاض الطلب عند الاحتكار ورفع الأسعار وازدياده عند الرخص والتنزل، إضافة إلى أن ذلك سيدفعه إلى الشراء في أرخص الأزمنة، ولربما من أبعد الأمكنة ليربح ربحاً مناسباً، وفي ذلك صلاح حال القاصي والداني جميعاً، كما قال (عليه السلام): (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا)(10).
من شروح النص العلوي
ومن الضروري أن نستعرض شرح أحد كبار العلماء من شرّاح نهج البلاغة، على هذا المقطع، لنبحر بعدها في بعض الاستنباطات الاقتصادية الأخرى:
ففي (موسوعة منهاج البراعة): (المضطرب بماله: التاجر الذي يدور بماله من بلد إلى بلد للكسب، (جلاّب) جمع جالب، (المطارح) جمع مطرح: الأرض البعيدة، (البائقة): الدّاهية، (الغائلة): الشرّ، (حواشي البلاد)، أطرافها، (الشحّ)، البخل مع حرص شديد، فهو أشدّ من البخل لأنَّ البخل في المال وهو في مالٍ ومعروفٍ، تقول: شحّ يشحّ من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب وتعب فهو شحيح ـ مجمع البحرين)(11).
وقال: (انتقل (عليه السلام) بعد تنظيم الحكومة إلى الاجتماع وما يصلح به أمر الأمة، وركنه التجارة والصناعة، والتجارة شغل شريف وقد حثَّ عليها الشرع الإسلامي، لكونها وسيلة لتبادل المحاصيل الأوَّلية والتوليدات الصناعية، وهذا التبادل ركن الحياة الاجتماعية ونظام الحياة المدنية، وقد وردت أخبار كثيرة في مدح التجارة والترغيب إليها، ففي الخبر أنه (تسعة أعشار الرزق في التجارة)(12)...
وبالإسناد عن أسباط بن سالم، قال: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَسَأَلَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ مَا فَعَلَ؟ فَقُلْتُ: صَالِحٌ وَلَكِنَّهُ قَدْ تَرَكَ التِّجَارَةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): عَمَلُ الشَّيْطَانِ ـ ثَلَاثاً ـ أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) اشْتَرَى عِيراً أَتَتْ مِنَ الشَّامِ فَاسْتَفْضَلَ فِيهَا مَا قَضَى دَيْنَهُ وَقَسَمَ فِي قَرَابَتِهِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(13) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَقُولُ الْقُصَّاصُ: (إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يَتَّجِرُونَ)، كَذَبُوا وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَ الصَّلَاةَ فِي مِيقَاتِهَا وَهُوَ(14) أَفْضَلُ مِمَّنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَتَّجِرْ)(15).
والأخبار في هذا الموضوع كثيرة مستفيضة، وكفى في فضل التجارة أنها كانت شغل النبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن يبعث نبياً، وقد سافر إلى الشام في التجارة مع عمه أبي طالب (عليه السلام) وهو غلام لم يبلغ الحلم، ثم صار عاملاً لخديجة بنت خويلد (عليها السلام) وسافر إلى الشام للتجارة مرة أخرى، وقد أعجبت خديجةَ أمانتُه وكفايتُه فطلبت منه أن يتزوّجها.
والظاهر من حديث أسباط بن سالم الآنف الذكر أنه (صلى الله عليه وآله) لم يدع الاشتغال بها بعد البعثة وتحمّل أعباء النبوة، كما يستفاد ذلك من تعيير قريش له بقولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)(16) – كما في الآية 7 من سورة الفرقان.
وقد وصف (عليه السلام) التجار بما لا مزيد عليه من خدمتهم في المجتمع الإنساني وحمايتهم المدنية البشرية، فقال:
1 ـ (وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ) أي من يجعل ماله متاعاً يدور به في البلاد البعيدة، يقطع المفاوز ويعرض نفسه للأخطار ليوصل حوائج كل بلد إليه.
2 ـ (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ).
وقد اهتمت الدول الراقية والشعوب المتقدمة في هذه العصور بأمر التجارة، وأدركوا حقيقة ما أفاده (عليه السلام) في هذه الجملة القصيرة قبل قرون طويلة من أنَّ التجارة مواد المنافع، وقد أبلغ (عليه السلام) في إفادة ما للتجارة من الأهمية في أمر الاقتصاد حيث جاء بكلمة (المواد) جمعاً مضافاً مفيداً للعموم، وبكلمة (المنافع) جمعاً معرّفاً باللام مفيداً للاستغراق، فأفاد أنَّ كل مادة لكل منفعة مندرج في أمر التجارة، فالتجارة تحتاج إلى ما يتجّر به من الأمتعة، وإلى سوق تباع فيه تلك الأمتعة، ثم يؤخذ بدلها متاعٌ آخر ويبدَّل بمتاع غيره، فيستفيد الكل من هذه المبادلات كلها أرباحاً.
وقد بلغت أهمية التجارة في هذه القرون المعاصرة إلى حيث صارت محوراً للسياسة العامة للدول العظمى... وأساساً لسياسة الدول، ومداراً للمعاملة بين الشعوب...
وقد نبّه (عليه السلام) إلى أنَّ العلاقات التجارية تفيد الشعوب وعامة البشرية من جهة أنها سبب استقرار السّلم والصلح بين أفراد الأمة، وبين الشعوب، فقال (عليه السلام) (فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته)، فيا لها من جملة ذهبية حية في هذه القرون المعاصرة، وفي القرن العشرين المتعطش لاستقرار الصلح العالمي والسلم العام بين الشعوب.
فالرابطة التجارية المبنية على تبادل المنافع والحوائج تكون ودّية وأخوية عادةً، وهذا هو أساس الوداد العقلاني الصادق الثابت، فإنَّ المتبادلين للحوائج والمنافع يحبّ كل منهما الآخر، لأنَّ حب أحدهما للآخر يرجع إلى حبّ الذات الذي هو الحبّ الثابت للإنسان، فإن الإنسان يحب ذاته قبل كل شيء، فحبه لذاته ذاتي، كما أنه يحب كل شيء، لحبه لذاته، حباً عرضياً بواسطة في الثبوت أو العروض(17)، فالرابطة التجارية سواء أكانت بين فردين أم شعبين أم بين شعوب شتى، هي رابطة ودّية سلمية منافرة للحروب والتنازع، والشعوب المحبة للسلام تسعى لبسط التجارة الحرة الداعية إلى الودّ والتفاهم المتبادل، فإن كل أحد يحبّ مَن يقضي حاجته وينفعه، والحب الزوجي يرجع إلى هذا المعنى أيضاً بأن يدرك كل من الزوجين أن الآخر يتبادل معه قضاء الحوائج وتبادل المنافع.
وأما الحب الغريزي(18) فلا يصح أن يكون مبدءاً للمعاهدات والعقود، وهو الذي يعبر عنه بالعشق في لسان الأدب والشعر، وهو حب كاذب خارج عن تحت الإرادة والإدارة، وأحسن ما عبّر عنه ما نقل عن الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا في تعريف العشق من أنه: مرض سوداوي يزول بالجماع والسفر ويزيد بالفكر والنظر.
والشعوب المحبة للسلام في عالم البشرية تسعى، كما سبق، وراء عقد روابط تجارية حرة مع الشعوب الأخرى مبنية على تبادل المنافع والحوائج، كما تسعى وراء التجارة بالتهاتر(19)، أي تبادل بعض الحاجيات (البضائع) بنوع آخر منها، ولا يقيدون بيوعهم بالنقود، فالتجارة الحرة تكون أساساً للسّلم بين الشعوب، كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: (فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته)، وقد فُسّرت البائقة بالداهية(20)، فيفيد ذلك أن التجارة الحرَّة ليس(21) فيها دهاء ومكر، ولا فيها قصد سوء من قبيل الاستعمار والتسلّط، وهي صلح ليس وراءه مضرة وهلاك.
وأمر (عليه السلام) بتفقّد أحوال التجار والنظارة عليهم، تكميلاً لتوصيته لهم بالخير والحماية لرؤوس أموالهم عن التلف والسرقة بأيدي اللصوص، وهذه توصية بإقرار الأمن في البلاد، وفي طرق التجارة بحراً وبراً، وقد التفتت الأمم الراقية إلى ذلك فاهتموا باستقرار الأمن في البلاد والطرق، وفي حفظ رؤوس الأموال التجارية عن المكائد والدسائس، فقال (عليه السلام): (وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ) أي في البلد، (وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ)(22)).
حقائق على ضوء فقه (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ)
ويمكننا أن نستنبط من النص العلوي الآنف الحقائق التالية:
المنافع للمنتجين والمستهلكين
الحقيقة الأولى: إنّ المنافع في قوله (عليه السلام): (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ) تشمل:
أ ـ منافع المستهلكين Consumer.
ب ـ ومنافع المنتجين Producers.
فإن التاجر هو حلقة الوصل بين الطرفين جميعاً ولولا التجار لكسدت قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات وغيرها أو أصيبت بالركود، ولوقع الجميع، مع ذلك، في أشق الحرج والتعب والعَنَت والنصب.
ج ـ منافع الآخرين، وهم أولئك الذين يسمون في علم الاقتصاد بالراكب المجاني.
أما المنتج؛ لأنه لولا التجار لوجب عليه أن يسافر هو ببضاعته هنا وهناك ويعرضها للبيع، وقد يحمّله ذلك مشاقّ كثيرة أو يكلفه زمناً طويلاً يكون على حساب إنتاجه، كما أنه كثيراً ما يعرّضه لمخاطر لا يعرف كيفية التعامل معها، عكس التاجر المتخصص، إضافة إلى أن المنتِج قد لا يجيد فن التسويق فيمنى بخسائر كبرى.
وأما المستهلك؛ لأن التاجر يختصر عليه الزمن والطريق والبحث والعناء وغير ذلك، إذ أنهم يغنونه عن السفر هنا وهناك لاستجلاب ما يحتاجه من محاصيل زراعية أو منتجات صناعية، بل إن مجموعة التجّار يوفّرون له تشكيلة واسعة مما يحتاج إليه المستهلك في كافة مناحي المعيشة والحياة مما لا يمكنه عادة أن يستحصلها كلها لو كانت تقع على عهدته مسؤولية السفر لاستجلابها.
فهذا كله على مستوى الاقتصاد الجزئي، وأما على مستوى الاقتصاد الكلي فإن (التجارة) عامل أساسي في ازدهار الاقتصاد وخفض البطالة والتضخم والفقر والعجز التجاري، وفي نمو الناتج الإجمالي المحلي والقومي، وفي التنمية الاقتصادية.
وبذلك يظهر أن التجار ليسوا من حيث هم تجار عالة على المجتمع، ولا سرّاقاً لجهود و(عمل) طبقة العمال والكادحين، كما توهمه كارل ماركس ومن تبعه من الشيوعيين أو الاشتراكيين.
المهمتان الأساسيتان للتجار والصنّاع
الحقيقة الثانية: إنّ الإمام (عليه السلام) حدّد، بعبارة دقيقة، المهمة الأساسية التي يضطلع بها التجار وأرباب الصناعات، أو فقل: عمدة الثمرات والنتائج التي تترتب على عملهم وهي أمران:
1 ـ إنهم مواد المنافع، والمقصود أولاً وبالذات منافع الناس، وليس المنفعة الشخصية للتجار أنفسهم، أي إنهم مواد المنافع للناس لا المنافع لأنفسهم وإن كانوا ينتفعون حتماً، لكنه ليس مرمى الغرض ههنا، وذلك إضافة إلى السياق ومناسبات الحكم والموضوع، نظراً إلى تعليله اللاحق بقوله (عليه السلام): (وَحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا)، وبقوله (عليه السلام) أيضاً: (وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ...).
2 ـ وهم، كذلك، أسباب المرافق للمجتمع، وهذا يعني أن (المنفعة العامة) و(المرفقة للعامة) هما الغاية الأساس من التجارة ومن الصناعة، لا (الربح والمنفعة الشخصية) ولا مجرد نمو الناتج المحلي الإجمالي (GDP).
ولا شك أن الربح الشخصي مطلوب لكنه هدف طولي متأخر عندما ننظر إلى المسألة من منظار المجتمع، وإن كان الأمر من منظار التاجر نفسه على العكس، بمعنى أنه يستهدف من منفعة غيره الربح لنفسه، وهذا يعني: أن النص يقوم بعمق بتحديد الفلسفة الأساسية الكامنة وراء التجارة والصناعة وهي (النفع لعباد الله) والتي ورد في الحديث: (خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيْءٌ، الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَ النَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ)(23)، وإن كانت المنفعة الشخصية تكمن خلف سعي التاجر والصانع وكانت مطلوبة أيضاً في حد ذاتها.
المقياس: المصلحة النوعية لا الشخصية
وبذلك يظهر أن هذا النص مع ملحقاته يسبق آدم سميث الذي اعتبر المصلحة الشخصية، عبر معادلة اليد الخفية، هي التي تدفع باتجاه المصلحة العامة النوعية، لكن النص يتفوق عليه:
أولاً: بأنه (عليه السلام) اعتبر توفير المصلحة النوعية الدور الأساسي الذي يقوم به التجار والصناعيون، وهو الهدف الرئيس الذي يجب أن تستهدفه الحكومة في لوائحها التنظيمية وسياستها العامة تجاه قطاعي الصناعة والزراعة.
ثانياً: إنه (عليه السلام) لم يَرَ أن المصلحة الشخصية تقود بالضرورة إلى المصلحة النوعية، بل إنها كثيراً ما تتخلف عنها وتقع بالاتجاه المضاد لها، ولذا قال (عليه السلام) بعد ذلك مباشرة: (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ؛ وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ)(24).
اعتراض: لا تعارض بين المصلحة الشخصية والنوعية
وقد اعترض أحد أساتذة الاقتصاد الكرام(25) ههنا باعتراضين، وهما: (لا تعارض بين أن يكون توفير المصلحة النوعية هو الدور الأساسي للتاجر، وبين أن يكون دافعه في ذلك هو المصلحة الشخصية. الدافع هو المصلحة الشخصية والدور هو المصلحة العامة، وهذا الدور ناتج عن الدافع. وقوله (عليه السلام): (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ) فإن هذه المقولة تصح في أسواق الاحتكار وهو (عليه السلام) يشير إلى ذلك بدقة) انتهى.
جوابان عن الاعتراض
ويمكن الجواب عن الاعتراض الأول (لا تعارض...)
أولاً: بأنه من الصحيح من الناحية النظرية أنه لا تعارض بين المصلحتين، ولكن من الناحية العملية وعلى أرض الواقع، كثيراً ما تصطدم المنفعة الشخصية بالمصلحة النوعية، والدليل على ذلك لجوء الكثير من التجار والصناعيين إلى الاقتصاد الأسود واقتصاد الجريمة لأنه يوفر لهم منفعة كبيرة وإن كان يضر بالمجتمع أكبر إضرار(26)(27)، وكما الدليل على ذلك كافة الاستثمارات الضارة بالبيئة والتي تنتج من معامل أو مصانع أو أنشطة اقتصادية تمنح أصحابها أكبر المنافع لكنها تضر بالبيئة أكبر الإضرار(28).
ثانياً: إن هنالك الكثير من الأنشطة الاقتصادية النافعة للمجتمع أكبر النفع لكن التجار يعدلون عن الاستثمار فيها نظراً لأنها لا توفر لهم أية منفعة شخصية، وعلى سبيل المثال: (فمهما كان سيئاً أن تكون مريضاً بمرض خطير، فمن الأسوأ أن تكون مريضاً بمرض نادر؛ حيث تتجاهل شركات الأدوية نحو خمسة آلاف مرض من الأمراض النادرة؛ لأنه ليس لديها أمل في استعادة تكاليف القيام بأبحاث على تلك الأمراض حتى وإن وجدوا العلاج(29). في عام 1983م أصدر الكونجرس قانون صناعة عقاقير الأمراض النادرة Orphan Drug Act، الذي جعل من صناعة علاجات تلك الأمراض أمراً مربحاً مما وفّر دافعاً لشركات الأدوية لصناعتها، ويتمثل الربح في المنح التي تعطيها الدولة للشركات من أجل القيام بالأبحاث، وكذلك الخصم الضريبي، والحقوق المقتصرة على الأسواق، وتحديد أسعار عقاقير الأمراض النادرة لسبعة أعوام. لقد دخل السوقَ أقلُّ من عشرة عقاقير لأمراض نادرة قبل إصدار القانون بعشر سنوات. أما بعد إصداره، فقد وصل الرقم إلى حوالي مائتي عقار لأمراض نادرة)(30).
اعتراض: كلامه (عليه السلام) خاص بأسواق الاحتكار، والجواب
وأما قوله: (هذه المقولة تصح في أسواق الاحتكار وهو (عليه السلام) يشير إلى ذلك بدقة).
فالجواب عنه: أن تعبير الإمام (عليه السلام): (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ)، أوسع نطاقاً وأبعد مدى من الاحتكار فقط، وذلك لأن الإمام (عليه السلام) يتحدث عن أربع سلبيات خطيرة يبتلى بها كثير من التجار (وكذا الحكومات التي تتصدى للتجارة) وهي (الضيق الفاحش) و(الشح القبيح) فـ (احتكار المنافع) و(التحكم في البيوع) وقد يفرق بينها بأن:
1 ـ الضيق منشأ الصِدام والتوتر، ويعني العسر في المعاملة والتشدد في الشروط والقضاء والاقتضاء.
2 ـ بينما الشح مصدر الإمساك والإقتار، كما هو مصدر الغش والرشوة، فهو مهما أثرى شحيحٌ في الإنفاق يتهرب من الخمس والخراج أو الضرائب.
3 ـ واحتكار المنافع يستهدف منه الربح والمزيد منه.
4 ـ والتحكم في البيوع الغرض منه السلطة وإن لم يكن معها الربح، أو كان طولياً كعامل ثانوي، وذلك كالبيع لهذه الجهة أو الدولة دون الأخرى، وعلى سبيل المثال: (طالب جيفري ساكس، وهو أيضاً أحد رواد المفكرين في مجال التنمية، بما أسماه "ميثاق جديد لأفريقيا" New Compact for Africa. يقول: "إن ما تفعله حالياً الدول الغنية ـ من منح المساعدات المالية للمناطق الاستوائية في إفريقيا، في حين تحجب عنها فرص تصدير المنسوجات والأحذية، والمصنوعات الجلدية، والمنتجات الأخرى كثيفة العمالة ـ قد يكون أسوأ من السخرية. فهذا في الواقع قد يضعف بشدة أية فرصة لإفريقيا للاتجاه نحو أي نمو اقتصادي"(31))(32).
والحاصل: أنّ حجب فرص التصدير عن الدول النامية هو (شح قبيح) عن أن تصلها منافع التصدير.
وليس الهدف نمو الناتج الإجمالي
ومن النص العلوي السابق نستنبط أيضاً: أن نمو الناتج المحلي الإجمالي GDP أو الناتج القومي الإجمالي GNP ليس بدوره هو الهدف الأساس، لأن نسبته حسب اصطلاح المناطقة، مع (المنفعة النوعية العامة) هي العموم من وجه؛ إذ قد يكون نمو الناتج المحلي مضراً بعامة الناس وإن كان مفيداً لطبقة خاصة، وقد يزداد به (أي بنمو الناتج المحلي الإجمالي) التفاوت الطبقي بين قلة من الأغنياء المتربعين على القمة والأكثرية من عامة الناس من الطبقات المحرومة.
بل إن نمو الناتج المحلي الإجمالي قد يتمّ على حساب التنمية الاقتصادية وعلى حساب التنمية المستدامة، إذ قد يكون من أهم عوامل تلوث البيئة، كما قد يكون في المحصلة النهائية على حساب الرفاه الاجتماعي العام، كما فصلنا ذلك في هذا الكتاب وفي الكتاب السابق(33).
نظرية القيمة
الحقيقة الثالثة: كما أن ذلك يلقي الأضواء على (نظرية القيمة theory of value)، وتوضيحه: أن القيمة تارة يقصد بها القيمة الاستعمالية، وأخرى يقصد بها القيمة التبادلية:
أما القيمة الاستعمالية value in use، للسلع والخدمات فتفسر بالمنفعة الكامنة فيها، لمن يستهلكها أو يستعملها، وذلك هو الدور الذي يقوم به الصناعيون.
وأما القيمة التبادلية exchange value، فتفسر بالقيمة لدى التعامل وهي التي تعود إلى عامل العرض والطلب(34)، وهو الدور الذي يضطلع به التجار بالأساس، وذلك لأن (المنافع) جمع محلى باللام، فهو عام يشمل كلتا القيمتين، أي إن قوله (عليه السلام): (مَوَادُّ الْمَنَافِعِ) يعمّ القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية معاً، وذلك حيث اعتبر كلّاً من التجار وذوي الصناعات (مَوَادُّ الْمَنَافِعِ)، فيكون اللف والنشر مرتباً حينما يقال: (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ) أي التبادلية والاستعمالية، حيث بدا بالتجار أولاً، فتدبر، فهذا بناءً على العموم كما اخترناه مبنياً على عود ضمير (فإنهم) إلى التجار وذوي الصناعات معاً، وأما بناءً على عود ضمير (فإنهم) إلى التجار فقط، فإن هذا النص يكون مشيراً إلى القيمة التبادلية فقط.
وقد يقال: إن ذلك يعطى لنظرية القيمة بُعداً أعمق، وهو أن القيمة الاستعمالية تشكّل أحد أهم محددات القيمة التبادلية، عكس من رأى بأن القيمة التبادلية إنما تنشأ من العرض فقط أو من الطلب فقط أو من توازن العرض والطلب، أو من تكاليف الإنتاج أو غير ذلك، فراجع الكتاب الأول، مبحث (نظرية القيمة) لتجد تفصيل ذلك، وتأمل(35).
تكامل أدوار الصنّاع والتجار
الحقيقة الرابعة: إنّ الرواية جمعت بين قطّاعي الصناعة والتجارة في حزمة واحدة، بينما أعطت قطاع الزراعة وأهل الخراج حيّزاً مستقلاً، وذلك في مرحلة التعريف وعند تناول أوصافهم وتحديد أدوارهم ومسؤولية الحكومة تجاههم، ولعل السبب في ذلك هو أن الزكاة والخراج يؤخذان من المحاصيل الزراعية، وأما الخمس فإنه يؤخذ من أرباح السنة من الصناعي والتاجر وكل من فاض ماله عن رأس سنته، ولعل الحكمة أن الثقل الأكبر هو الزراعة في الاقتصاد الزراعي لذا أفرد بالذكر، أو الحكمة هي أن ذوي الصناعات ينتجون ما يحمل معه القيمة الاستعمالية، وأما التجار فإن مصب عملهم هو القيمة التبادلية، فأدوارهم تكاملية، إذ بهذين الركنين معاً تتكامل الأسواق وينتعش الناس، عكس الزراع في ذلك العصر الذين كانوا ينتجون، عادة، للاكتفاء الذاتي، وإذا باعوا باعوا في نطاق محدود وبالمقايضة في أغلب/أو كثير من الأحيان، أما الصنّاع فإنهم ينتجون، عادة، للأسواق ويبيعون غالباً بواسطة النقد، فلا يزدهر عملهم، بل لا يكون له موقع إلا بسلاسة سير عملية القيمة التبادلية.
إشعاعات التجارة والصناعة وامتداداتهما
الحقيقة الخامسة: إنّ كلامه (عليه السلام) يكشف عن حقيقة علمية هامة، وهي أن التجارة والصناعة تمتلكان خصيصة الإشعاع بالمنافع الاقتصادية إلى كافة فئات المجتمع، كما وأنهما مظلتان تغطيان كافة حاجات المجتمع بما فيها حاجات المزارعين، بل ويغطّيان مساحة المحاصيل أيضاً؛ وذلك لأن (مَوَادُّ)، وكما سبق، جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم، كما أن (الْمَنَافِعِ) جمع محلى بالألف واللام، وهو يفيد العموم أيضاً، وهذا يعني أن (التجار) و(الصنّاع)(36) هم الذين يشكّلون الجهة التي تمدّ المنتِج والمستخرِج (في الصناعات التحويلية والاستخراجية) والمستهلِك جميعاً بكافة ما ينفعهم، سواءً أكانت سلعاً معمرة أم غير معمرة، وسواءً أكانت سلعاً أساسية أم كمالية، وسواءً أكانت سلعاً إنتاجية أم سلعاً استهلاكية، والاستقراء يدل على انك لا تجد بيتاً إلّا وقد دخلت إليه أنواع الصناعات بمختلف ألوانها، وأن التجار الكبار والصغار يقفون، مباشرةً أو بواسطة وعبر سلسلة طويلة أو قصيرة، وراء كل منتَجٍ وسلعةٍ يستخدمها الناس، فكافة (منافع العباد الاقتصادية) نجد أن للتجار فيها فضلاً، إذا راعوا العدل والإنصاف، وإلا(37) فإن لهم فيها دخلاً(38)، والناس على أية حال إليهم محتاجون، تتوقف أمور معاشهم بأجمعها عليهم. ولذلك كله ولغيره أوصى الإمام (عليه السلام) بـ: (فَاحْفَظْ حُرْمَتَهُمْ، وَآمِنْ سُبُلَهُمْ، وَخُذْ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ)(39).
وقد يُنقض ذلك بما لو اصطاد أحدهم سمكة فأكلها، أو غرس فسيل نخل أو زرع حبوب أو حنطة أو برتقال أو غير ذلك، فأكله، إذ لا نرى حينئذٍ أثراً لمنافع التجار أو الصناعيين؟
ولكن ومع قطع النظر عن ندرة ذلك، فإن الواقع يشهد بأن اليد الخفية للصناع والتجار تمتد لتشمل الظواهر الاقتصادية البدائية البسيطة أيضاً، فإن شبكة الصيد أو الصنارة أو الإناء الذي توضع فيه الأسماك بعد صيدها، أو السكين التي تُقطع بها اللحوم أو تقشر بها الفواكه، أو البذر الذي يُزرع، أو السماد الذي يُستعمل، أو المبيدات التي تُستخدم، أو المحراث الذي تُحرث به الأرض، أو المائدة التي توضع عليها السمكة أو الفاكهة، أو الدهن الذي يغلى به الطعام، أو الملح الذي يُرش عليه، أو حتى وسيلة النقل التي نقل الصياد إلى النهر أو البحر، أو ينقل منها الأسماك للمنزل أو غير ذلك، لا بد أن يكون لبعضها دور في الاستهلاك النهائي للسمكة أو الفاكهة! ومع ذلك، وكما سبق، فلو وجد هنالك استثناء فهو النادر إن لم يكن الأندر من النادر، كما لو افترضنا، مثلاً، شخصاً ولد في جزيرة نائية عن العمران وعن الناس تماماً.
الهدفان الأساسي والتكميلي
الحقيقة السادسة: إنّ الهدف الثاني (أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ) يعدّ هدفاً كمالياً يقع في مرتبة متأخرة عن الهدف الأساسي الأول وهو (مَوَادُّ الْمَنَافِعِ)، فإن المرافق تشير إلى جهة الرفق بالناس، فهي التي تتكفل بالكماليات أو ما قد يصطلح عليه بالتحسينات، وأما المنافع فإما أن يراد بها معنى أخص وهو ضروريات الحياة والأساسيات، أو يراد بها الأعم من الضروريات والحاجيات والتحسينات، بمصطلح العامة، فيكون ذكر (الْمَرَافِقِ) حينئذٍ من باب ذكر الخاص بعد العام.
أو المنافع يراد بها ما يشبع حاجة مادية، كالمأكل والملبس والمركب، والمرافق ما يشبع حاجة نفسية أو روحية، كالراحة والسكينة، وقد يؤيد ذلك بما جاء في كتب اللغة، إذ (رفق: لَطَف... الرفق لين الجانب ولطافة الفعل... الرفق لين الجانب خلاف العنف.. ويقال: أنت رفيق والله الطبيب أي أنت ترفق بالمريض وتلطفه والله يبرئه ويعافيه)(40).
وعلى ذلك، فإن هذا النص يفتح الباب، معيارياً، للسلع الكمالية ولسلع الترفيه السليم، ولكل ما يرفق الإنسان ويلطف به، كما قال تعالى: ( قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ)(41)، وذلك لأن الرفق يأتي بمعنى اللين والسهولة، كقولك: مرتع رفق أي سهل، ومنه سميت المخدة مرفقة.
وقد يقال: بأن المراد بالمرافق هو ما ينتفع به من الأدوات، فعلى هذا تكون (مَوَادُّ الْمَنَافِعِ) عائدة للتجار، والمراد بها ما يقدمونه من خدمة نقل البضائع وتسهيل التبادل، وتكون (أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ) عائدة للصناع، والمراد بها ما يقدمونه من أنواع السلع إما بابتكارها أو بتطويرها، فاللف والنشر مرتّب، وقد يضعفه قوله (عليه السلام) بعدها: (وَجُلَّابُهَا) الظاهر في عوده للتجار، وقد يجاب أن ذلك شأن ذوي الصناعات أيضاً، وفيه بُعد. أو بعود ضمير (وَجُلَّابُهَا) إلى أحد المرجعين، وفيه بُعد أيضاً.
الجهات الوضعية والمعياريـة
الحقيقة السابعة: إنّ قوله (عليه السلام): (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ)، يحمل في ثناياه كلتا الجهتين: العلمية، والمعيارية positive and normative:
أما العلمية، فلأن ذلك توصيف دقيق للتجارة والصناعة كظاهرة اجتماعية ـ اقتصادية، وإخبار عما تكون عليه الأشياء في حدّ أنفسها، ولا يقدح بذلك وجود بعض الانتهازيين الوصوليين المكيافيليين من التجار والمستثمرين؛ وذلك لأحد وجوه ثلاثة(42):
الوجه الأول: لأن الكلام عن القاعدة العامة، والتجار والصناعيون عادةً هم مواد المنافع وأسباب المرافق وإن كان فيهم من يكون مواد المضار والمفاسد وأسباب المشاق والمكاره.
الوجه الثاني: إن المراد أن (التاجر) بطبعه الأولي الذي تقتضيه حِرفته هو كذلك، لأن ذلك مقتضى إنسانية الإنسان من جهة، ولأنه بذلك يكسب ثقة الناس وحسن السمعة فيزداد عملاؤه من جهة أخرى، عكس الانتهازي والمحتال والمكيافيللي الذي يتخذ الغش والخداع والاحتيال دأباً وديدناً، ومن فعل غير ذلك فقد خرج عن مقتضى طبعه الأولي.
الوجه الثالث: إن المراد أن (التجارة) بطبعها الأولي هي كذلك.
والفرق بين الوجوه الثلاثة: أن الوجه الأول يتحدث عن الجانب الكمي والأكثري، والوجه الثاني يتحدث عن مقتضى طبع التاجر، والوجه الثالث يتحدث عن مقتضى طبع التجارة نفسها.
المقياس في حدود الدعم الحكومي
وأما الجهة المعيارية، فلأن هذا الوصف: (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ)، يشكّل تحديداً دقيقاً لمهمة التجار والصناعيين وأدوارهم، كما سبق، فيكون هو المعيار العام الذي نستكشف منه المقياس في درجة الدعم الحكومي الذي ينبغي أن يقدم للتجار والصناعيين كونهما عامل إيصال المنافع إلى الناس، أو السبب في توفير الرفق والراحة والسهولة لمعيشتهم، كما نكتشف منه أي قطاع يجب أن يحظى بالدعم الأكثر، أو بالدعم لدى التزاحم والتدافع، وبذلك نستكشف الحقيقة الآتية وهي:
ضابط الاعتراف بالاقتصاد غير الرسمي
الحقيقة الثامنة: إنه يفهم من تعليل الإيصاء بهم خيراً بـ (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ) أنّ ذلك يشكّل ضابط الاعتراف القانوني بأنواع التجارة والصناعة والمقياس في توفير الدعم لها بكلا قسميها: الرسمية وغير الرسمية، أي الاقتصاد الموازي أو الظلي shadow economy، ونقصد به مجرد غير الرسمي دون اقتصاد الجريمة، بمعنى أنه لا ينبغي أن تحظى بدعم الحكومة كل تجارة أو صناعة تكون على الضد من ذلك: مواد المضارّ والمفاسد أو أسباب المشاق والمكاره، وبذلك يدخل الاقتصاد الأسود واقتصاد الجريمة بأكمله في دائرة الضد اللاأخلاقي، والذي يجب أن ترفع عنه الحكومة غطاء الدعم والحماية، بل وأن تجرّمه، وذلك ضمن إطار قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(43)، وقاعدة (لا ضرر)، وغيرها(44).
وصفوة القول: إن قوله (عليه السلام): (فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ) تعليل، والعلّة معممة ومخصصة، وعليه: إذا لم يكن بعض التجار مواد المنافع وأسباب المرافق فإنه لا يستوصى بهم خيرٌ، كما إنهم اتصفوا بالضد العرفي وهو صيرورتهم مواد المضار وأسباب المتاعب والمشاق، فإن الوصية حينئذٍ بهم تكون على الضد، فالواجب منعهم من أي إضرار بالغير أو عدوان عليه.
المخاطرة كإحدى مكونات القيمة التبادلية
الحقيقة التاسعة: إن في قوله (عليه السلام): (وَحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا)، إشارة مهمة وإن بدت عرضية، إلى أحد مكوِّنات نظرية القيمة theory of value، (المراد بها القيمة التبادلية)، ومحدِّداتها وهي (المخاطرة risk)، ذلك أن أمثال ماركس توهموا أن (القيمة التبادلية) إنما تتحدد بـ(قوة العمل)(45)، وأن الرأسمالي على هذا، سارق للأرباح، نظراً لأن العمل وحده (أي قوة العمل) هو المنتج للقيمة التبادلية، لأنه الروح السارية والجوهر والجامع المشترك بين كل البضائع، بعد قطع النظر عن قيمها الاستعمالية وخواصها الفيزياوية والهندسية وغيرها.
ولكنّ الصحيح، كما فصّلناه في (بحث في نظرية القيمة) من الكتاب السابق أن هناك عشرين مكوّناً للقيمة التبادلية(46)، وأنّ العمل لا يعدو كونه أحد تلك المكوِّنات وإن كان من مكوناتها الأساسية، وأن أحد مكوناتها الأساسية الأخرى عامل المخاطرة الذي يشير إليه قوله (عليه السلام): (وَحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا)، فانّ ما يدفعه الناس للمنتِج في الصناعات الاستخراجية والصناعات التحويلية ما يدفعونه للتاجر وللمستثمر يشكِّل جزءٌ منه التعويض عن مخاطرته ومجازفته، نظراً لأن التجارة غير مضمونة الأرباح بل كثيراً ما يخسر التجار والمستثمرون والصناعيون رأسمالهم أو بعضه، ولذا كان لا بد من تعويضهم عن مجازفتهم وعن تعريض أنفسهم لخطر الخسارة الشاملة أو الجزئية.
كما أن لتعويضهم عن المخاطرة فلسفة أخرى أيضاً، وهي تشجيعهم على مواصلة مسيرة التجارة والاستثمار، ومن دون ذلك، أي من دون أن يدفع الناس لهم ثمناً كتعويض عن المخاطرة، يضعف الحافز لدى التجار والمستثمرين، بل نقول: لو لم يدفع الناس للتجار والمستثمرين تعويضاً مناسباً؛ مستندين إلى أنّ القيمة تتولد من العمل فقط وأنه لا توجد أية قيمة لرأس المال والإدارة والتنظيم والمخاطرة وشبهها، لما وجدت تاجراً ولا مستثمراً ولا معملاً ولا مصنعاً على وجه الأرض، ولانهار الاقتصاد، ولملأت جيوش العاطلين عن العمل الشوارع والأسواق، وهم الذين اعتقد ماركس أنه يدافع عنهم بنظريته في القيمة التبادلية، ولكنه لم يدرك أن نظريته لو أُخِذ بها حقاً لأضرت بالعمال قبل الرأسماليين، ولأدخلت الاقتصاد في ركود بل كساد عميق(47)، اللهم إلا لو لجأ إلى تحويل مهام التجار والمستثمرين إلى الحكومة أو إلى جهة تعينها الحكومة أو إلى العمال أنفسهم، وهي خيارات أثبتت فشلها الكامل بأجمعها، كما تدل عليه التجربة السوفيتية ونظائرها.
هذا كله إضافة إلى أن التجار يستحقون بعض الربح لا لرأسمالهم الذي يساهم في الإنتاج والذي يعدّ عملاً متجسداً في أموال(48) فحسب، ولا للمخاطرة والمغامرة التي يعرّضون أنفسهم لها فقط، بل وأيضاً، وحسب ما يستفاد من كلام الإمام (عليه السلام) للجهد النوعي الذي يبذلونه، إذ يقول (عليه السلام): (وَجُلَّابُهَا مَنِ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا)، فهذا الجهد النوعي الذي يبذله التجار والذي لا يجتمع ويلتئم الناس إلى مواضعه إما للعجز عنه وإما لافتقاد الخبروية فيه وإما لصعوبته وإما للتخوّف منه، يُقيّم بثمن، فإن التجارة ليست مجرد شراء بضاعة وبيعها فقط، بل هي أيضاً إدارة(49) وتفكير(50) وتخطيط وحسن اختيار لنوع البضاعة وخواصها ولمواقع البيع والشراء وتوقيتاتها مع خبروية بفنّ التسويق، (وهذه المعرفة والخبرة تقيّم بثمن أيضاً، كما أنها قد صرفت عليها أثمان وجهود)، إلى جوار علاقات مبنيّة على أسس متينة تذلّل عملية الشراء بالثمن المناسب والبيع بالثمن الملائم، (والعلاقات تقيّم بثمن أيضاً، كما فصّلنا ذلك كله في فصل عوامل الإنتاج من الكتاب السابق)(51)، فهم (جُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ) المعتمد ذلك على العلاقات إضافة إلى الخبرة والعناء، وأيضاً الجهد الجسدي في الكثير من أنواع التجارات.
تحرير التجارة ورفض اللوائح الكابتة
الحقيقة العاشرة: إن للتجارة جناحين: جناح التجارة الداخلية، وجناح التجارة الخارجية، وإطلاق كلام الإمام (عليه السلام) بل عمومه يشمل كلا النوعين من التجار، أي سواء انشغلوا بالتجارة الداخلية، أم اتجهوا نحو التجارة الخارجية، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، كما إنهم سلم لا يخاف منهم، وصلح لا يخشى من عدوانهم، وذلك يعني، فيما يعني، رفض اللوائح التنظيمية regulations، التي تقيّد التجارة الخارجية وحركة الصادرات والواردات وأن الإطار التنظيمي هو فقط رفض الاحتكار والظلم.
بين المدرسة الكلاسيكية والتاريخية والنص العلوي
وبعبارة أخرى: يعني ذلك تحرير التجارة بحسب المدرسة الكلاسيكية the Classic school Trade Liberalization، ومدرسة شيكاغو في الاقتصاد Chicago School، بعد أكثر من ألف سنة، حيث ارتأى هؤلاء أنّ التجارة الخارجية الحرة تسمح بالتخصص وتكرس مبدأ تقسيم العمل والذي ينتج خفض تكاليف الإنتاج والاستخدام الأكفأ للموارد الاقتصادية لدى الطرفين، اعتماداً على مبدأ الميّزة النسبية واختلاف النفقات النسبية بينهما لا النفقات المطلقة فقط.
وذلك خلافاً للفكر الاقتصادي الميركنتلي في معادلة الميزان التجاري، إذ ارتأوا ضرورة أن يتمتع الميزان التجاري للدولة بالفائض (من الذهب والفضة) عبر زيادة الصادرات على الواردات(52).
ولكن نقد المدرسة التاريخية الألمانية(53) الموجّه إلى المدرسة الكلاسيكية والداعي إلى التدخل الحكومي عبر اللوائح التنظيمية والحماية الكمركية للصناعات الناشئة، لا يتوجه على سياسة الإمام (عليه السلام) لاختلاف المعادلات في زمنه (عليه السلام) عن هذا الزمن من جهات عديدة:
منها: أنه لم تكن حينذاك حدود جغرافية بين الدول إلا على أضيق نطاق، عكس اليوم، فكانت دول العالم كلها بمنزلة وحدة اقتصادية واحدة، كما هو الآن كذلك بين محافظات / ولايات الدول الواحدة.
ومنها: أنّ اختلال الميزان التجاري بين الدول لم يكن يؤثر حينذاك على ارتفاع أو انخفاض قيمة العملة، لكون العملة من الذهب والفضة اللذين يحملان قيمة ذاتية، عكس النقود البنكية والرقمية، التي تتأثر قيمتها بالعجز التجاري أو العجز في الميزانية، بحسب درجة المرونة.
ومنها: أنّ الاختلاف بين الدول والفواصل الحضارية والصناعية بينها لم يكن بالحجم المهول الذي هو عليه الآن، فكان التأثير السلبي طفيفاً نسبياً.
ومع ذلك فإن الإمام (عليه السلام) لم يطلق للتجار والصنّاع العنان بشكل كامل، بل قيّدهم بما سيأتي بعد قليل، والذي سنعقد له فصلاً خاصاً بإذن الله تعالى.
اضف تعليق