أندريس فيلاسكو
تميل الخطب التي يلقيها الساسة بشأن التفاوت بين الناس إلى الافتقار إلى الحقائق ووفرة التأكيدات الإيديولوجية. وفي الاقتصادات النامية والناشئة، قد يكون التفسير المترفق لرداءة الخطاب العام بشأن التفاوت بين الناس في الدخل هو أن البيانات بشأن توزيع الدخل تكون غير متاحة أو مشكوك فيها غالبا. وبشأن هذا الموضوع الأكثر أهمية، تميل البيانات إلى توليد المزيد من الحرارة ولكنها لا تسلط قدراً يُذكَر من الضوء.
ومن الممكن أن تساعد مجموعة جديدة من الدراسات في إنهاء كل هذا. فبقيادة نورا لوستيج، أستاذة الاقتصاد المتخصصة في أميركا اللاتينية، قام فريق من معهد الالتزام بالعدالة التابع لجامعة تولين بإنشاء قاعدة بيانات شاملة عن حالة توزيع الدخل والتأثيرات التي تخلفها السياسات الحكومية على التوزيع. والأمر البالغ الأهمية هو أن الأرقام قابلة للمقارنة عبر مجموعة كبيرة من البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل وأيضاً مع البيانات المتاحة عن البلدان المتقدمة. وسوف تساعد الاستنتاجات الأولية الناشئة عن هذه الدراسات في تثقيف المناقشات السياسية ــ ومن المرجح أن تزعج المنظرين الإيديولوجيين من اليمين واليسار.
في بحث حديث، تبدأ لوستيج حجتها بحقيقة مفادها أن التفاوت في الدخل على مستوى العالمي لا يتجه إلى الارتفاع. وهي تستشهد بمعامل جيني، وهو المقياس الأكثر شيوعاً للتفاوت، والذي يمتد من القيمة صِفر للمساواة الكاملة إلى 100 للتفاوت الكامل (حيث يحصل شخص واحد على الدخل كله). وفي الفترة من 2000 إلى 2010، سجلت الدرجة المتوسطة على مُعامِل جيني (ليس قياساً على عدد السكان) في البلدان التي توجد عنها بيانات انخفاضاً طفيفاً من 39 إلى 38 نقطة.
صحيح أن الدرجة ارتفعت في البلدان الغنية على مدى نفس الفترة ــ من 29.8 إلى 30.4 نقطة. ولكنها انخفضت بشكل حاد في أميركا اللاتينية، من 55.1 في عام 2000 ــ وهي الدرجة التي جعلت القارة المنطقة الأشد تفاوتاً بين الناس في العالم ــ إلى درجة لا تزال مرتفعة للغاية (50.2) بعد عشر سنوات. كما انخفضت درجة معامل جيني في جنوب آسيا. أما في البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، حيث البيانات أكثر هشاشة، فيبدو أنها ظلت ثابتة تقريبا.
علاوة على ذلك، يبدو أن مستويات التفاوت تهبط في الأماكن حيث كانت الأكثر حِدة على وجه التحديد. ويصدق هذا على المناطق، وخاصة أميركا اللاتينية، والبلدان مثل البرازيل وجنوب أفريقيا.
وعلى هذا فإن التأكيد الذي كثيراً ما نستمع إليه بأن مستويات التفاوت المتزايدة الارتفاع أصبحت الحقيقة الاقتصادية المركزية في عصرنا ربما يرجع إلى تفاوت من نوع مختلف: التأثير الهائل الحجم الذي يخلفه الخبراء والمنافذ الإعلامية في البلدان الغنية على قواعد البيانات الدولية.
ومن المؤكد أن مجموعة أخرى من النتائج سوف تزعج المتعصبين من اليمين: فالضرائب وخطط التحويلات من الممكن أن تخلف تأثيراً كبيراً في الحد من عدم المساواة، وهي تفعل حقا. ففي إحدى المقارنات بين البلدان المتوسطة الدخل في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، تُظهِر لوستيج أن معاملات جيني بعض خص الضرائب والتحويلات (بما في ذلك القيمة النقدية للخدمات التعليمية والصحية) أقل كثيراً من تلك التي تشير إليها الدخول الأولية في السوق.
وكان متوسط الانخفاض بالنسبة للبلدان التسعة التي قارنت بينها ــ بما في ذلك جنوب أفريقيا حيث مستويات التفاوت لا تزال هائلة ــ أكثر من ثلاث نقاط (55.7 إلى 52.5 نقطة). والواقع أن نفس الممارسة، التي تعامل معاشات التقاعد باعتبارها استهلاكاً مؤجلاً فتخصمها بالتالي من دور إعادة التوزيع الذي تلعبه معاشات التقاعد بين السكان الأكبر سنا في الاقتصادات المتقدمة، تنتج انخفاضاً بنحو سبع نقاط في الولايات المتحدة وأكثر قليلاً من تسع نقاط في الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن البلدان الناشئة في حال أفضل ــ ولكن من الممكن أن تتحسن بشكل كبير.
بيد أن هذا لا يعني أن النشطاء لابد أن يطالبوا بضرائب وإنفاق عام أعلى في جميع الظروف. ذلك أن جودة البرامج الحكومية تحدث فارقاً كبيرا. فالبرازيل لديها قطاع عام يعادل ضعف حجم مثيله في شيلي تقريبا ــ إجمالي العائدات الضريبية يقرب من 20% من الناتج المحلي الإجمالي في الأخيرة ونحو 40% (تختلف التقديرات) في الأولى. وكذلك كان الإنفاق الاجتماعي (ومرة أخرى الذي عامل معاشات التقاعد باعتبارها استهلاكاً مؤجلا) نحو الضِعف في البرازيل: 16% في مقابل 8% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن وفقاً للوستيج، فإن التأثير الذي تخلفه عملية إعادة التوزيع من قِبَل الحكومة على التفاوت بين الناس هو ذاته في البلدين: انخفاض بما يقرب من أربع نقاط في معامل جيني. ولكن ما لم تستكشفه لوستيج هو أن التباين يصبح أشد حِدة إذا تذكرنا أن حكومة البرازيل تنفق قدراً أقل كيراً من شيلي على البنية الأساسية، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ومن الصعب أن نتهرب من استنتاج مفاده أن بعض الإنفاق العام في البرازيل لا يخدم غرضاً ملموساً غير الحفاظ على هدوء دوائر سياسية بعينها.
ومن الحالات الجديرة بالذِكر أيضاً بوليفيا، حيث عملت الإدارات اليسارية على توسيع الإنفاق على الرعاية الاجتماعية بشكل كبير. ولكن لأن التحويلات النقدية عالمية، بدلاً من توجيهها إلى الفقراء، فإن التأثير الإجمالي ليس تقدمياً بل محايدا، وهذا هو ما توصلت إليه دراسة أخرى.
والأمر البالغ الأهمية هو أن الضرائب والتحويلات ليست الوسيلة ا لوحيدة لمكافحة التفاوت. فهناك عمل سابق قدمته لوستيج وشركاؤها توصل إلى أن علاوة الأجور المنخفضة ــ الانخفاض في فجوة الأجور بين العمال من ذوي التعليم العالي والمنخفض ــ تفسر جزءاً من انخفاض معامل جيني في بلدان أميركا اللاتينية. وليس من السهل أن نميز الدور الذي تلعبه عوامل العرض والطلب في خفض علاوة الأجور، ولكن يبدو أنها لعبت دوراً ملموسا.
فعلى جانب الطلب، تسبب خفض سعر الصرف في جعل الصادرات غير التقليدية أكثر قدرة على المنافسة وساعد في تعزيز الطلب على العمالة غير الماهرة نسبيا. وعلى جانب العرض، تسببت الزيادة الحادة في سنوات الدراسة، وخاصة للحصول على تعليم عال، في تضخم صفوف المهنيين وغيرهم من العمال المهرة وساعدت في خفض أجورهم النسبية.
كل هذا مفيد لتوزيع الدخل، ولكن السياسة الناتجة تظل مشحونة. فالطلاب الناشطون الذين يطالبون (ومعهم بقية المجتمع) بتوزيع أكثر عدلاً للموارد، ربما لا يرغبون في الاستماع إلى من يقول لهم إن الأعداد المتزايدة من المهنيين تنتج غالباً من التوسع السريع والمثير للجدال للجامعات الخاصة ــ والساعية لتحقيق الربح أحيانا ــ وإن هذا يشكل جزءاً من الانخفاض في مستوى التفاوت بين الناس.
وعلى نحو مماثل، فإن الشابات والشباب الذين عملوا جاهدين للوصول إلى الجامعة، وتوقعوا تعويضات نسبية مرتفعة للغاية، يشعرون بالتعاسة عندما يجدون أن الأجور التي يتقاضها، ولنقل الصحافيون وعلماء النفس ترتفع بسرعة أبطأ كثيراً من مثيلاتها التي يتقاضاها فنيو الكمبيوتر أو مشغلي الآلات. والواقع أن هذا الإحباط يفسر (وإن لم يكن بشكل علني دوما) العديد من الاحتجاجات الطلابية الأخيرة في الجامعات في أميركا اللاتينية ومناطق أخرى.
ولهذا فإن التفاوت في الدخل من المحتم أن يثبت كونه مثيراً للجدال سياسياً عندما يزداد سوءا، وأيضاً عندما يميل إلى الانحدار. والواقع أن الدراسات كتلك التي تقودها لوستيج من الممكن أن تسلط الضوء على المجادلات التي لا مفر منها، حتى يصبح من الممكن أن تسفر عن سياسات أفضل بدلاً من المرارة المعتادة.
اضف تعليق