كل التقارير والدراسات حول مسار تقدم الشعوب النامية تشير الى نظرية الكفاف في العيش وعدم التطلع الى الإثراء في طريق التنمية الاقتصادية والنهوض بالواقع المعيشي لهم، ومثال ذلك؛ كوريا الجنوبية، وايضاً الصين...
مشاريع التنمية الاقتصادية تنطلق من افكار ومناهج علمية تحرز نضوجها في الجامعات عبر ندوات ومؤتمرات و ورش عمل، ثم تتحول الى بحوث تخصصية في مجالات التنمية لترسل مباشرة الى الجهات الحكومية على أمل التنفيذ ضمن خطط مبتكرة كما جرت التسمية بـ"الخطة الخمسية".
بيد ان واقع المجتمعات في بلادنا، منها؛ العراق، تؤكد أن الجانب العلمي ليس بمقدوره النهوض بمهمة التنمية الاقتصادية وإنعاش الاقتصاد كونها تبقى نظريات وافكار على الورق، وأي فكرة اقتصادية عليها التطابق مع ثقافة المجتمع وطريقة تعامله مع المال ومقدار توجهه الى العمل والانتاج، وربما لا يفوت الخبراء وعلماء الاقتصاد الفارق الكبير بين شعب مثابر ومحب للعمل والانتاج ثم التصدير لكسب من المزيد من العملة الصعبة، وبين شعب يركن الى حياة الترف والتبذير، ولا مانع لديه إن جاء طعامه وشرابه وملبسه ومختلف مستلزمات حياته من الخارج.
ولذا اشار علماء الدين الى الجانب الاخلاقي في افراد الشعب الطامح للتنمية والتقدم خطوات نحو اقتصاد يجعله يعيش الحياة الآمنة في حاضر وقادم الأيام، وذلك من خلال تنمية ملكات اخلاقية في النفس، أهمها؛ القناعة والكفاف في العيش، وعدم التفكير في المزيد من الإثراء والكسب المادي.
وتأتي هذه الاشارة في وقت يحذر العلماء في بحوثهم من ظاهرة الإثراء الفاحش والبحث عن المال مهما كانت السبل مما يهدد صاحبه بالانزلاق في مهاوي الانحراف نحو الطغيان والفساد وحتى التخلّي عن المتبنيات الدينية، ومن هؤلاء العلماء، آية الله السيد مرتضى الشيرازي في كتابه القيّم "ملامح النظرية الاسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة"، إذ بين من الناحية العقدية أن "الفقر بما هو هو، وفي حد ذاته أرجح ميزاناً وانه الافضل للمؤمن لو عقدت مقارنة بينه وبين الغنى، فيما الغنى مرجوح في ذاته، ولا يكون أرجح إلا لو وقع طريقاً لإغاثة الملهوف ونجدة المكروب..."، ثم يوضح اسباب الرجحان في نفس كتابه من أن الغِنى والإثراء منشأ لمعظم حالات الانحراف والفساد في المجتمع.
التقشّف الطوعي والتقشّف القسري
وفي بلد مثل العراق، يمتلك ثروات معدنية ومصادر مياه عذبة صالحة للسقي، الى جانب اراض خصبة، مع شريحة واسعة من الشباب المتوثب والمبدع، يضاف اليها الموقع الاستراتيجي وفرص اخرى عديدة، جدير بأن يقف على منصة الانطلاق نحو مشاريع تنموية كبرى تنقل العراق الى مصاف الدول النامية، بما تعنيه الكلمة من معنى حقيقي.
بيد أن المشكلة في التطبيقات العملية على الارض، عندما تتوسل الجهات التنفيذية (الحكومة) بسياسات بعيدة كل البعد منهجياً، عن الطموح والشعار المعلن، لتكون النتائج عكسية تماماً على افراد الشعب، ولذا نجد سماحة آية الله الشيرازي في كتابه المشار اليه، يختار هذا العنوان الذي استعرناه لهذه الفقرة، ويؤكد ان التقشف، وهو مصطلح اقتصادي مستحدث، يجب ان طوعياً وليس قسرياً، بمعنى أن ينطلق من ايمان الانسان بقيمة سامية مثل العدل والمساواة ذات المدخلية المباشرة في عملية التنمية الاقتصادية، لا أن تكون على شكل قرارات صادرة من مجلس الوزراء او القصر الجمهوري، بتخفيض رواتب الموظفين، او رفع الدعم عن الوقود والخبز ومسلتزمات اساسية لا تنتج إلا مزيد من التأزم المعيشي، لاسيما اذا عرفنا أن اجراءات التقشف هذه، انما هي بالحقيقة توصيات مباشرة من مؤسسات مالية عالمية مثل صندوق النقد الدولي او البنك الدولي، همّها الاساس، ليس الإقراض بهدف التنمية، بقدر ما هو ربط حياة الشعوب بالديون والتفكير بسدادها طيلة سنوات مديدة.
إن التشقف الحقيقي (الكفاف والقناعة) لن تصنعها قرارات حكومية، ولا حتى برامج وخطط علمية، انما ياتي من اجراءات يتخذها افراد المجتمع انفسهم، ففي بلد مثل العراق ثمة شريحة لا بأس بها، تحظى بدخل جيد، سواءً من هم في ميادين التجارة والاعمال الحرة، او من هم موظفون في دوائر الدولة.
يكفي أن نلقي نظرة على الاسواق التي تعرض السلع الاستهلاكية ومعارض السيارات، وأنماط مختلفة من الملابس، وايضاً انماط لبناء البيوت، كلها عبارة عن وسائل استنزاف رهيبة للعملة وللثروة العراقية، حتى يخيّل اليّ احياناً أني أرى ان التجار الاتراك –مثلاً لا حصراً- يعولون ارباحهم على الرواتب المغرية التي تقدمها الحكومة العراقية لشريحة الموظفين لديها، وما المواطن العراقي سوى وسيلة استهلاكية بين الاثنين.
بينما بامكان هذه الشريحة إغناء المؤسسات الخيرية، ليس فقط بالاموال بغية توزيعها للفقراء والمحتاجين، وإنما لتأسيس مشاريع استثمارية ضخمة يكون ريعها لهذه الشريحة المستضعفة، مع بقاء رؤوس الاموال في مكانها. وهذا يعد خطوة متقدمة، وفكرة حضارية اكثر فائدة مما يجري اليوم من توزيع المساعدات العينية والمالية، لاسيما في المناسبات الدينية، مثل شهر رمضان المبارك، او في مواليد الأئمة المعصومي، عليهم السلام، مع ما لهذه الاعمال من مردود معنوي عظيم، وآثار اجتماعية ونفسية ايجابية تشد العلاقة بين شرائح المجتمع، بيد أنها تبقى وقتية وليست ذات أثر مستقبلي، وتكون مقتصرة عن اشخاص معينين او شريحة بسيطة في المجتمع من ذوي الايادي البيضاء.
شعوب تقدمت بنظرية الكفاف
كل التقارير والدراسات حول مسار تقدم الشعوب النامية تشير الى نظرية الكفاف في العيش وعدم التطلع الى الإثراء في طريق التنمية الاقتصادية والنهوض بالواقع المعيشي لهم، ومثال ذلك؛ كوريا الجنوبية، وايضاً الصين، بل وعديد البلاد الاخرى المشابهة في المستوى الاقتصادي، فالعامل في هذه البلاد لا يطلب الأجر الكثير بقدر ما يطلب العمل الكثير، متمثلاً بالانتاج والابداع والتطوير، لذا نجد منتجات هذه البلاد تغطي مختلف حاجات بلادنا، من أبسط حاجة تتعلق بالطفل؛ مروراً بافراد الاسرة الاخرين، ووسائل المطبخ والكماليات والاجهزة الكهربائية وحتى القرطاسية والمنظفات وغيرها كثير من السلع الاستهلاكية والاساسية، ولا أدلّ على ذلك من المنتج الصيني الرخيص الذي غزا، ليس فقط العراق، وانما بلاد عديدة في العالم، وهذا بفضل تخفيض الاجور مقابل وفرة الانتاج.
في المقابل يمكن الاشارة الى تجارب حيّة وقريبة منّا، لاقت وبال أمرها لهذا السبب، مثل ايران، وهو البلد المشابه تقريباً لامكانات وفرص العراق اقتصادياً، من ثروات معدنية ومصادر مياه وقدرات بشرية وغيرها كثير، بيد ان ترفع المواطن هناك عن الأجر القليل جعله يسقط فريسة التنافس الشديد مع المنتج الصيني والنتيجة إغلاق آلاف المعامل الصغيرة والمتوسطة التي كانت فيما مضى تغذي الاسواق الايرانية بالمنتجات الاستهلاكية لاسيما الالبسة والنسيج والمستلزمات المكتبية والقرطاسية وغيرها كثير، ومن ثم أضافة ارقام جديدة على جيش العاطلين عن العمل في ايران.
الحكمة من الكفاف
لمن يراجع الآيات الكريمة التي تتحدث عن الثروات والخيرات التي وهبها الله –تعالى- للانسان، يجد الاشارة قوية الى التوزيع العادل للثروة، وانها للجميع؛ (خلق لكم ما في الارض جميعاً)، بمعنى أن ياخذ كل انسان حصته من هذه الثروات كحقّ مسلّم، وفي هذه الحالة تتحقق المساواة ويعيش الجميع في رخاء وأمان، وفي غير هذه الحالة يكون هنالك الافراط او التفريط، يقول سماحة آية الله الشيرازي في كتابه: "...فكل افراط في هذا الجانب بزيادة ثروة اشخاص عن حد الكفاف يؤدي الى تضييع حقوق أناس آخرين في الجانب الآخر، وقد صرح بذلك أمير المؤمنين، عليه السلام، في قوله: "ما جاع فقير إلا بما مُتع به غني".
في العراق كتب الكثير وبحث في الازمة الاقتصادية الخانقة وتردّي الخدمات، والاجماع على الفساد الاداري والمالي، وهو عنوان ظاهري للإثراء الفاحش بكل الوسائل، لاسيما المحرمة وغير الاخلاقية، بيد ان السبب الآخر الذي يجب معالجته في الدوافع النفسية باتجاه الاثراء والاستحواذ على المال والانفاق بلا حدود ومسرف، مع وجود شريحة واسعة من المجتمع بحاجة الى فرص عمل ومورد مالي يغطي أبسط احتياجاتهم، الامر الذي يجمد اعداد كبيرة من الايدي العاملة، لاسيما من خريجي الجامعات، وبموازاته يبقي العراق سوقاً مفتوحة للدول المصنعة بشكل وافر، مثل الصين، وبدرجة أقل؛ ايران وتركيا، وبدلاً من ان تذهب اموالنا الى مشاريع تنموية وانتاجية، فانها تذهب الى جيوب الآخرين.
اضف تعليق