يكفي أن نأخذ الواقع الثقافي للمسلمين نموذجاً للدراسة والتأمل فإننا سنجد بأن الثقافة السائدة في الأوساط الإسلامية جميعها تتقاطع في نقطة هي أجنبية في جوهرهـــا عن المضمون الروحي والقيمــي للدين الإسلامي الذي تعتقده الأمة الإسلامية ديناً وفكراً ومنهجاً في حياتها. وهذه النقطة هي أن الثقافة...
انطلاقاً من الفهم العميق لمشكلة الأمة الحضارية المتمثلة في تخلفها الحضاري الشامل بسبب ابتعاد أبناء الأمة عن مصادر البناء الحضاري الإسلامي يؤكد سماحة الإمام الشيرازي على ضرورة الاهتمام الكبير بمسألة الثقافة في توعية الأمة وترشيدها نفسياً وعملياً(1) الأمر الذي يضعها على الطريق السليم نحو بناء الأمة الإسلامية الواحدة.
وذلك لأن الأمة ما لم تكن الرؤية الحضارية لها بالنسبة إليها واضحة المعالم والتفاصيل فإنها لن تتمكن أبداً من النهوض من واقعها المتخلف وستصبح أهدافها السامية مجرد أحلام وأماني يفصل بين الأمة وبينها مسافة الجهل بسبل النهوض والتقدم الحضاريين.
أما عن معالم النظرية الثقافية في التوجيه والتوعية في فكر الإمام الشيرازي يمكن تحديدها من خلال ما يلي:
أولاً: إعطاء الرشد الفكري للأمة الإسلامية
ما لم تتخلص الأمة الإسلامية من الجذور الحقيقية الكامنة وراء تخلفها الحضاري فإنها ستكون فاقدة للقابلية الحضارية في النهوض والانطلاق في آفاق الحياة السعيدة.
وإذا علمنا بأن جذور التخلف والضعف في الأمة تتمثل في جوهرها في الحالة النفسية حيث أصبحت الأمة مستسلمة لواقعها المريض عاجزة عن الإقدام والانعتاق من أسر ما هي فيه من مشاكل وأزمات شملت مختلف مجالات حياتها الحضارية كان لزاماً أن نبحث عن الوسائل الناجعة التي بإمكانها أن تحل هذا الإشكال بأن نفتح أمام الأمة آفاق النهوض والانطلاق نحو مستقبل إسلامي مشرق تحكمه الرسالة وتسوده القيم المنبعثة منها.
وهذا ما تؤديه(الثقافة) حيث أنها إذا ما لامست نفسية الأمة وتفاعلت مع قيمها الحضارية كانت الصاعق المفجر لطاقاتها الكامنة والقوة المحركة لها، نحو الأهداف العليا التي تتطلع إليها على ضوء تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.
لقد تركنا توعية الناس ونشر المعارف الأرضية فتأخرنا وقام المبطلون والمنحرفون بنشر أفكارهم فتقدموا وتلك هي سنة الحياة(2).
ولأهمية الوعي والرشد الفكري نجد الله سبحانه وتعالى يقول: (إن إبراهيم كان أمة) فالله تعالى يعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمة والسبب هو رشده الفكري كما قال تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده).
إن السبب واضح ذلك لأن القلم واللسان هما اللذان يسببان تحرك الناس نحو الجهاد في ميادين القتال إضافة إلى أنهما يحفظان الشريعة ويحافظان على مكتسبات الأمة وبعملية التثقيف الواسعة النطاق هذه نكون قد خطونا الخطوة الأولى في طريق تحقيق الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة(3).
ثانيا: صياغة الذهنية الإسلامية ثقافياً
إن النظرية التجزيئية للتاريخ الإسلامي توقع الباحثين في الكثير من الإشكالات المنهجية والعملية لأنهم بهذه النظرة التجزيئية للتاريخ إنما يجعلون أرضيتهم المعرفية عاجزة عن إدراك مختلف جوانب وأبعاد المشكلة الحضارية التي تعيشها الأمة منذ قرون تجاوزت عشرة قرون... فكيف يمكن معالجة داءٍ لا نعرف حقيقته وأسبابه الفعلية التي أدت إلى بروزه واستفحاله؟ إن وصف دواء لداء نجهل ما هو يعني في أحسن الأحوال المخاطرة بحياة المريض وهذا ما سقط فيه بعض الباحثين الذين حاولوا فهم مشكلة الأمة وبالتالي وضع الحلول النظرية لها قبل أن يفتشوا عن الأسباب التاريخية والحقيقية التي بدأت تشكل مشكلة الأمة حتى انتهت إلى ما هي عليه الآن.
وإذا ثبتت تاريخياً ومنطقياً الامتدادات التاريخية للمشكلة الحضارية القائمة في الأمة اليوم فإن هذا يعني أن الواقع الإسلامي المعاصر بمشكلته الجوهرية يحمل في داخله تداعيات أحداث تاريخية مختلفة تتالت وتراكمت حتى أصبحت جلية المعالم فيما هي عليه في شكلها الحالي.
وما الذهنية الإسلامية المعاصرة إلا مجال واسع خصب استطاعت تلك التداعيات التاريخية القريب منها والبعيد زمنياً أن يجد فيها مكاناً ملائماً لتركزها وتفاعلها حتى أصبحت في مراحل لاحقة من تركزها وتفاعلها جزءاً من نفسية وذهنية الأمة المحركة لها فكرياً وسلوكياً أمام أحداث الواقع المتحرك وتداعياته الطبيعية ولأن الصيغة العامة لتلك التراكمات يمكن لنا وصفها بأنها في جملتها ليست بالتداعيات الإيجابية فإنه ليس من المتوقع بأن مواقف الأمة اليومية من الأحداث ستكون إيجابية لأنه من الثابت بأن الأمم لا تنظر إلى واقعها والأحداث الجارية فيها إلا من خلال ما تحمل من أفكار وتصورات، وما صيغة مواقفها الفعلية إلا انعكاس لصيغة أفكارها وتصوراتها.
وهذا كله يعني أن الأمة الإسلامية المعاصرة ما لم تتجاوز ذهنية التخلف التاريخية فإنها لن تخطو حتى خطوة واحدة للأمام، أما كيف تتم عملية التجاوز وبماذا؟ هذا ما تقوم به الثقافة الرسالية الأصيلة من خلال الخطوتين التاليتين(4):
الخطوة الأولى: تحطيم الثقافات المتخلفة بجميع أنواعها وأشكالها (الجاهلية والإغريقية والأوروبية).
وهذا يعني أن نقوم بعملية مسح شاملة لمختلف الأمراض الكامنة في الأمة حتى نتعرف بدقة على أسبابها ومضاعفاتها وبالتالي الصيغة السليمة للخروج منها وهذا ما تحدده تفاصيل الخطوة الثانية.
الخطوة الثانية: الانطلاق في آفاق عملية البناء الثقافي القائمة على أسس طرح البديل الثقافي المنبعث من صميم تعاليم الرسالة وقيمها الحضارية السامية.
ولا ريب في أن هذه العملية إنما تقوم على مؤديات الخطوة الأولى المذكورة أعلاه حيث إنه بعد معرفة الأمراض والنواقص نبدأ في الخطوة الثانية بوضع العلاج المناسب من وحي التعاليم الدينية وتجارب الأمم، والذي يفسر لنا علمياً فشل بعض الجهات الإسلامية في النهوض بالأمة أنها لم تأخذ هاتين الخطوتين بعين الاعتبار حيث كانت تعتمد على الجزء السلبي دون الإيجاب في تقديم برنامج بديل متكامل وربما كان ولكنه لم يخرج إلى حيز التنفيذ(5).
والمقصود من الجزء الإيجابي في البرنامج الثقافي الذي ينبغي أن يركز في ذهنية الأمة وتصاغ على أساسه هو كيفية الحكم في المستقبل وفقاً للمقاييس الإسلامية بعد الانتصار، وقبل الانتصار ينبغي توضيح السبل العملية لنهضة الأمة وكيف تتحدى وكيف تكتب بتضحياتها النصر على جبهة تاريخها المجيد.
ثالثاً: نشر الوعي في البلاد الأجنبية
لقد تمكنت الصناعة الحديثة أن تختصر الزمان والمكان فإذا بالعالم الرحيب يصبح بواسطة وسائل الاتصال والنقل أشبه شيء بقرية صغيرة تضم مجموعة من الناس.
وإذا ما تأملنا هذه الظاهرة الواضحة وعبرنا من خلالها لمعرفة الجوانب الأعمق في عالم اليوم استطعنا أن نجد إلى جانب حالة الشعور بالغبطة والرضا لأننا قد أدركنا زمناً أصبحت فيه التقنية في أوج مراحل ازدهارها إذا ما قيست بما كانت عليه قبل قرون قلائل، وجدنا في الأعماق مخاطرة حقيقية محدقة بنا نحن أبناء الأمة الإسلامية بما نحن عليه من واقع متخلف مؤلم لا يملك القدرة المطلوبة للدفاع عن كيانه المثخن بالجراح العميقة.
أما عن تلك المخاطر فلا أظن أنه يوجد في ساحة الأمة من يختلف في وجودها وحقيقة أمرها ذلك لأن المدينة الحديثة ليست هي كما يصورها لنا البعض بأنها نتاج جهود بشرية تراكمت عبر مراحل التاريخ حتى وصلت ذروتها في الحضارة الأوروبية الحديثة وبالتالي يمكن لجميع شعوب الأرض أن تقبلها وتتعايش معها في حياة كلها أمن وسلام ورفاه.
لأن هذا التوجيه وإن قبل جدلاً لا يلغي الخصوصية الجغرافية والتاريخية والثقافية التي تنطوي عليها الحضارة الأوروبية وتمنعنا من الانفتاح المطلق على منجزاتها ومكاسبها بلا قيد ولا شرط.
إن ما يجري في عالم اليوم ليس مجرد بروز حضارة بشرية عملاقة استطاعت في زمان قصير أن تصل إلى القمر وتفجر الذرة وأن تعبر القارات وتخوض المحيطات بما توصلت إليه من وسائل علمية ومكتشفات طبيعية بالغة الأهمية.
إن هذا وإن كان بنسبة ما يشكل جانباً من الحقيقة الواقعة في العالم إلا أن الجانب الآخر من الحقيقة والأهم بالنسبة لأمتنا ووجودنا الحضاري ما تحمل هذه المدنية الحديثة من تحديات ومخاطر أثبت التاريخ المعاصر القريب مدى مصداقيتها وواقعيتها عندما قام الغرب الحديث بحملات غزو عسكري وثقافي واقتصادي تركت آثارها المدمرة على كل جانب من جوانب الواقع الإسلامي.
وما تجري من أحداث وتطورات سياسية وعسكرية في بلدان عالمنا الإسلامي أدلة واضحة الدلالة على أن الحضارة الغربية لا تزال تحمل عداء متجذراً للدين والعالم الإسلامي لأنهم وجدوا في تعاليمه ومناهجه الفاعلية الحضارية المطلقة التي لو تحركت لصنعت أمة عظيمة ستنحني لها كافة دول العالم وشعوبه لا خوفاً بل إجلالاً وتمجيداً لأنهم سيجدون الدين الإسلامي الملجأ الحقيقي لما يبحثون عنه من إيمان وسلام ومعرفة.
إذاً إنه صراع حضاري شامل لا توقفه تلك الصيحات الداعية للأمة بأن تحمل رسالة الغرب لكي تتقدم وتنهض من صميم تخلفها المرعب وبالتالي فإن إعداد الأمة وتوعيتها بالثقافة الإسلامية الأصيلة لن يكون هو السبيل الوحيد في هذه المواجهة والمعركة المصيرية لأن في معركة كهذه لن تكون وسائل الدفاع وحدها هي المجدية لإخراج الأمة وشعوبها من مخاطر المواجهة وإبعادها عن أسباب الهزيمة الماحقة.
بل ما ينبغي علينا وعيه هو أن نقوم بحملات واسعة النطاق لنشر الثقافة الإسلامية فـــي مخــتلــف بلدان العالم الإســـلامي والتركيز أثناء ذلــــك على التوعية القائمة على أسس منهجية وعلمية في الشكل والمضمون وليكن ذلك معتمداً على دعامتين(6):
الأولى: تثقيف المسلمين الموجودين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام حيث الوجود الكبير للمسلمين في البلدان الأجنبية ففي فرنسا وحدها أكثر من أربعة ملايين مسلم وفي ألمانيا أكثر من هذا الرقم وفي الصين أكثر من مائة مليون مسلم وفي أمريكا ثلاثة ملايين من المسلمين السود وفي بريطانيا ما يقارب المليون مسلم.
الثانية: إيصال صوت الإسلام إلى الكفار والمعادين للإسلام عبر الوسائل الإعلامية المتاحة وبكل اللغات وذلك لهدايتهم أو على الأقل للتخفيف من عدائهم للإسلام.
إن الصهيونية في العالم تسيطر على أكثر من ألف جريدة خارج إسرائيل وبيدها كبرى الجرائد العالمية وهذا أحد أسباب تمكنها من كسب الرأي العام الغربي بل والعالمي إلى جانبها.
وهكذا يكون تأسيس المؤسسات والمراكز الإسلامية في الدول الأجنبية ضرورة حضارية لإيصال صوت الدين الإسلامي بتعاليمه الأصيلة لمسامع الدول الأجنبية من خلال نشر وبيع وتوزيع الكتاب الإسلامي وهذا ما يحتاج إلى جهود مضنية قد تستمر عشرين سنة أو أكثر أو أقل حتى يتحقق الهدف المنشود.
رابعاً: تبديل الثقافة الجاهلية بالثقافة الإسلامية الأصيلة
إن دراسة شاملة للواقع العام الذي يعيشه المسلمون اليوم تنتهي بنا إلى نتائج تثير فينا مخاوف حقيقية على مستقبل الأمة الإسلامية إذا ما استمرت الأمور كما هي عليه الآن، حيث أن ميزان القوة بجميع مفرداتها في العالم بيد جهات ليست بإسلامية فهي تصول وتجول فـــي العالم بناءً على ما تحمل من تطلعات ومصالح حيوية ترى فيها أساس وجودها ومبرر بقائها.
ويكفي أن نأخذ الواقع الثقافي للمسلمين نموذجاً للدراسة والتأمل فإننا سنجد بأن الثقافة السائدة في الأوساط الإسلامية جميعها تتقاطع في نقطة هي أجنبية في جوهرهـــا عن المضمون الروحي والقيمــي للدين الإسلامي الذي تعتقده الأمة الإسلامية ديناً وفكراً ومنهجاً في حياتها.
وهذه النقطة هي أن الثقافة السائدة اليوم في مختلف المجتمعات الإسلامية في أغلبها لا تحمل الصفة الإسلامية لأنها لا تعدو أن تكون مزيجاً غريباً في شكله ومضمونه عن تلك الثقافة التي انبعثت من صميم تعاليم الرسالة ومنابعها الصافية فهي ليست إلا تراكمات مراحل انحدار الأمة من قمتها العليا حتى مرحلتها التاريخية اليوم.
وبالتالي فهي ثقافة غريبة ذات صبغة بشرية لم تنطلق من المصادر الأساسية للدين الإسلامي بقدر ما انطلقت من واقع المسلمين الفعلي فهي ثقافة المسلمين لا ثقافة الإسلام النابعة من مصادره وأصوله. وعلى الرغم من أن المؤثرات التاريخية في الواقع الثقافي للأمة تمتد إلى ما يزيد على ألف عام إلا أنه يعتقد بأن الأمة الإسلامية تلاقي في مجمل ما تلاقي من تحديات ثقافية أكثر خطراً وأوسع شمولاً من تلك التي عصفت بها تاريخياً بسبب العوامل المستجدة التي وجدتها الصناعة الحديثة المتطورة في الاتصال والمواصلات، حيث سهلت عملية الانتقال للأفكار والمعتقدات حتى وجدنا العالم كتاباً واحداً تضج بين جنباته الأفكار والتصورات المختلفة والمتعددة وإذا بالأمة الإسلامية، وهي تعيش غربة عن قيم رسالتها، قد تحولت لميدان واسع تصول وتجول في أدمغة أبنائها الثقافة الأوروبية ذات النوازع المادية الحادة.
وستبقى الأمة أسيرة الثقافة الأوروبية في حربها ما لم تتحرر من قيود هذا الأسر وتبدأ بتبديل هذه الثقافة الأوروبية الجاهلية والتخلص من كل مساوئها واستبدالها بتلك الثقافة الإسلامية الأصيلة التي انطلقت منها أول مرة من بين روابي مكة في صحراء الجزيرة العربية الحارقة فإذا بها خير أمة أخرجت للناس لا تنحني لتحديات الحياة كلما عصفت بها أبداً حتى تمكنوا أن يشكلوا أعرق حضارة في التاريخ لأنهم خرجوا من طوق الشهوات وسلخوا عن أنفسهم عبودية الأهواء والملذات فصاروا(7) أحراراً يعملون للعقيدة والمبدأ والإنسانية.
إن علينا أن نغير الثقافة الجاهلية لأن التغيير الثقافي يسبب تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن في المسلمين أفراداً يحملون ثقافة إسلامية وافية دون شك ولكن الكلام حول الأغلبية الساحقة منهم، هؤلاء علينا تغييرهم.
أما كيف؟ فهذا يكون بالتوعية الشاملة ونسف المفاهيم الخاطئة واستبدالها بالثقافة الإسلامية ذات المفاهيم الإنسانية والعالمية التي لا تعرف معنى الحدود الجغرافية ولا تعرف طعم الذل والمسكنة والاستسلام.
اعتمدنا في آراء سماحة الإمام الشيرازي في مسألة التوجيه الثقافي على المنهج التالي وهو أن نفهم الفكرة المعروضة وننطلق بها تفصيلاً وتوسيعاً كما كنا في آخر كل بند نقوم بدرج بعض المقاطع من كلماته وأقواله… دام ظله اعتماداً على كتابه السبيل.
اضف تعليق