اقتصاد - تنمية

الإنسان أعظم رأس مال

الاستثمار في رأس المال البشري المبدِع… هل فشلنا فيه أيضا؟

«التنمية الإنسانية هي تنمية الناس،… ومن أجل الناس، ومن قِبل الناس»

 

هذا ما أكده تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ ونحن نؤيده في ذلك، إذ نلاحظ أن تقدم الأمم يقاس تاريخياً، وخصوصاً الــــيوم، بتقدم أبنائها. فالإنسان أعظم رأس مالٍ بالنسبة لأي أمة. فقد أكدتْ جميع المؤسسات الاقتصادية والمالــــية الدولية، أن العامل الحاسم في التقدم هو الاستثمار الكثيف في البشر، أو ما يسمى بناء رأس المال البشري، أو توفير الموارد البشرية الملائمة، كمّا كافياً، ونوعاً عالياً.

وتأتي في المقام الثاني بعدها الموارد الطبيعية، مثل المياه والأرض وثمارها الظاهرة، وثرواتها الباطنة، بدليل أن جميع هذه الموارد ستكون عاطلة أو معطلة، إذا لم يتمكن الإنسان المتعلم والمتنور، بقدراته المبدعة، من استخدامها وتحويلها إلى سلعٍ وخدماتٍ ضرورية أو مفيدةٍ تساهم في عملية التنمية، أو تعمل على تسريعها في ذلك المجتمع أو غيره من المجتمعات. وبدليلٍ ثانٍ، يجب الاعتراف به، مفاده أن الأمة العربية، مثلا كانت، تملك ثرواتٍ هائلة من الموارد الطبيعية الكامنة منذ آلاف السنين، ولكنها غير مكتشفة وغير مستثمرة، أي كانت عاطلة. ثم اكتُـشِفتْ واستـثمرتْ، ليس من جانبنا، بل من جانب «الآخر»، الذي قام من خلال قدراته البشرية المتنورة والعالِمة أولاً، وبواسطة تلك الثروات النفطية للبلدان العربية الرخيصة، ثانياً، بتفجير ثورته الصناعية الثانية وثورته المعلوماتية الأولى، بدون أن يكون للعرب أي دورٍ فيها؛ بل ظلت البلدان العربية في مؤخرة بلدان العالم، على الرغم من كل ذلك، كما تقول تقارير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة. أي ظلت:

كالعيس في البيداء يقتــلها الظما
والماء فوق ظهورها محْمولُ

وبدليلٍ ثالثٍ هو أن أمما متقدمة، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايلند، التي سميت بلدان النمور الآسيوية، كان معظمها أكثر تخلفا من البلدان العربية في منتصف القرن الماضي، كما أنها تفتقر إلى معظم الثروات الطبيعية تقريبا، خصوصا مصادر الطاقة. ورغم ذلك تمكنت، بفضل الاستثمار في الرأسمال البشري، خصوصاً بواسطة استحداث قدرات جيلٍ جديدٍ من أبنائها، خضع لتعليمٍ مكثــف ومتقدم؛ تمكنت من بناء صناعةٍ عصريةٍ متقدمة، بل أصبحتْ تنافس أكبر الدول الغربية تقدماً. فسنغافورة مثلا لا تمتلك أي موارد طبيعية، ومع ذلك تشير نتائج الدراسات المقارنة إلى أنه خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود، أصبح معدل نمو الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج هي الأعلى في العالم، تليها تايلانْد ثم ماليزيا.

الإنسان يصنع الحضارة فتكافئه

من جهةٍ أخرى، في الوقت الذي يصنع الإنسان الحضارة عن طريق التـنمية، يشكل هو نفسه هدفها الأسمى، لأنها تحقق له رفاهية العيش والحياة الكريمة، وترفع بالتالي مستوى مجتمعه الحضاري بين الأمم، فتصبح له مكانة يعتد بها؛ كما حصل لليابان والهند اللتين أصبحتا مرشحتين لدخول مجلس الأمن كعضوين دائمين. كذلك تصونه من تحديات الآخر «الأكبر»، الذي يستغل الضعيف ويحترم القوي. فنحن ما نزال نعيش في عالم الغاب القديم الذي يأكل فيه القوي الضعيف، ربما أكثر من أي وقتٍ مضى؛ لأن قوة القوي تضاعفتْ ملايين المرات عن السابق، نتيجة للتقدم الاقتصادي وتطور وسائط الإعلام والاتصال وتسارع التطور الهائل في تكنولوجيا السلاح، وتقدم وسائل الإبادة الجماعية السريعة والحاسمة.

وهكذا تقوم إذن علاقة جدلية وثيقة وعميقة، متبادلة ومتشابكة، في الوطن العربي، بين هذه العناصر الثلاثة: الإنسان، التربية، التنمية، وبالتالي الحضارة والتقدم، فالقوة المادية والمعنوية، الاقتصادية والعسكرية، ولاسيما الردعية، القادرة على مواجهة بل مجابهة الآخر، المدجج، ليس فقط بأسلحة العلم والمعرفة، بل بالقوة العسكرية الماحقة، التي يهددنا بها، بل يستخدمها، بشكل مباشر، (إسرائيل مثلاً أغارت عدة مرات على عدد من البلدان العربية، وحققت أهدافها العدوانية، بدون أي مقاومة أو رادع)، أو غير مباشر (إذ كانت تلك الغارات بمثابة رسائل للبلدان العربية الأخرى، أن مصيركم سيكون مشابها، فتأدبوا!).

الوطن العربي من أكثر البلدان تخلفاً**

وخلافا لما أنجزته بلدان النمور الآسيوية، فقد حصل العكس تماما في الوطن العربي. ففي الوقت الذي تتمتع فيه الأمة العربية بالثروات الطبيعية من أراضٍ شاسعةٍ ومياهٍ وفيرةٍ في الشمال، وكنوزٍ نفطيةٍ عظيمةٍ، وموارد بشريةٍ هائلة، في مختلف أجزائها تقريبا، فشلتْ، هي نفسها، في عملية التنمية فشلا ذريعا، بدليل ما أعلنته تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي التي أثبتت أنها أصبحتْ تمثل واحدة من أكثر المناطق في العالم تخلفا، حتى مقارنة مع البلدان النامية الأخرى أو الفقيرة المحرومة من أي من الثروات الطبيعية.

لماذا حصل ذلك؟ لأننا قصّرنا في أمورٍ كثيرة، منها على سبيل المثال: لم نأخذْ بناصية العلم والتكنولوجيا منذ البداية، ولأننا لم نخلقْ قاعدة تربوية رصينة لأولادنا، وتمسكنا بقشور تراثنا وتركنا أصوله التي تدعو إلى أخذ الحكمة من أي وعاءٍ خرجت. وكل ذلك لأننا خضعنا لعقلنا المجتمعي المتخلف الذي تبلْور بوجهٍ خاص خلال الفترة المظلمة. كما خضعنا لوليده غير الشرعي: عقلنا المنفعل، الذي يمثل العقل المجتمعي المتخلف.

نعم، هناك عامل مساعد خارجي مهم آخر أدى إلى فشلنا في الأخذ بناصية العلم والمعرفة. وأقصد به قيام إسرائيل بتصفية جميع العقول التي يمكن أن تساهم في نهضة هذه الأمة. وقد استغلت إسرائيل انفراط حبل الأمن بعد سقوط بغداد عام 2003، فقامت بتصفية ما يقدر بـ720 عالما عراقيا حسب بعض التقارير، لذلك يجب على الحكومة العراقية المطالبة بدماء هؤلاء العلماء وفي جميع المحافل الدولية، بما فيها الأمم المتحدة واليونسكو، وحماية الجيل الجديد منهم وتوفير الظروف اللازمة لعملهم.

٭ باحث عراقي مقيم في نيويورك

....................................
** برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق